بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 17 مايو 2015

المرأة اليابانية

المرأة اليابانية

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا
ترجمة: ميسرة عفيفي

 (هذه المقالة لها قصة: منذ عدة سنوات كنت في حوار مع صديقي وأستاذي، الأستاذ الدكتور إبراهيم عوض أستاذ النقد الأدبي بجامعة عين شمس، عبر المحيطات من خلال البريد الإلكتروني، وتطرق الحديث إلى المرأة اليابانية والصورة الوردية الحالمة التي يحملها العالم بشكل عام والعرب بشكل خاص عن المرأة اليابانية، فقلت له: إن الواقع يختلف كثيرا عن ذلك. فأشار عليّ وقتها بكتابة مقال عن الموضوع، وتوضيح الصورة الحقيقية للمرأة اليابانية تكون أقرب للواقع مما هي عليه الآن حيث لا زال الكثيرون متأثرون بصورة "أوشين" في المسلسل الدرامي الشهير وما ترمز له من تفاني المرأة اليابانية في مثاليّة لأسرتها. وأضاف الدكتور إبراهيم أنه من الأفضل الاستعانة بالإحصائيات والحقائق التي لا يختلف عليها أحد. فوعدته بذلك، وأنني سأحاول كتابة شيء ما بهذا الخصوص. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. فقد مرت السنوات والسنوات ولم يكن باستطاعتي تحقيق هذا الوعد حتى الآن. وعندما وجدت هذه المقالة التي عنوانها هو بالضبط نفس العنوان الذي فكرت فيه لمقالتي المزعومة، قررت ترجمتها ونشرها برا بالوعد وإن كانت لا تفي بالمطلوب ولكن مؤقتا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. تبقى إشارة وهي أن كل الهوامش هي من إعداد المترجم وتم الاعتماد بشكل أساسي على كتاب "اليابان" لمؤلفه تشارلز ماكفارلين وهو موجود على موقع أرشيف دوت أورغ، وكذلك الاعتماد على مواقع من الإنترنت وخاصة موقع ويكيبيديا باللغة اليابانية. / المترجم)




1

هذا كتابٌ في منتهى التشويق. عنوان الكتاب "Japan"[1] (اليابان)، وصدر عام 1852. مؤلفه يدعى تشارلز ماكفارلين[2]، ولم يسبق للمؤلف زيارة اليابان أبدًا، ولكنه يحمل اهتمامًا شديدًا للغاية باليابان. أو على الأقل يدَّعي هو ذلك. وفي كتاب "Japan" جمَّع المؤلف المقالات والأجزاء التي تتعلق باليابان في الكتب باللغات اللاتينية والبرتغالية والإسبانية والإيطالية والفرنسية والهولندية والألمانية والإنجليزية ... إلخ، وألف منها هذا الكتاب الضخم. وقد جمع الكتب التي صدرت في الفترة ما بين عام 1560 وعام 1850[3]، ويذكر المؤلف أنه بدأ الاهتمام الشديد بهذا الموضوع، أي بالشأن الياباني بفضل الجنرال جيمس دروموند[4]. وذكر أن دروموند هذا كان يعمل في شبابه بالتجارة والمشروعات، ورغم أن دروموند إنجليزي الأصل، إلا أنه عاش في اليابان لعدد من السنين متخفيًّا باسم هولندي[5]. وقد قابل المؤلفُ ماكفارلين الجنرالَ دروموند في مدينة برايتون وأطلعه دروموندُ على مقتنياته من الكتب والمؤلفات النادرة التي تتعلق باليابان. ولم يقتصر دروموند على إعارة تلك الكتب للمؤلف بل زاده بأحاديث عديدة ومتنوعة عن أحوال اليابان. قام المؤلف بجعل تلك الأحاديث أحد مراجعه في الانتهاء من تأليف كتابه "Japan". وأضاف المؤلف أن دروموند متزوج من حفيدة الروائي المشهور سموليت[6]، وكانت زوجته من كبار العاشقين للأدب والكتب.
وبسبب ظروف تأليف هذا الكتاب السالفة الذكر، فهو ليس دقيقًا في محتواه كالدقة التي في كتب الرحالة الذين زاروا اليابان وعرفوها بالفعل. وفي الواقع عدم الدقة يصل لدرجة أنه عند وضع الرسومات التوضيحية التي تتخلل الكتاب، اللوحات الخاصة بكوريا على أنها من اليابان. ومع ذلك، لا يمنعنا هذا نحن المعاصرون الآن من الاهتمام بهذا الكتاب. فعلى سبيل المثال، لابد من القول إن نشره جديًّا في الكتاب أن إمبراطور اليابان يملك أعدادا كبيرة من غليون التبغ وأنه يستخدم واحدة مختلفة منها كل يوم لتدخين التبغ، لهو أمر في غاية الفكاهة والظرف.
في هذا الكتاب فصلٌ يعمد إلى التعريف بالمرأة اليابانية ويقدم دراسة عنها.
وأريد هنا أن أقدم لكم تعريفًا سريعًا بهذا الفصل.
يقول المؤلف ماكفارلين:

"المكانة التي تشغلها المرأة في المجتمع، هي المقياس الحقيقي لارتفاع أو انخفاض حضارة ذلك المجتمع، ومكانة المرأة اليابانية في المجتمع أعلى بدرجات عدة منها في أية دولة شرقية أخرى. فلا تعاني المرأة اليابانية ما تعانيه المرأة في الدول الشرقية الأخرى من متاعب وحظ سيئ كالحبس في المنزل. ليس فقط تمتع بمعاملة راقية بدرجة كبيرة من المجتمع، ولكن أيضا تستطيع الاشتراك في اللهو والترفيه مع أبيها وزوجها.
بالطبع يضع اليابانيون عفة الزوجة وعذريتها مقياسًا للشرف، ولكن على الأغلب يمكننا القول إنه ما من امرأة واحدة تصبح زوجة خائنة. وذلك بسبب حقيقة أنها إذا وقعت في الخطيئة مرة، تكون الأخيرة ويكون الموت مصيرها. والحقيقة أن ذلك مطبّقٌ بدرجة عالية من الحزم والصرامة.
في اليابان، يتعلم كل أفراد المجتمع من أعلى الطبقات الاجتماعية إلى أدناها. ومن خلال المعلومات المتاحة لنا، فعدد المدارس في اليابان يفوق عدد المدارس في أية دولة أخرى من دول العالم. بل ويستطيع حتى الفقراء والفلاحون القراءة والكتابة على أقل تقدير. وبالتالي فالنساء متاح لهن التعليم مثل الرجال تمامًا. وبالتالي أيضا ففرصة التعليم مهيأة تماما للمرأة مثل الرجل. وعلى أرض الواقع يوجد عدد كبير من النساء في اليابان من بين أشهر الشعراء والمؤرخين وغيرهم من الكُتّاب والمؤلفين.
أمّا بين الأغنياء والنبلاء، فالرجل عامة لا يحافظ على العفة بدرجة المرأة. ولكن عندما تكون المرأة، أُمّا أو زوجة فهذا أضمن لها في توفير حياة شريفة وعفيفة على مدى حياتها. ويجب القول إن ذلك الأمر ليس به أدنى شك أو ريب، إنْ عرضناه على الحكايات المتنوعة التي وصلت إلينا من اليابان أو من الحقائق التي أبلغها لنا عدد كبير من الرحالة الذين زاروا اليابان.
تعتبر المرأة اليابانية العار من أكثر الأمور التي تستوجب الخجل. لدرجة أنه يصعب علينا ذكر كل الأمثلة على انتحار المرأة بسبب احتقارها أو إذلالها، ولكن تكفي الحكاية التالية لكي تبرهن على هذه الحقيقة.
سافر رجل من الوجهاء في رحلة، وأثناء غيابه وقع رجل من طبقة النبلاء في حب محظور لزوجته (أي زوجة ذلك الوجيه الغائب)، ولكن تلك الزوجة لم تقع فريسة لإغواء ذلك النبيل، ليس هذا فقط بل أنها أيضا وجهت له العديد من الإهانات لفعله ذلك. ولكن يبدو أن ذلك النبيل استخدم العنف أو ربما استخدم الحيلة والمكر في التعدي على عفة تلك المرأة. وعندما عاد زوجها استقبلته الزوجة كما هي عادتها دائما بكل حب. ولكن كان في سلوكها ذلك تمنعا لا يمكن خرقه. فاستعجب زوجها من سلوكها، وحاول استنطاقها عدة مرات عما حدث، ولكن كانت إجابتها كالتالي:
"أرجوك لا تسألني عن شيء أكثر من ذلك حتى الغد. وفي الغد أرجو منك دعوة أهلي وكل وجهاء ونبلاء المدينة، وأمامهم جميعا سأحكي كل ما حدث"
في اليوم التالي تجمع الزوار جماعات وافرادا في منزل الزوج. وكان من ضمنهم ذلك النبيل الذي ألحق العار بالزوجة. وقُدِّم الطعام والشراب للزوار في الشرفة المفتوحة التي توجد فوق سطح المنزل. وبعد أن انتهت المأدبة، وقفت زوجته، وأعلنت على الملأ ما لاقته من عار. ليس هذا فقط، بل قالت لزوجها في بحماس وعزيمة:
"لم أعد استحق أن أكون زوجة لك. أرجوك ... أتوسل إليك أن تقتلني حالا"
حاول جميع الحضور بما فيهم زوجها تهدئتها بالقول إنه ليس عليها أي ذنب وإنها كانت مجرد ضحية لذلك النبيل الآثم. فأظهرت الزوجة شكرها وامتنانها العميق لهم جميعا. ثم بعد ذلك تشبثت بكتف زوجها وبدأت في النواح والبكاء لدرجة ينخلع لها القلب. ولكن بعد أن قبّلت زوجها بغتة، وفي اللحظة التالية دفعت يد زوجها بعيدا وفي لمح البصر هرعت إلى حافة الشرفة، وألقت بنفسها من ذلك المكان العالي إلى سطح الأرض.
ولكن رغم أن الزوجة أعلنت على الملأ ما تعرضت لها من مهانة وعار، إلا أنها لم تعلن عن اسم النبيل الذي قام بذلك. ولذلك هبط النبيل الذي ألحق بها الخزي والعار درجات السلم، أثناء الهرج والمرج الذي حدث بين الحاضرين، ثم قام ببقر بطنه كمحارب عظيم بجوار جثة الزوجة المنتحرة. وطريقة بقر البطن هي الطريقة القومية للانتحار في اليابان، يقوم فيها المنتحر بقطع بطنه طولا عرضا على شكل علامة زائد"

طبقا لماكفارلين مؤلف كتاب "Japan" فهذه القصة مذكورة في كتاب ذكريات راندال[7]. وأنا شخصيا (أكوتاغاوا) لا أدري هل ثمَّة قصة شبيهة بهذه الحكاية في اليابان أم لا. ولكن عند البحث والتفكير قليلا، لا أجد أي أثر في روايات أو مسرحيات عصر توكوغاوا لشيء يشبه هذه القصة. ولكن ربما تكون حدثت في أحد أقاليم اليابان الريفية مثل كيوشو أو غيرها. ولكن إقامة مأدبة طعام في شرفة فوق سطح المنزل، وتقبيل زوجة ساموراي لزوجها على الملأ، هي أمور مضحكة ذات طابع غربي لا تمت لليابان بصلة. ولكن من السهل أن نضحك ونمرر الأمر على أنه حكاية فكاهية مسلية. ولكن لو فكرنا أن ما وصلنا في اليابان عن العالم الغربي منذ القدم به كذلك نفس الكمية من الأخطاء والأغلاط، يجعلنا ذلك نشعر بالأسى والحزن، والحقيقة أننا لا نستطيع السخرية من الغربيين فقط. لا ليس الغرب فقط، بل وحتى الصين جارتنا، مثل هذه الأخطاء موجودة بكثرة لا حد لها. أقرب مثال هو عندما نقرأ رواية "كوكوسنيا" للمؤلف مونزائمون تشيكاماتسو، أوصاف الشخصيات والأماكن نجد أنها شديدة الغرابة ولن تفرق هل هو يكتب عن الصين أم اليابان.
يعطي ماكفارلين مثالا آخر ليوضح إلى أي درجة المرأة اليابانية عظيمة.
"كان أحد أكابر قادة الساموراي اسمه تشويا، يدبر مع صديق له اسمه جوشيتسو مؤامرة ضد الإمبراطور. وكانت زوجة تشويا امرأة في غاية الجمال والذكاء معا. وبعد أن خُطِّط للمؤامرة سرا على مدى خمسين عاما، افتضحت على الملأ بسبب أخطاء وقع فيها تشويا. وعندها أصدرت الحكومة أمرا بالقبض على تشويا وجوشيتسو معا، وطبقا لظروف ذلك الوقت، كان من الضروري جدًا لدى الحكومة القبض على تشويا على الأقل حيّا بأي شكل. ولذلك كان يجب خداعه وأخذه على حين غرة. عندئذ جاء الجنود المكلفون بالقبض على تشويا إلى منزله وصاحوا بصوت عالي أمام البوابة "حريق، حريق". فهرع تشويا خارجا من البوابة ليرى أين الحريق. وهنا هجم عليه الجنود، ولكن تشويا قاتلهم بشجاعة وذبح منهم اثنين، ولكن في النهاية بسبب كثرة الجنود وقلة أعوانه أُلقِيَ القبض عليه. وفي تلك الأثناء كانت زوجته التي سمعت أصوات القتال، وأدركت أن زوجها مصيره القبض عليه، تقوم بالتخلص من كل أوراق زوجها الهامة برميها في النار. وكانت تلك الأوراق بها أسماء النبلاء والساموراي المتورطين في المؤامرة. تصرف زوجة تشويا العاقل هذا لا يزال موضع دهشة وإعجاب اليابانيين جميعا حتى اليوم. لدرجة أنه عند مدح شخص لحسن تقديره الموقف وحسن اتخاذ القرار، تستخدم كلمة: مثل زوجة تشويا"
بالطبع تشويا هذا هو تشويا ماروباشي، وجوشيتسو هو شوسيتسو يوي. وأيضا لو اتبعنا ما يقوله ماكفارلين، فهذه القصة أيضا هي كما المتوقع مذكورة في كتاب راندال "ذكريات إمبراطورية اليابان" سابق الذكر. صورة المرأة اليابانية التي يبلغها ماكفارلين مؤلف كتاب "Japan" هي في الأغلب الأعم امرأة من "المدينة الفاضلة" أو يوتوبيا وحتى في عقد ستينات القرن التاسع عشر، من المؤكد أننا لا نستطيع الوثوق أن المرأة اليابانية كانت بهذه العظمة التي تحافظ بها على عذريتها أو الزوجة كانت تحافظ على عفتها بهذه المثالية. لو سخرنا من سذاجة ماكفارلين وضحكنا فالأمر ينتهي عند هذا الحد، ولكن الحقيقة أنه عند نقل عادات وتقاليد الدول الأجنبية من السهل وقوع تلك المآسي الكوميدية. من فترة بسيطة، قامت كاتبة في إحدى الصحف بالحديث عن حياة المرأة في أمريكا، ومثلتها وكأنها حياة ملائكة تمشي على الأرض، ولكن ربما لو قرأ أحد الأمريكان تلك المقالة، بعد نصف قرن من الآن، من المؤكد أنه سيضحك ساخرا منها، مثلما نفعل الآن مع كتاب "اليابان" ومؤلفه ماكفارلين.

2

عند مقارنة كتاب السير راذرفورد ألكوك[8] "ثلاث سنوات في اليابان" بكتاب ماكفارلين، سنجد أن كتابه استطاع إيصال حقيقة اليابان إلى حدٍ ما.
الكتاب عبارة عن جزئين وصدر عن دار هارفارد للنشر في نيويورك عام 1863. وبه العديد من الرسوم التوضيحية وبه كذلك إعادة نشر للعديد من لوحات كيساي[9].
أولا مؤلف الكتاب السير راذرفورد ألكوك، لم يقم بتخيّل اليابان وهو جالس على مكتبه مثلما فعل ماكفارلين. ولكنه وكما يوضح عنوان الكتاب عاش ثلاث سنوات في اليابان.
وثانيا لم يكن السير ألكوك غير متعلم مثل ماكفارلين، بل كان له نصيب كبير جدا من التعليم وكان بصفة خاصة على علم واسع بفلسفة جون ستيوارت ميل التي كانت على انتشار واسع في أيامه. من أجل ذلك، كان يقوم بإبداء رأيه الشخصي حتى في الأحداث والوقائع التي يراها أو يسمعها في اليابان. ومن ضمن تلك الآراء ما يثير ضحكنا وسخريتنا اليوم، ولكن لا تخلو أيضا من آراء يجب علينا الاستماع لها بجدية. وهذا أمر لا نجد له أي أثرا في كتاب ماكفارلين.
كان السير ألكوك هو قنصل إنجلترا العام المقيم باليابان في نهاية عصر أسرة توكوغاوا. وفي أثناء إقامته في اليابان، تم اغتيال إيي[10] كبير موظفي الحكومة العسكرية أمام بوابة ساكورادا خارج قلعة إيدو. وقتل عدد من الأجانب الغربيين.
إذا ذكرنا ذلك بهذه الطريقة فسيبدو الأمر لا يخصه، ولكن في منطقة شيناغاوا التي كان يسكن فيها السير ألكوك، حدثت عدة حوادث اعتداء على أجانب وقُتل وجُرح عدد منهم في معبد شوزنجي البوذي. علاوة على ذلك فقد قام السير ألكوك بالعديد من الرحلات مثل تسلق جبل فوجي، ودخل العيون الساخنة في منطقة أتامي ... إلخ، وبهذا، فقد عاش في اليابان فترة انتهاء حكومة العسكريين الساموراي ذات الأحداث الوقائع الكثيرة داخليا وخارجيا، بل إنه لم يلتزم بالبقاء في مدينة إيدو فقط، بل دار ولف العديد من الأنحاء والمدن في اليابان، ولذلك ليس من سبيل الصدفة أن ينتابنا اهتمام كبير بتسجيل السير ألكوك هذا لرحلته في اليابان.
لا يحتوي كتاب رحلة اليابان للسير ألكوك على تنوع وإمتاع فني وأدبي مثل كتابات لوتي[11] أو كبلينغ[12]. فهو مثلا عندما يصف صورة لأساكوسا، فالحقيقة أنه لا يشبه أبدا ما كتبه لوتي في وصف أساكوسا الموجود في كتابه "الخريف في اليابان"، حيث تكاد أوراق شجر الجنكو الصفراء وحوائط المعبد الحمراء تظهر أمام عين القارئ. ولكن وكما ذكرت من قبل، فآرائه وتحليله للحوادث التي شاهدها أو سمعها هي في الواقع في منتهى المتعة والتشويق.
مثلا: شهد السير ألكوك في منزل بأحد الأرياف امرأة يابانية عجوز تضع لطفل إبرا صينية بها بخور، فيقول بتألم: "نهوى نحن البشر، قديما وحديثا، شرقا وغربا، إيلام أجسادنا بأنفسنا من أجل الحصول على سعادة خيالية" وأيضا أثناء عبوره لأحد الجبال، سمع فجأة صياح طائر الوقواق، نجده يقول ساخرا: "إن صوت طائر الوقواق يشبه صوت الكروان، طبقا للأساطير اليابانية فإن اليابانيين هم الذين علّموا الوقواق الموسيقى والغناء، ولكن لو كانت تلك الأسطورة حقيقة لكانت أمر يثير الدهشة والعجب. وذلك لأن اليابانيين أنفسهم لا يفقهون شيئا في الموسيقى والغناء!"
وهذه آراء لا يمكن قراءتها دون ضحك وابتسام. ولكن أثناء كتابته أحداث الفوضى التي حدثت خارج بوابة "ساكورادا"[13]، أخذ السير ألكوك ينظّر عن عبادة اليابانيين للثأر، وعن الآثار التي تركتها مسرحية "تشوشينغورا" في عقلية الجماهير، وكان هذا الجزء في غاية المتعة والإثارة، ولكن عندما أنحرفُ عن الحديث الأساسي سيصعب عليّ العودة إلى الموضوع فلذا أود أن أترك التعريف بأمثلة على ذلك إلى فرصة أخرى.
 لكن قبل ذلك ومن أجل التعريف بالمضمون الرئيس لكتاب "ثلاثة أعوام في اليابان"، إذا عرضنا بشكل سريع انطباع السير ألكوك عند دخول السفينة التي استقلها إلى ميناء ناغاساكي للمرة الأولى، فهي كالتالي:
"كان دخول السفينة إلى ميناء ناغاساكي وسط هطول الأمطار في الرابع من يونية (عام 1859). هذا الميناء تم بالفعل وصفه مرات عديدة من خلال أقلام الرحالة الذين زاروا اليابان في الماضي. ولكن، حتى ولو كان النظر وسط سماء ملبدة بالغيوم، فلم يكن المشهد يخلو من الجمال مطلقا. مع دخولنا الميناء تدريجيا تظهر الجزر جميلة أيضا مثل اللوحات المرسومة"
"عند دخول السفينة مباشرة إلى الميناء تظهر لنا مدينة ناغاساكي مترامية الأطراف على الجانب الآخر من الميناء. تقع مدينة ناغاساكي تحت سفح سلسلة جبال صغيرة. وتمتد المدينة عاليا لمسافة كبيرة داخل تلك الجبال كثيفة الأشجار. على يسار الداخل تُرى جزيرة "ديجيما"، وهي عبارة عن أرض منخفضة تأخذ شكل مروحة يدوية. ويد المروحة تتجه ناحية اليابسة، أما الجزيرة نفسها فتتجه بارزة داخل البحر. يمتد طريق وحيد طويل وواسع في ديجيما، ويصطف على جانبيه بيوت من طابقين على الطراز الأوروبي. وعلى ما تبدو فهي مدينة شديدة الصغر. (جزء محذوف بواسطة أكوتاغاوا) الانطباع الأول للميناء نفسه، أنه يشبه بدرجة كبيرة جدًا موانئ خليج النرويج، وبصفة خاصة منطقة دخول ميناء كريستيانا[14] عاصمة النرويج. رغم أن المضيق هناك أجمل بكثير من خليج ناغاساكي. تقع الجبال الصغيرة عند ميناء ناغاساكي هذا أيضا على حافة البحر مباشرة عالية في شموخ، وتنبت في تلك الجبال أشجار الصنوبر في كثافة شديدة، ولكن عند النزول من الميناء نجد أن أنواع النباتات الاستوائية أكثر بكثير من النرويج. مثل الرمان والكاكا والنخيل والخيزران إلخ. ولكن أيضا تنبت نباتات مثل الغاردينيا والكاميليا. ويوجد نبات السرخس المنتشر في كل مكان. وكذلك نباتات اللبلاب تتضافر على الجدران. ويوجد الكثير من أشجار الحسك على حواف الطريق."

الباقي على هذا المنوال. حسنا، ماذا عن آرائه عن المرأة اليابانية؟ يقول السير ألكوك:

"منذ قديم الزمان، يُمدح دائما وضع المرأة الاجتماعي وعلاقاتها مع الرجل في اليابان. ولكن على أرض الواقع هل فعلًا يستحق الوضع هذا المديح أم لا، الواقع أن ذلك أمر مشكوك فيه. وأنا (سير ألكوك)، ليس لدي أي نية إطلاقا الدخول في قضية إنْ كان الياباني منحطًا أخلاقيًّا أكثر من باقي موطني الدول الأخرى أم لا. ولكن القانون في اليابان لا يعاقب الأب الذي يبيع ابنته أو يوظفها لكي تعمل في الدعارة. ليس هذا فقط، بل أنه يُمنح ترخيصًا بذلك. بل وعلاوة على ذلك، حتى جيرانهم لا ينتقدوهم على ذلك مطلقًا. وأنا لا أؤمن بتاتا أن دولة مثل هذه بها شعور أخلاقي طبيعي أو صحي.
بالطبع أفهم أن اليابان لا يوجد بها نظام عبودية ورق. لا يوجد عبيد أو أقنان يتم بيعهم وشراءهم مثل المواشي والبهائم. (في الأصل عدم وجودهم بتاتا هو نصف الحقيقة، والسبب أن الفتاة اليابانية وكما يسمح بذلك القانون، يمكن بيعها وشرائها في نطاق عدد محدد من السنوات. وإذا نظرنا لذلك فعلى الأرجح أيضا أنه يتم بيع وشراء الفتيان والرجال كذلك) ولكن ما دام هناك نظام الاحتفاظ بالمحظيات، فمن الواضح لكل ذي عينين أن الحفاظ على قدسية النظام الأسري، هو أمر مستحيل.
وحتى هذه اللحظة لا يمكن لنا اكتشاف الأمر الذي يخفف من مخاطر وأضرار تلك الجرائم الشنيعة للشعب الياباني عامة. ولكن يمكن اعتبار أن جزءًا من عناصر تخفيف ذلك، يبدو في وجود سلطة قوية للغاية للأم تجاه أبنائها، وهو نفس الحال في الصين أيضا.
المرأة اليابانية يتم التعامل معها مثل السلعة، فتباع لرجل يتزوجها، دون النظر مطلقا إلى إرادتها، ولا إلى حقوقها بصفتها امرأة. وكذلك يعاملها الزوج أثناء حياته مثل البهائم أو العبيد.
ولكن سلطة المرأة مطلقة تجاه أبنائها كأم، ما داموا أطفالا. وربما يتم تخفيف تلك الأضرار والمخاطر من خلال احتلال الأم في اليابان منزلة أعلى من الأب. وعلى الأرجح أن إمكانية المرأة اعتلاء العرش الإمبراطوري نفسه هو أحد الأمثلة على ذلك.
فقد وصلت المرأة لعرش الإمبراطورية اليابانية فعلا مرات عديدة في الماضي القريب والبعيد. وعلى الرغم من أن وضع المرأة اليابانية هي أنها تُباع وتُشترى مثل البهائم والعبيد بشكل مؤكد، إلا أن الأمر على ما يبدو لا يخلو من نقاط تعينها على التحمل بعكس المتوقع. ولكن فيما يتعلق بهذه النقطة، لا يمكننا إصدار حكم واضح ومؤكد إذا لم يتم بحث الأمر من نواحي عدة. ويبدو كذلك أن علاقة المحبة والود بين الوالدين والأبناء قوية للغاية. على أي حال عاطفة حب الأبناء لدى اليابانيين عظيمة جدا بلا أي شك"
لقد أصاب السير ألكوك كبد الحقيقة عند حديثه عن المرأة اليابانية أكثر بكثير من ماكفارلين. ويبدو أن وضع المرأة في اليابان لم يتقدم خطوة واحدة للأمام منذ عصر إقامة السير ألكوك في اليابان أي منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن.
إنه لأمر مشكوك فيه جدا أن يكون امتداح الغربيين قبل السير ألكوك للمرأة اليابانية جاء بسبب دراستهم ومعرفتهم لوضع المرأة الاجتماعي في اليابان دراسة موضوعية ومحايدة. ولكن على العكس من ذلك المؤكد أن حكمهم هذا نتيجة لتعاملهم مع النساء اليابانيات من نوع "الراشامِن"[15]، فكنّ صادقات ومخلصات، وربما سبَّب ذلك عندهم نوعا من أنواع الشكر والعرفان الكبيرين.
في أوائل حكم أسرة توكوغاوا، عندما رُحِّل الإنجليز من ناغاساكي، كانوا يُظهرون حبا عظيما لزوجاتهم اليابانيات ويرفضون بشكل كبير الرحيل عنهن. وإذا كان الأمر كذلك فلو كان السير ألكوك له راشامن واحدة، ربما لم يكن بالضرورة وصل احتقاره للمرأة اليابانية عند هذا الحد الذي رأيناه. ولكن ربما بسبب ذلك استطاع الوصول إلى فهم قريب جدا من الحقيقة تجاه المرأة اليابانية، وعلى الأقل يجب القول إن في ذلك "سعادة كبرى" لمحبي القراءة من الأجيال التي تلت السير ألكوك.
عندما ذهبتُ [أكوتاغاوا] لزيارة ترفيهية في الصين منذ عدة أعوام، وفي مركب يبحر في أعالي نهر اليانغتسي، كان معي راكب نرويجي. كان ذلك النرويجي في قمة الغضب من انخفاض الوضع الاجتماعي للمرأة في الصين.
فعلى حد قوله، في وقت المجاعة الكبرى التي حدثت في منطقة هينان كان الصينيون يجيئون إليهم لبيع زوجاتهم قبل أن يفكروا في بيع أبقارهم. ولكن رغم ذلك فهذا الرجل النرويجي، قد جعل الزوجة الصينية وكذلك اليابانية في أعلى عليين من المديح. لدرجة أنه في الواقع حدث بينه وبين سيدة أمريكية كانت معنا على نفس المركب معارك كلامية عنيفة بسبب ذلك. نستخلص من ذلك أن الرجل أي رجل في داخله، وعلى الرغم من كل الحجج والأسباب التي يسوقها، عندما يتعامل مع المرأة باعتبارها زوجة، لو استعارنا كلام السير ألكوك: يبدو أنه لا يستطيع منع نفسه من مدح المرأة التي يكون وضعها مماثل لوضع البهائم والعبيد. والخلاصة أن الحركة النسائية لا يمكن لها النجاح بغير الاعتماد على النساء أنفسهن.

(الشهر الخامس من العام الرابع عشر من عصر تايشو [5/1925])


[1] اسم الكتاب بالكامل هو "JAPAN An Account Geographical and Historical from the Earliest Period at Which The Islands Composing This Empire were Known to Europeans, Down to The Present Time and The Expedition Fitted Out in the United States, etc." ويقال إن كتاب "اليابان" هذا كان أحد الوثائق التي اعتمد عليها الأسطول الأمريكي بقيادة ماثيو بيري عند اقتحامهم اليابان في عام 1853 لإجبارها على كسر عزلة الدولة عن العالم وفتح موانيها وأسواقها للدول الغربية وتوقيع عدة اتفاقيات ثنائية كانت الشرارة الأولى التي انطلقت منها ثورة ميجي وبدأت اليابان الدخول بقوة للعصر الحديث / المترجم (وكل الهوامش من إعداد المترجم م. ع.)
[2] Charles Macfarlane (1799 ~ 1858) كاتب أسكتلندي له عدة كتب عن الرحلات وتاريخ الدول عاش فترة طويلة من حياته في إيطاليا وتركيا.
[3] يذكر المؤلف في الكتاب الإنجليزي الأصلي أنه جمّع الكتب التي بين عامي 1560 و1838 وهذا الأوقع لأنه يفترض أنه ألف كتابه هذا قبل عام 1850.
[4] اسمه في الكتاب الأصلي James Drummond ووظيفته هي commissary general.
[5] في ذلك العصر كانت اليابان تتبع سياسة الانغلاق التام ولا تسمح لأحد بدخول اليابان أو الخروج منها إلا بناء على إذن من الحكومة العسكرية، وكانت هولندا والصين استثناء من ذلك.
[6] Tobias George Smollett (1721 ~ 1771) شاعر ومؤلف أسكتلندي شهير، برع في أدب "الصعلكة" وتأثر به العديد من مشاهير الروائيين مثل تشارلز ديكينز وجورج أورويل.
[7] اسم الكتاب Memorials of the Empire of Japon لمؤلفه توماس راندال Thomas Rundall.
[8] السير راذرفورد ألكوك Sir Rutherford Alcock (1809 ~ 1897) طبيب ودبلوماسي بريطاني شغل منصب أول قنصل عام لبريطانيا في اليابان من عام 1859 وحتى عام 1865. ألف ثلاثة كتب عن اليابان.
[9] الرسام كيساي كُواغاتا (1764 ~ 1824) يعرف أيضا باسم ماسايوشي كيتاو، من أشهر رسامي عصر إيدو في اليابان.
[10] ناوسكيه إيي (1814 ~ 1865) كان يشغل منصب كبير موظفي قلعة إيدو وهو منصب رفيع في عصر حكومة إيدو ويتم مقارنته برئيس الوزراء حاليا حيث كان هو الذي يضع سياسة الدولة في ذلك العصر وهو الذي وقع اتفاقية التعاون والتبادل التجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية التي كان سببا في ثورة وغضب عدد كبير من الساموراي وتتابعت الأحداث إلى أن تم اغتياله عام 1860 وهو في الرابع الأربعين من العمر ضمن أحداث الفوضى التي قادت إلى قيام ثورة ميجي في عام 1867 وانهيار حكم الساموراي وتسليم مقاليد الحكم للإمبراطور الشاب ميجي.
[11] بيير لوتي (1850 ~ 1923) كاتب فرنسي اسمه الأصلي لويس ماري جوليان فياو كان يعمل ضابط في الأسطول الفرنسي وزار اليابان عدة مرات وكتب عنها كثيرة في رواياته ويومياته.
[12] جوزيف روديارد كبلينغ (1865 ~ 1936) روائي وشاعر إنجليزي ولد وتربى في الهند حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1907 ليكون أصغر من حصل عليها في التاريخ، زار اليابان أكثر من مرة وترك عدد من الدراسات عن اليابان.
[13] انظر هامش رقم 10.
[14] كانت عاصمة النرويج هي مدينة كريستيانا التي أسسها الملك كريستيان الرابع عام 1624م وسميت باسمه حتى عام 1925 الذي تغير فيه اسم العاصمة إلى الاسم الحالي أوسلو عندما استقلت النرويج عن الاتحاد السويدي.
[15] كلمة تحقير تشير إلى المرأة اللعوب التي تعمل في تلبية رغبات الأجانب الجنسية.

الاثنين، 6 أبريل 2015

اليابان والسعي إلى دور عسكري


اليابان والسعي إلى دور عسكري 

تأليف: ميسرة عفيفي

 (هذه المقالة كتبتها منذ فترة طويلة وأرسلتها إلى عدة جرائد ومواقع إلكترونية لكنها لم تنُشر في أي مكان وعندما أعدت قرأتها وجدت أن الفكرة التي كانت متبلورة في ذهني لم تتضح بما فيه الكافية عندما تحولت إلى كلمات ولكن مع هذا أنشرها هنا كما هي لعل يكون بها ما يُفيد الناس)

لماذا تتجه اليابان نحو السعي إلى دور عسكري؟ ولماذا يتم - في هذا التوقيت - تغيير تفسير المادة التاسعة من الدستور، لتتيح لليابان المشاركة في عمليات عسكرية بحجة وجود أخطار عليها من دول أخرى؟ وهل فعلا هناك أخطار عسكرية تهدد اليابان بعد مرور ما يقرب من 70 عاما على تخليها عن استخدام القوة المسلحة وتخليها عن حقها في إنتاج السلاح وبيعه للغير؟ هل بعد نجاحها في العيش في سلام على مدى 70 عاما بدون التورط في أية صراعات عسكرية وحفاظها على مواطنيها من التحارب مع الغير، وعدم إطلاقها ولو رصاصة واحدة في مواجهة عسكرية، هل بعد ذلك تخاف اليابان من غزو عسكري خارجي، يلزمها بتعديل دستورها السلمي الذي ينص صراحة في مادته التاسعة بعدم امتلاك أية قوات عسكرية وبالسعي لحل أي صراع مع دولة أخرى من خلال الوسائل السلمية والتفاوض؟

هل نزاعات اليابان مع كل جيرانها المحيطين بها حول ترسيم الحدود وحق امتلاك جزر، هو سبب تغير اليابان واتجاهها نحو التخلي عن دستور نبذ العنف ووضع تفسير له يسمح لها بالمشاركة في عمليات عسكرية جماعية مع حلفاءها إذا تعرض حليف لها لعدوان عسكري؟

أرى أنه يوجد تفسير آخر ربما غاب عن البعض وربما كان غريبا للكثيرين، ولكن يستحسن إلقاء نظرة سريعة على تاريخ اليابان مع السياسة الدولية منذ بداية العصر الحديث.

تكاد اليابان تكون الدولة الأسيوية الوحيدة التي نجت من محاولات احتلالها أو استعمارها من القوى الأوروبية رغم أنها كانت من الدول التي وضعت أوروبا عليها عيونها وجاءتها حملات تبشيرية مسيحية بداية من عام 1548 كمقدمة للحملات العسكرية، كما كانت العادة وقتها، حيث جاء الراهب اليسوعي فرانشيسكو دي خافيير إلى اليابان ومكث فيها حوالي عامين استعدادا لخلق جالية مسيحية ثم التدخل بحجة حمايتها والسيطرة على البلاد والعباد وكادت تلك المحاولات أن تنجح لولا فطنة حكام اليابان في ذلك الوقت وهم طبقة الساموراي الذين تنبهوا للغرض الحقيقي من ذلك، فقام الحاكم تويوتومي هيديوشي بالتصدي لحملات التبشير للمسيحية في عام 1587 وبدأت اليابان في اضطهاد وقتل المسيحيين إلى أن تم في عام 1612 إصدار قرار من حكومة توكوغاوا بمنع المسيحية والقضاء التام عليها. وقضت بذلك اليابان على "الفتنة" واتجهت إلى سياسة غلق منابع الفتنة فقامت حكومة اليابان أو قيادة الساموراي بإصدار مرسوم في عام 1639 بالانغلاق التام والانعزال عن العالم بمنع دخول أو خروج أحد من وإلى اليابان إلا في حدود الضرورة القصوى وهي التبادل التجاري فقط لشراء المواد التي لا يمكن الحصول عليها أو الاكتفاء منها إلا من الخارج ويكون ذلك تحت الرقابة الشديدة من حكومة توكوغاوا العسكرية وقامت بتخصيص ميناء ديجيما في ناغاساكي فقط وحددت هولاندا فقط للقيام بمهمة إمداد اليابان باحتياجاتها من البضائع الخارجية وبيع البضائع اليابانية. ظلت سياسة الانغلاق هذه ما يزيد على القرنين حتى منتصف القرن التاسع عشر وبالتحديد حتى عام 1853.


في منتصف القرن التاسع عشر كانت قوة استعمارية جديدة وهي الولايات المتحدة الأمريكية قد ظهرت على الساحة العالمية باستحياء وكانت تحاول البحث لها عن نصيب في كعكة المستعمرات. ولكنها لم تجد إلا أقل القليل من الدول التي يمكنها الاستيلاء عليها واحتلالها. فاحتلت الفلبين ومجموعة جزر في المحيط الهادي. وكانت السفن التجارية في حماية الأسطول الأمريكي تقطع المحيط الهادي ذهابا وإيابا من وإلى مستعمراتها. وكانت تجد مشكلة في نفاد الوقود والماء والغذاء، فحاولت أن تتفاوض مع حكومة اليابان على فتح موانئ اليابان لسفنها من أجل التزود بما ينقصها في رحلاتها ذهابا وإيابا إلا أنها قوبلت بالرفض القاطع، فلجأت إلى استخدام القوة. في عام 1853 توجهت سفن الأسطول الأمريكي بقيادة ماثيو بيري وصوبت مدافعها على مقر حكومة إدْو معلنة عزمها على إنهاء العزلة الاختيارية لليابان وإجبارها على توقيع اتفاقية تجارية بين البلدين تسمح بدخول السفن الأمريكية لموانئ اليابان. ولأن الاتفاقية وقعت تحت تهديد السلاح وتحت إجبار فارق القوة العسكرية الهائل بين البلدين فقد كانت شروطها في غاية الإجحاف لليابان، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ولكن أصبحت تلك الاتفاقية مثلا يحتذى به فسارعت أغلب القوى الأوروبية باستغلال الفرصة وأرغمت حكومة اليابان التي بدا ضعفها واضحا للعيان على توقيع اتفاقيات مماثلة. وكان هذا الوضع المذل سببا في غضب مجموعات من شباب الساموراي الذين تربوا على العزة والكبرياء وعدم تحمل الذل وتفضيل الموت عن الحياة في مهانة. فقاموا بالثورة على حكومة توكوغاوا المترهلة التي تسبب طول حكمها وانغلاقها عن العالم في تدهور وضع اليابان وعدم مواكبتها للعصر، فأنهى هؤلاء الشباب فترة الحكم العسكري وقاموا بثورة إصلاحية وإعادة مقاليد الحكم إلى الإمبراطور الشاب الذي تولى العرش في عام 1868 باسم ميجي وهو في السادسة عشرة من العمر، واتخذوا قرارا بضرورة نقل العلم الحديث والتقنيات المتطورة من الغرب حتى لا تظل اليابان ضعيفة يتخطفها اللئام على موائدهم وحتى تستطيع تعديل نصوص الاتفاقيات المجحفة التي وقعتها اليابان تحت تهديد السلاح وتحت ميزان القوة الشاسع بينها وبين الدول الأوروبية. فقاموا بإرسال البعثات إلى الغرب لدراسة أسباب تقدم الغرب، ووضعوا سياسة واقعية محتواها بناء دولية عصرية حديثة وشعارها "جيش قوي ودولة غنية"، وللأسف وجدوا أنه لا سبيل إلى تعديل الاتفاقيات المجحفة إلا بالدخول في زمرة الدول القوية، وكان معنى ذلك في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هو التحول لدولة استعمارية بدأت اليابان التوسع في الدول المحيطة بها لتطرد القوى الاستعمارية التي أفل نجمها وتستولي على أراضٍ شاسعة من سواحل أستراليا جنوبا وحتى حدود ألاسكا وسيبيريا شمالا ومن حدود الهند غربا حتى خط التاريخ الدولي شرقا مقتسمة الصين بينها وبين بريطانيا. وبالطبع أدى ذلك إلى دخولها حروب عديدة بداية من حربها مع الصين عام 1894 ثم حربها مع الإمبراطورية الروسية عام 1904 مرورا بالحرب العالمية الأولى وانتهاءً بالحرب العالمية الثانية التي قضت على أحلام اليابان الاستعمارية تماما وصفّت كل مستعمراتها خارج اليابان بل وتم احتلالها احتلالا مباشرا لمدة سبعة سنوات (واحتلال جزر أوكيناوا لمدة ربع قرن) على يد قوات الحلفاء بقيادة الجيش الأمريكي، وتحطيم البنية التحتية والصناعية وتدمير كل مقومات الدولة وأخيرا محو مدينتين محوا تاما باستخدام قنبلتين ذريتين لأول وآخر مرة في التاريخ الإنساني حتى الآن. وخلال سنوات الاحتلال السبع تم وضع سياسات واستراتيجيات اليابان التي استمرت عليها حتى الآن ومن ضمنها الدستور السلمي الذي تنص المادة التاسعة منه على عدم امتلاك جيش وعلى التخلي عن مبدأ الحرب. ونأت اليابان بعيدا عن مسرح السياسة الدولية تماما، ورضت بموقف التابع للعم سام الذي يوفر لها الحماية تحت مظلته النووية، لتجتهد هي في بناء الدولة التي تحطمت. وتركز جهودها تلك في الناحية الاقتصادية ولتحقق اليابان نجاحا بمثابة معجزة أوصلتها لتكون ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة. وهو ما لم تستطع تحقيقه أية دولة في التاريخ البشري حتى الآن، أي تحقيق تقدم علمي وصناعي ورفاهية اقتصادية هي الثانية عالميا دون وجود قوة عسكرية. أي نعم كانت مظلة الحماية الأمريكية موجودة ولكنها بالطبع لا تقوم مقام جيش سيادي للدولة بل على العكس تحجم تلك الحماية من حرية عمل الدولة اليابانية وجعلها لا تستطيع الاقتراب من المصالح الأمريكية، حتى لو كانت المصالح الأمريكية تضرها فعليا. وأيضا وجود قوات أمريكية في أراض اليابان هي فقط تحقق عامل الردع لأية قوة تحاول احتلال اليابان، ولكن كما نرى في عالم اليوم القوة العسكرية ليست الغرض منها حماية حدود الدول فقط، يمكن القول إن القوة العسكرية أحد أهم مصادر الدخل للقوى الكبرى. فجزء كبير من دخل الدول الاقتصادية الكبرى يعتمد على إنتاج السلاح وبيعه، وحتى لو لم يتم بيعه فمجرد استخدام نسبة كبيرة من إجمالي الدخل القومي في الإنفاق العسكري لتلك الدول يجعل هناك حلول لأية أزمة اقتصادية. واليابان بعيدة تماما عن هذا المجال فميزانيتها العسكرية لا تزيد عن 1% من إجمالي الناتج القومي لها. وكذلك عدم وجود جيش رادع قوي يفقد الدولة أي قوة ناعمة لها سواء في محيطها الإقليمي أو على مستوى السياسة الدولية، وأعتقد أن هذا أحد أسباب محاولة حكومة اليابان تغيير تفسيرات الدستور وجعله يسمح بالاشتراك في أعمال عسكرية لو تعرض أحد حلفائها لعدوان. والسبب هو وصول اليابان إلى يقين أن تنمية الاقتصاد بشكل سلمي وصلت إلى أقصى حد لها، وبدأت تلك التنمية تتراجع منذ منتصف تسعينات القرن العشرين، وبدأت اليابان تعتقد بقوة أن عدم وجود قوة عسكرية تحمي مصالحها الاقتصادية وتعطي لها ثقل كبير على مستوى السياسة الدولية هو سبب تراجعها اقتصاديا أمام الصين واحتمال استمرار التراجع أمام دول أخرى مستقبلا. فالحكومة ترى أن عدم وجود قوة عسكرية تساند وتدعم القوة الاقتصادية يجعل القوة الاقتصادية تضعف تدريجيا. وعلى أرض الواقع المعاصر اليابان تعاني كسادا اقتصاديا بشكل مزمن منذ النصف الأول من تسعينات القرن العشرين ولم تستطيع أن تتخلص منه، في حين أن دولا أقل منها في الإمكانيات تنجح في تحسين الوضع الاقتصادي لو حدث له أزمة بسبب قوتها العسكرية. بل أن هناك دولا ليس لديها إلا قوتها العسكرية فقط هي التي تعتمد عليها اقتصاديا (من خلال تصنيع السلاح وبيعه). اليابان ترى أنها بإمكانيتها العلمية والتكنولوجية والصناعية لا تأخذ نصيبها المستحق من كعكة الاقتصاد العالمي بسبب ضعفها العسكري وبسبب تحجيم الدستور الحالي لإمكانية تطوير الأسلحة والمشاركة في السوق العالمية للسلاح. ولذا بعد تعديل تفسير الدستور وتخفيف القيود الصارمة التي كانت اليابان تلزم بها نفسها إزاء تصنيع وتصدير السلاح، تداولت وسائل الإعلام قيام اليابان بالتعاقد مع تركيا لتوريد شحنة أسلحة لها (يبدو أن هناك مشاكل تحول دون إتمام الصفقة).

في الحرب العالمية الأولى كانت اليابان حليفة بريطانيا وانتصرت معها في الحرب لتصبح قوى عظمى وعضو دائم في عصبة الأمم، ولكن الحكومة العسكرية التي واصلت نهجها في تقليد الغرب وتوسيع رقعة مستعمراتها اصطدمت بأمريكا وبريطانيا واضطرت للتحالف مع هتلر، ليكون مصيرها هو الدمار الكامل وفقدان كل ما بنته في عقود.

ويبدو أن حكومة اليابانية الحالية تحت قيادة شينزو آبيه أكثر أعضاء الحزب الليبرالي الديمقراطي ميلا إلى اليمين، تسير على نهج حكومات اليابان العسكرية في بداية القرن العشرين، حيث التحول إلى القوة العسكرية والاعتماد عليها لدعم الاقتصاد والتخلص من الأزمة الاقتصادية التي تحاصر اليابان. ونأمل ألا يكون مصير ذلك التوجه هو نفس مصير سابقه.

الأربعاء، 25 مارس 2015

موقف القرآن الكريم والكتاب المقدس من العلم

د. إبراهيم عوض

موقف القرآن الكريم والكتاب المقدس من العلم

١٩٨٧

بسم الله الرحمن الرحيم

الإهداء
إلى أسرتي الصغيرة التي لا أكف عن الدعاء إلى الله أن يبارك فيها : زوجتي، ويمنى "الفراشة الرقيقة"، وعلاء الدين "الأسد الصغير". جمعنا الله على الخير والسعادة في الدنيا، وفي رياض الخلد في الآخرة.


مقدمة
رشحني قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب (جامعة عين شمس) أنا والأستاذ الدكتور مصطفى الشكعة، للاشتراك في المؤتمر الدولي للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، الذي كان مقررا له أن ينعقد في أول أكتوبر الماضي (ثم تأجل إلى الثامن عشر من نفس الشهر) بإسلام أباد عاصمة باكستان، فكتبت البحث الذي بين يدي القارئ الكريم، وأرسلته إلى هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة (بمكة المكرمة) المشرفة على المؤتمر، فأحالته إلى لجنة التحكيم الخاصة بالنظر في مثل هذه البحوث فأجازته وأثنت مشكورة على ما بُذل فيه من "جهد علمي واضح" (وهذه عبارة الرسالة التي وصلتني لا عبارتي أنا، فأرجو أن يعذرني القارئ)، ودعت لي بالخير. ومع ذلك فإني للأسف لم أسافر لحضور المؤتمر، لأن تذاكر السفر التي وعدت بها لم تصلني، لتأخري في الرد على الرسالة المذكورة أعلاه، لظروف خارجة عن إرادتي، إذ كنت عند وصولها مسافرا إلى جمهورية جامبيا في غرب إفريقية، فلما عدت تسلمتها بعد فوات الأوان، وبالتالي تأخر ردي وإرسالي الملخصين المطلوبين (بالعربية والإنجليزية) عن الموعد المحدد.
وقد علمت من مقالة الأستاذ فهمي هويدي: "الإعجاز القرآني: المصالح والمفاسد!"، المنشورة بأهرام الثلاثاء ٣ / ١١ / ١٩٨٧ (ص/٧) أن عدد البحوث التي قدمت للمؤتمر قد بلغت خمسمائة بحث، وأن الذي أجيز منها هو ثمانية وسبعون بحثا فقط، فسرني هذا سرورا عوضني إلى حد كبير عن حضور المؤتمر والسفر إلى باكستان الشقيقة. والحمد لله. الذي هو أهل كل حمد.

حدائق القبة ٢٣ / ١١ / ١٩٨٧


بسم الله الرحمن الرحيم
إذا تتبعنا في كل من الكتاب المقدس والقرآن الكريم الآيات التي تتحدث عن العلم والمعرفة فسوف نجد الملاحظات الآتية:
أن كلا الكتابين يعد العلم والمعرفة هبة من عند الله سبحانه. يقول الكتاب المقدس: "وكلم الرب موسى قائلا: انظر. قد دعوت بصلئيل بن أوري بن حور من سبط يهوذا باسمه، وملأته من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة وكل صنعة ... وهأنا قد جعلت معه أهولياب بن أخيساماك من سبط دان، وفي قلب كل حكيم القلب جعلت حكمة ليصنعوا كل ما أمرتك". وفي موضع آخر نرى سليمان عليه السلام يدعو الله أن يمده بالحكمة والمعرفة: "فأعطني الآن حكمة ومعرفة لأخرج أمام هذا الشعب وأدخل". فيرد المولي جل وعلا عليه بقوله: "قد أعطيتك حكمة ومعرفة، وأعطيك غنى وأموالا وكرامة" . وها هو داود يرجو ربه أن "ذوقا صالحا ومعرفة علمني". وفي سفر "الأمثال": "لأن الرب يعطي حكمة. من فمه المعرفة والفهم" . وفي " دانيال " : "يعطي ( الله ) الحكماء حكمة ويعلم العارفين فهما " .
وفي القرآن الكريم نقرأ قوله عز من قائل : " علم الإنسان ما لم يعلم " ، وقوله سبحانه عن آدم : " وعلم آدم الأسماء كلها " ، وقوله تعالى عن يوسف : " وإنه لذو علم لما علمناه " ، وقوله سبحانه عن العبد الصالح ( في قصة موسى ) : " وعلمناه من لدنا علما " ، وقوله جل شأنه عن داود : " وعلمناه صنعة لبوس لكم " ، وقوله عن رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه : " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ، وعلمك ما لم تكن تعلم " ، وقوله عز شأنه في خطاب المؤمنين : " واتقوا الله ، ويعلمكم الله " .
فمن هذه النصوص يتبين لنا أن كلا الكتابين ينظر إلى المعرفة ، سواء كانت معرفة عقلية أو روحية أو صناعية تطبيقية ، على أنها عطية إلهية ؟ وهذا طبيعي ، فكلا الكتابين يدعو إلى الإيمان بالله سبحانه وأنه خالق كل شيء ، وإن شابت الإيمان بالله في الكتاب المقدس شوائب كثيرة تتفاوت بين السفاهة من جانب والشرك بالله من جانب آخر .
أما موقف الكتابين من المعرفة والعلم والحكمة فالكتاب المقدس يقول : "طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم . لأن تجارتها خير من تجارة الفضة ، وربحها خير من الذهب الخالص . هي أثمن من اللآليء وكل جواهرك لا تساويها" . وفي سفر "الأمثال" نقرأ أن "كون النفس بلا معرفة ليس حسنا" . وفي إشعياء : "سبي شعبي لعدم المعرفة" . وفي هوشع : "قد هلك شعبي من عدم المعرفة" .
وبالمثل يغبط القرآن الكريم من آتاه الله الحكمة ، ويعدها خيرا كثيرا : "يؤتي الحكمة من يشاء . ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" ، ولا يسوي بين العلماء والذين لا يعلمون : "قل : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ؟" . والله سبحانه يرفع المؤمنين الذين أوتوا العلم درجات عالية لا يرقى إليها غيرهم : "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" .
لكن على حين نجد أن نظرة القرآن إلى العلم مطردة على هذا النحو فإن في الكتاب المقدس آيات أخرى تناقض الآيات السابقة التي استشهدنا بها منه آنفا ، ففي سفر "الجامعة" أن معرفة الحكمة ، مثلها مثل معرفة الحماقة والجهل ، هي قبض الريح ، وأن "في كثرة الحكمة كثرة الغم . والذي يزيد علما يزيد حزنا" ، ومن هنا فإن "الدرس الكثير تعب للجسد" ، بمعنى أنه تعب لا يجدي على صاحبه شيئا، كذلك يؤكد بولس أن الله "مرجع الحكماء إلى الوراء ومجهل معرفتهم" ، وأنه قد جهل "حكمة هذا العالم"، وأنه قد "اختار ... جهال العالم ليخزي الحكماء" ، وأن "حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله" ، "وأيضا الرب يعلم أفكار الحكماء باطلة" . وعلى هذا فـ "إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلا لكي يصير حكيما" .
إن كاتب مادة Science في Dictionary of the Bible يدافع عن موقف بولس تجاه العلم كما تعكسه الآيتان ١ ، ٧ من الأصحاح الثامن من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس ( ونص كلامه هو : "وأما من جهة ما ذبح للأوثان فنعلم أن لجميعنا علما . العلم ينفخ ، ولكن المحبة تبني . فإن كان أحد يظن أنه يعرف شيئا فإنه لم يعرف شيئا بعد كما يجي أن يعرف ... ولكن ليس العلم في الجميع ، بل أناس بالضمير نحو الوثن إلى الآن يأكلون كأنه مما ذبح لوثن . فضميرهم إذ هو ضعيف يتنجس") ، فيزعم أنه لا يقصد به دراسة مخلوقات الله ( أو كما سماها هو "أعمال الله : The work of God" ) بل كان هجومه منصبا على المعرفة التي تفتخر بها الفرق المتهودة والباطنية في عصره ، على عكس المعرفة الحقيقية التي كان يشيد بها أيما إشادة . والحقيقة أن مثل هذا الدفاع لا يصمد للنظر ، فإن هجوم بولس على الحكماء وعلمهم غير مقصور ، كما رأينا ، على الآيتين السابقتين . ثم إن جميع المعارف أيا كانت إنما هي ، على نحو أو على آخر ، دراسات لمخلوقات الله . وقد كان الأحرى ببولس ، لو كان فعلا يقصد ما يقوله الكاتب المذكور ، أن يهاجم غرور العلماء فقط لا العلم نفسه والحكمة ، فإن العلم والحكمة لا يمكن أن يكونا إلا خيرا ، وخيرا كثيرا .
وليس بولس هو وحده الذي ينظر إلى المعرفة والعلم هذه النظرة ، فها هو يوحنا الرسول يقول في رسالته الأولى إن مسحة التعميد للذين لم يعاصروا المسيح كفيلة بعدم احتياج الممسوح إلى أن يعلمه أحد لأن هذه المسحة تعلمه كل شيء .
إن هذا الاضطراب في موقف الكتاب المقدس نحو العلم والمعرفة يعسر فهمه وتفسيره إلا على أساس واحد هو أنه ، على وضعه الحالي ، صناعة بشرية . ولست أوافق الدكتور موريس بوكاي على قوله إن "الأمر الذي لا جدال فيه هو أنه ليست هناك أية إدانة للعلم في أي كتاب مقدس من كتب أديان التوحيد" ، فها هي نصوص من الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى تفند هذا الادعاء ، ولعل تفسير ذلك هو أن هذا الكتاب قد خضع لكثير من الحذف والإضافة وإعادة الصياغة والنحل مما باعد بينه وبين أصله الإلهي ، وجعل من الصعب في بعض الأحيان ، ومن المستحيل في أحيان أخرى أن نقول إن الدينين اللذين يقدسه أتباعهما قد بقيا ديني توحيد.
ومع ذلك فقد بقيت في الكتاب المقدس قبسات من نور الوحي الإلهي . ولعل من هذه الأقباس الإلهية ما جاء في "الأمثال" من أن "مخافة الرب رأس الحكمة" ، وهو ما يذكرنا بقول الله سبحانه في القرآن الكريم : "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ" .
وقد يكون من هذه الأقباس أيضا ما يفهم من المثل الآتي الذي أورده لوقا في إنجليه على لسان سيدنا عيسى من أنه لا مسؤولية بدون علم ، وعلى قدر العلم تكون المسؤولية ، إذ مع العلم ينتفي العذر ويحق على المذنب العقاب . أما من لم يبلغه العلم فهو معذور : "فقال الرب : فمن هو الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيده على خدمه ليعطيهم العلوفة في حينها ؟ طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا . بالحق أقول لكم إنه يقيمه على جميع أمواله . لكن إن قال ذلك العبد في قلبه : سيدي يبطئ قدومه . فيبتدئ يضرب الغلمان والجواري ويأكل ويشرب ويسكر . يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره وفي ساعة لا يعرفها فيقطعه ويجعل نصيبه مع الخائنين . وأما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيضرب كثيرا . ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يضرب قليلا . فكل من أعطى كثيرا يطلب منه كثير ، ومن يودعونه كثيرا يطالبونه بأكثر" . وفي مثل هذا المعنى ما جاء في إنجيل يوحنا على لسان سيدنا عيسى أيضا : "قال لهم ( للفريسيين ) يسوع : لو كنتم عميانا لما كانت لكم خطية . ولكن الآن تقولون : إننا نبصر . فخطيتكم باقية" . فالعمي هنا هو عدم المعرفة ، أما الإبصار فهو العلم بالواجبات والمسؤوليات . ويشبه هذا في خطوطه العامة قول بولس في رسالته إلى العبرانيين : << فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعد ما أخذنا معرفة الحق لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا بل قبول دينونة مخيف وغيرة نار عتيدة" ، إذ مع معرفة الحق والباطل والصواب والخطإ ينتفي العذر ، وعلى هذا فلابد من العقاب ما دام الآثم قد اجترح الإثم عن اختيار .
فإذا انتقلنا إلى القرآن فإننا نجده يذم اليهود ذما شديدا لإقدامهم على تحريف الوحي مع علمهم أن هذا إثم فاحش : "كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون" ، وينذرهم قائلا : "لا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون" . كما نجده يحذر المؤمنين من الإشراك بالله بعدما علموا أن التوحيد حق : "فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون" ، ويوجه نظر الرسول عليه الصلاة والسلام على سبيل ضرب المثل إلى أنه "لئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير " و " لئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين " .
وقد فهم المرحوم الشيخ شلتوت من قوله تعالى : "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيت له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم . وساءت مصيرا" أن من لن يعلم بالحق بمعنى أنه لم يبلغه أو بلغه وعلم به ولكن على نحو محرف ، أو علم به على وجهه الصحيح ولكنه لم يستطع الاقتناع به رغم أنه لم يقصر في ذلك على مدى عمره فهذا لا يناله الوعيد الإلهي بالإصلاء في جنهم" . ومثله قول الشيخ محمد عبده إن الإسلام يجعل من النظر العقلي وسيلة الإيمان الصحيح ، حتى لقد قال قائلون من أهل السنة : "إن الذي يستقصى جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالباً غير واقف عند الظن فهو ناج" .
من هذا كله نرى أن العلم هو أساس المسؤولية ، وأنه لا مسؤولية بلا علم ، على أن يكون مفهوما طبعا أن العلم والسعي إليه هو واجب على كل مسلم ومسلمة . أما في الكتاب المقدس فإن معرفة الشريعة إنما تستمد من الكاهن ، "لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة ، ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود" . وهو فرق جد هام بين القرآن والكتاب المقدس فيما يختص بهذه المسألة .
والآن بعد أن اتضح لنا موقف كل من الكتاب المقدس والقرآن الكريم من العلم ورأينا أنه على حين يطرد تمجيد القرآن للعلم نجد أن هذا الاطراد معدوما في الكتاب المقدس ، ننتقل إلى موقف الكتابين من منهج البحث في العلوم ، إذ قد يقول قائل إن مجرد الحث على طلب العلم وتفضيله على غيره من النعم هو كلام عام ، فنحب أن نرى هل يمكن أن نعثر في كل من الكتابين على توجيهات وأفكار محددة من شأنها أن تنزل بنا من أفق التعميم إلى أرض المنهج الصلبة .
وقبل أن نبحث عن الآيات المتصلة بهذا الموضوع علينا أن نعرف معنى "التفكير العلمي" ونلم بخصائصه إلماما سريعا.
يقول د. توفيق الطويل : " ينسب التفكير العلمي إلى المشتغلين بالعلم الطبيعي . ويراد اليوم بالعلم الطبيعي كل دراسة تصطنع منهج الملاحظة الحسية ، والتجربة العلمية إن كانت ممكنة ، وتتناول الظواهر الجزئية في عالم الحس ، وتستهدف وضع قوانين لتفسيرها ، بالكشف عن العلاقات التي تربط بينها وبين غيرها من الظواهر وصياغة هذه القوانين في رموز رياضية ، وذلك للسيطرة على الطبيعة والإفادة من مواردها وتسخيرها ظواهرها لخدمة الإنسان في حياته الدنيا" .
ويفصل د. توفيق الطويل القول في خصائص التفكير العلمي ، التي يمكن تلخيصها على النحو التالي :
١ - البدء بتطهير العقل من معلوماته السابقة .
٢ - الملاحظة الحسية كمصدر وحيد للحقائق .
٣ - نزوع العلم الحديث إلى التكميم .
٤ ، ٥ - موضوعية البحث ونزاهة الباحث .
٦ - الاعتقاد في مبدأ الحتمية .
٧ - توافر الثقافة الواسعة للعلماء .
ولا يخرج عن ذلك ما قاله د. أحمد زكي من أن "العلم مؤسس على التجربة يجريها العالم ويرقم نتائجها ، وعلى الملاحظة يأتيها ، ويرصد نتائجها ، ثم هو يعمل عقله في هذه النتائج من بعد ذلك" . ويشير همايون كبير إلى أهمية الإيمان باتساق الطبيعة واطراد قوانينها والإيمان بقيمة الوحدات الفردية وأهمية ملاحظتها في مجال العلم وتطوره .
مما سبق يتبين لنا أن المنهج العلمي يقوم على الإيمان بأن العلم محيط لا ساحل له ، وأن وسائل الإنسان إلى تحصيل العلم هي حواسه وعقله ، التي ينبغي أن تكون مفتوحة ويقظة دائما للطبيعة وظواهرها من حوله كي يتسنى له استخلاص القوانين التي تحكمها بعد التثبت من كل ما يلاحظه ويستنبطه .
فأما في الكتاب المقدس فقد بحثت فيه تحت نفس العناوين التي بحثت تحتها في القرآن فلم أجد فيه ما وجدته في القرآن من آيات تتصل بمبادئ المنهج العلمي اتصالا وثيقا . وأما القرآن ففيه آيات كثيرة تبرز سعة آفاق العلم وعدم انتهائها عند حد ، كقوله تعالى : "سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون" . "والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ، ويخلق ما لا تعلمون" . "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" . "وفوق كل ذي علم عليم" . ثم هذه الآية التي يأمر فيها العليم الحكيم رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام أن "قل : رب ، زدني علما" . إن هذه هي المرة الوحيدة في القرآن التي يأمر فيها الله رسوله أن يستزيد من شيء . ولنلاحظ أن المأمور بذلك هو محمد ، الذي كان يتنزل عليه الوحي صباح مساء . وكذلك هذه الآية التي يسوي فيها القرآن بين الجهاد في سبيل الله وطلب العلم ، إذ يسمي كلا منهما "نفرا" ، والتي يحض فيها المؤمنين أن يبقى مع الرسول في المدينة ، حين لا يخرج للغزو مع الجيش ، من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين : "وما كان المؤمنون لينفروا كافة . فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون" . صحيح أن العلم هنا هو العلم الديني ، بيد أنه ينبغي ألا يفوتنا أن هذا هو المجال العلمي الوحيد الذي كان يتتابع فيه ظهور الجديد كل يوم ، وأحيانا كثيرة في مدى زمني أقصر من ذلك ، على عكس ما يسمى الآن بالعلوم التجريبية ، التي كانت معارف العرب فيها في ذلك الحين مجرد شظايا بدائية ساكنة لا يلحقها تطور أو تجديد . والعبرة على كل حال بمبدإ التخصص وتهيئة الدولة المناخ المناسب لعكوف العالم على علمه وتشجيعه بل حثه على ذلك .
كذلك ما أكثر الآيات القرآنية التي تتحدث عن نعم السمع والبصر والعقل وتمن بها على العباد بما يدل على جلالة وظيفتها : "وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" . "وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة" . "وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة . قليلا ما تشكرون" . "وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة" .
وأيضا ما أكثر الآيات التي تحض على النظر والتأمل في الملكوت ووقائع التاريخ : "فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا * متاعا لكم ولأنعامكم" . "فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب * إنه على رجعه لقادر" . "أفلم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ؟" . "أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ كانوا أشد منهم قوة" . "أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم : كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من زوج بهيج ؟" . "أفلا ينظرون إلى الإبل : كيف خلقت ؟ * وإلى السماء : كيف رفعت ؟ * وإلى الجبال كيف نصبت ؟ * وإلى الأرض : كيف سطحت ؟" . "قل : سيروا في الأرض فانظروا : كيف بدأ الخلق ؟ ثم الله ينشيء النشأة الآخرة" .
وإلى جانب هذه الآيات هناك مواضع أخرى يعنف فيها القرآن من لا يستخدمون حواسهم وعقولهم تعنيفا شديدا لدرجة أنه يهبط بهم إلى ما دون مرتبة العجماوات . قال تعالي : "لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها . أولئك كالأنعام ، بل هم أضل" . "إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون" . "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ؟ فإنها لا تعمي الأبصار ، ولكن تعمي القلوب التي في الصدور" .
والإنسان في القرآن مطالب بالتفكير قبل أن يؤمن أو يكفر ، حتى يكون إيمانه أو كفره عن بينة : "قل إنما أعظكم بواحدة : أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا" . "أو لم تتفكروا ؟ ما بصاحبهم من جنة" . "أو لم يتفكروا في أنفسهم ؟" . ومطالب كذلك بالتفكير بعد الإيمان ، إذ من صفات المؤمنين أنهم هم "الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض" .
وفي مجال التثبت نجد القرآن يحذر دائما من الوقوف عند الظن ، إذ لابد من العلم اليقيني : "وما لهم بذلك من علم . إن هم إلا يظنون" . "إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس" . "إن يتبعون إلا الظن . وإن الظن لا يغني من الحق شيئا" . بل يبلغ موقف القرآن من الظن وعدم الاعتداد به الحد الذي يدعو عنده إلى اجتناب الكثير من الظن لأن بعضه إثم ، فهو حذر الوقوع في القليل غير المتعين ينبذ الكثير: "يا أيها الذين آمنوا ، اجتنبوا كثيرا من الظن . إن بعض الظن إثم" .
ولا يقف التثبت في القرآن عند اطراح الظن ، بل لابد من البرهان : "فقلنا ( أي قال المولى سبحانه ): هاتوا برهانكم" . "إن عندكم من سلطان ( أي برهان قاطع ) بهذا" . "قل : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ؟" . "إيتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين" .
وعلى الإنسان أن يرجع فيما يجهله إلى أهل الاختصاص : "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" . "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" . ولا يصح في مجال العلم الاعتداد بالآراء المتوارثة لمجرد شيوعها وترديد الأجيال لها . ومن هنا كانت حملة القرآن شعواء على المقلدين لأسلافهم: "قالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا" . "قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا" . "وإذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباؤنا" . "قالوا : أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ؟" . "قالوا : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا" . "قالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مهتدون" . قالوا : إن وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مقتدون" .
بالنسبة للنظام الكوني وما يجري عليه من قوانين مطردة هناك هذه الأيات التي تتحدث عن السنة والتقدير والقدر والوزن والميزان ، وهي كلها ألفاظ تعني ما يعنيه مصطلح "قوانين الطبيعة" أو "القوانين الكونية" . ففي مجال التاريخ والحضارة وطباع البشر وانهيار الأمم نقرأ هذه الآيات : "وإن يعودوا (أي الكفار لكفرهم وإجرامهم) فقد مضت سنة الأولين" . "سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا. ولا تجد لسنتنا تحويلا" . "سنة الله في الذين خلوا من قبل. وكان أمر الله قدرا مقدورا" . "ولن تجد لسنتنا تبديلا" . "فلن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا" . "قد خلت من قبلكم سنن" . "يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم" .
أما الآيات التالية فهي تتحدث عن القانون في مجال الظواهر الطبيعية : "والقمر قدرناه منازل" . "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل" . "وخلق كل شيء فقدره تقديرا" . "وكل شيء عنده بمقدار" . "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه . وما ننزله إلا بقدر معلوم" . "وأنزلنا من السماء ماء بقدر" . "فجعلناه ( أي ماء الإنسان ) في قرار مكين * إلى قدر معلوم" . "وجعلنا فيها رواسي ، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون" . "والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان" .
بعد استعراض هذه الآيات ، وهي مجرد أمثلة ، يستغرب الإنسان كيف يجرؤ مؤلف Promotion de l’Islam على زعم بأن الحضارة الإسلامية هي نتاج غير طبيعي لشخصية محمد وطبيعة الإسلام ، لأن الرسول ( كما يقول ) كان أميا ، والإسلام ( في نظره ) لا يهتم إلا بالحياة الآخرة ، فكيف تكون النتيجة إذن هي هذه الحضارة الإسلامية المزدهرة التي تعلمت منها أوربا ؟ والإجابة عنده هي أن الإسلام قد ورث ثقافة الإغريق والبيزانطيين والفرس . وهو يتهم الإسلام بفقدان قوى الأصالة والإبداع التي يتطلبها قيام الحضارة ، ويؤكد أن من بين ما يحتاجه الإسلام من الغرب اقتباس المنهج التجريبي والروح التحليلية والعقلية الناقدة . ولكن سرعان ما يزول استغراب الإنسان لهذه المزاعم حين يعرف أن صاحبها رجل دين ، فرجال الدين من المستشرقين هم أسخفهم عقلا وأعماهم تعصبا وأضيقهم أفقا وأجرؤهم على الكذب إلا قليلا منهم . والسؤال هو : ترى لو أن القرآن والرسول لم يحضا على المجد والتفوق في الدنيا وطلب العلم واتباع مبادئ المنهج العلمي المؤسسة على اليقين والتثبت والتساؤل وتقليب النظر والملاحظة واستقراء القانون أكانت هذه الثقافات التي ورثها المسلمون تؤدي في أيديهم إلى شيء ؟ لقد كان هذا التراث بين أيدي الأوربيين في ذات الوقت فكيف لم يستفيدوا منه مجرد استفادة ، ولا أقول : ينتقدوه ويضيفوا إليه ويطوروه ويصبغوه بشخصيتهم وعبقريتهم كما فعل المسلمون ؟ الجواب هو أن كتابهم المقدس ، وإن مجد العلم في بعض آياته ، فإنه في آيات أخرى يحتقره وينفر منه . وهو على أية حال لا يدعو إلى التفكير واستخدام العقل والتأمل في أحوال الأمم ومظاهر الطبيعة والتثبت من كل رأي أو فكرة قبل اعتناقها ، وذلك على عكس الإسلام ، الذي يذكر مؤلف كتاب Christ et Bahá’u’llah أن من بين خصائصه التي تميزه "حرية الفكر والتوافق بين الدين والعلم" .
هذا فيما يتعلق بموقف كل من الكتاب المقدس والقرآن من العلم ومن التفكير القائم على مبادئ المنهج العلمي من ملاحظة يقظة وتفكير متثبت مدعوم بالبراهين وبعد عن الظن وتأمل في نظام الكون وسننه ومقاديره . والآن إلى النقطة الأخيرة الخاصة بما ورد في كل من الكتابين من معارف علمية : تاريخية أو طبيعية ، لنرى مدى موافقة هذه المعارف لما هو مقطوع بصحته من العلم أو مخالفته لها مخالفة لا تقبل تأويلا كائنا ما كان .
لقد أثبتت الدراسات العلمية الموضوعية أن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد مفعم بأخطاء تاريخية وحسابية وعلمية فادحة يستحيل أن يجد المؤول لها مخرجا على وجه من الوجوه . ومن هذه الدراسات ما نهض به ابن حزم بصبر ودقة عجيبين ويقظة عين وعقل قل أن يوجد لها بين الباحثين نظير ، وذلك في العشرات بعد العشرات من الصفحات ذات القطع الكبير .
ولست أنوي أن أعرض بل ولا حتى أن أشير مجرد إشارة إلى كل ما درسه ابن حزم من أخطاء فاحشة يعج بها الكتاب المقدس ، فكتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" ، الذي يتضمن هذه الدراسة مطبوع في الأسواق ، ويستطيع القارئ أن يرجع إليه بنفسه ، وأنا ضمين له بأنه سيجد فيه ألوانا رفيعة من الفوائد العلمية والمتع العقلية . ولكني سأجتزئ ببعض أمثلة أرجو أن تغري القارئ بقراءة الأصل كله .
قال ابن حزم : "وبعد ذلك قال : ونهر يخرج من عدن فيسقي الجنان . ومن ثم يفترق فيصير أربعة أرؤس . اسم أحدها النيل ، وهو محيط بجميع بلاد زويلة الذي به الذهب . وذهب ذلك البلد جيد . وبها اللؤلؤ وحجارة البلور . واسم الثاني جيحان ، وهو محيط بجميع بلاد الحبشة . واسم الثالث الدجلة ، وهو السائر شرق الموصل . واسم الرابع الفرات . وأخذ الله آدم ووضعه في جنات عدن" . ولا أظنني بحاجة إلى أورد تفنيد ابن جزم لهذا الكلام ، فسخفه ظاهر لكل ذي عينين . وقال ابن حزم في موضع آخر : "وبعد ذلك قال : وأولاد يعقوب اثنا عشر . فأولاد ليئة : رؤابين بكر يعقوب وشمعون ولاوي ويهوذا ويساخر وزبولون . وأبناء راحيل : يوسف وبنامين . وابنا بلهة : راحيل دان ونفثالي . وابنا زلفة أمة ليئة : جادا وأشير . هؤلاء بنو يعقوب الذين ولودوا له بفدان أرام . قال أبو محمد ( أي ابن حزم ) : هذا كذب ظاهر ، لأنه ذكر قبل أن بنيامين لم يولد ليعقوب إلا بأقراشا بقرب بيت لحم على أربعة أميال من بيت المقدس بعد رحليه من فدان أرام بدهر . والله تعالي لا يتعمد الكذب ولا ينسى هذا النسيان" . ويقول ابن جزم أيضا : "وفي الباب المذكور أن المسيح قال لهم : أتاكم يحيى وهو لا يأكل ولا يشرب ، فقلتم : هو مجنون . ثم أتاكم ابن الإنسان ( يقصد نفسه ) يأكل ويشرب ، فقلتم : هذا صاحب خوان شروب للخمر خليع صديق للمستخرجين والمذنبين . قال أبو محمد : في هذا الفصل كذب ... فإنه قال هاهنا إن يحيى كان لا يأكل ولا يشرب حتى قيل فيه إنه مجنون من أجل ذلك . وفي الباب الأول من إنجيل مارقش أن يحيى بن زكريا هذا كان طعامه الجراد والعسل الصحراوي . وهذا تناقض ، وأحد الخبرين كذب بلا شك" . "وفي الباب السابع والعشرين من إنجيل متى أنه صلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره . وكانا يشتمانه ويتناولانه محركين رؤوسهما ، ويقولان : يا من يهدم البيت ويبنيه في ثلاث ، سلم نفسك . إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب . وفي الباب الخامس عشر من إنجيل مارقش أنه صلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله . واللذان صلبا معه كانا يستعجزانه . وفي الباب الموفي عشرين من إنجيل لوقا ( هو في الأصحاح الثالث والعشرين في الإنجيل الذي في أيدينا الآن ) : وكان أحد اللصين المصلوبين معه يسبه ويقول : إن كنت أنت المسيح فسلم نفسك وسلمنا . فأجابه الآخر وكشر عليه وقال : أما تخاف الله وأنت في آخر عمرك وفي هذه العقوبة ؟ أما نحن فكوفئنا بما استوجبنا ، وهذا لا ذنب له . ثم قال ليسوع : يا سيدي ، اذكرني إذا نلت ملكوتك . فقال له يسوع : آمين . أقول لك اليوم تكون معي في الجنة" . قال أبو محمد : إحدى القضيتين كذب بلا شك ، لأن متى ومارقش أخبرا بأن اللصين جميعا كانا يسبانه . ولوقا يخبر بأن أحدهما كان يسبه والأخر كان ينكر على الذي يسبه ، ويؤمن به . والصادق لا يكذب في مثل هذا . وليس يمكن هاهنا أن يدعى أن أحد اللصين سبه في وقت وآمن به في آخر ، لأن سياق خبر لوقا يمنع من ذلك ويخبر أنه أنكر على صاحبه سبه من لم يساعده قط على ذلك . وكلهم متفق على أن كلان اللصين وهم ثلاثتهم مصلوبون على الخشب ، فوجب ضرورة أن لوقا كذب أو كذب من أخبره ، أو أن متى كذب وكذب مارقش أو الذي أخبره ولابد" .
ولا يظن ظان أن المسلمين وحدهم هم الذين يرون في الكتاب المقدس هذا الرأي فإن العلماء الغربيين يقولونه ، بل يشاركهم فيه كثير من رجال الدين . فكاتب مادة Christianity في دائرة المعارف البريطانية يؤكد أن منطق النصرانية وفلسفتها ومعارفها العلمية هي نتاج ينتمي إلى عصور تاريخية مضت ، وأن ذلك كان خطوة في طريق التطور العلمي ، وأن الزعم بأنه يمثل الحقيقة المطلقة هو زعم لا يساوي عناء الرد عليه .
وفي أحد تفاسير الكتاب المقدس ( وعنوانه A New Commentary on Holy Scripture, Including the Apocrypha ) أن سفر "التكوين" لا يشتمل على المعلومات الصحيحة الخاصة بالبدايات الحقيقية للأرض نفسها أو تلك الخاصة بالإنسان والحضارة الإنسانية عليها . ومثال ذلك أن بدايات العالم والبشرية ترجع إلى زمن أبعد من التاريخ الذي ورد في سفر "التكوين" بمدى لا يمكن قياسه ، وأن ترتيب ظهور المخلوقات على مسرح الوجود كما هو مذكور في الأصحاح الأول من سفر "التكوين" لا يتفق مع الحقائق الجيولوجية . بل إن هذا التفسير يضع سفر "التكوين" في مرتبة أدنى من الوثائق البابلية والمصرية القديمة التي تتضمن نفس الأحداث والشخصيات التاريخية .
وفي تفسير آخر للكتاب المقدس William Neil’s One Volume Bible Commentary أن مقاسات الفلك الذي صنعه نوح ، كما وردت في الكتاب المقدس ، وسعته من الداخل لا تتناسب أبدا مع الأعداد الغفيرة والمتنوعة لركابه ، الذين كان عليهم أن يعيشوا فيه ويأكلوا ، وأننا لو أخذنا ما جاء في سفر " التكوين " عن الفيضان على حرفيته لكان علينا أن نصدق أن هذا الفيضان قد غمر وجه البسيطة كلها بعمق خمسة أمتار ، وهو ما لا علاقة له بالتاريخ البتة . ويرجع التفسير المذكورذلك إلى أنه لم تصلنا أية سجلات مكتوبة لتاريخ بني إسرائيل إلا بعد إبراهيم بألف عام ، وأن ما هو مكتوب في سفر "التكوين" إنما كتب بعد ذلك بعدة قرون ، ولذلك لا ينبغي أن نتوقع الدقة التاريخية بمعناها الحالي في هذه الأصحاحات لا في الأحداث ولا في الحوار . كذلك يذكر أن الصيغة الحالية للعهد القديم لا ترجع إلى أبعد من ثلاثمائة سنة قبل عيسى على أبكر تقدير ، أي بعد تسعة قرون من حدوث من حدوث الوقائع التي يحكيها سفر "العدد" . وهو ما يقوله تقريبا التفسير الذي سلفت الإشارة إليه ، إذ يؤكد أنه لا يوجد حاليا أي عالم له أي حظ من الشهرة يعتقد أن التوراة ، على ما هي عليه الآن ، قد كتبها موسى .
أما إدوارد كلد فإنه يشير في كتابه Childhood of Religions إلى أنه حتى في ترجمة الكتاب المقدس إلى الإنجليزية توجد أخطاء بعضها متعمد ، وبعض هذه كانت بأمر الملك نفسه ، وأن هذه الأخطاء يجري تصحيحها من قبل العلماء الأثبات ، وأن هناك إضافات ( بالحروف المائلة ) في الترجمة لم تكن في الأصل ، وأن هذه الإضافات تجعل المعنى في بعض الأحيان غامضا .
وبعد فهذه مجرد أمثلة سريعة . ويمكن للقارئ الذي يريد الاستزادة أن يرجع بنفسه إلى الكتب المذكورة هنا وما أشارت إليه من مراجع ، وكذلك إلى الكتاب القيم الذي ألفه د. موريس بوكاي ونشرته دار المعارف مترجما إلى العربية بعنوان " القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم – دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف العلمية الحديثة " .
والآن يثور السؤال الآتي : ماذا كان رد الفعل لدى المؤمنين بالكتاب المقدس بعد تعرية ما يتضمنه من أخطاء تاريخية وعلمية فادحة ؟ إن عقيدة الكتاب المقدس تقوم على أن الوحي هو كلام الله لفظا ومعنى . ولكن المحدثين أصبحوا يعترفون بدور لكاتب الوحي في عملية التدوين . إنهم يفرقون بين الوحي من ناحية الشكل وبينه من ناحية المضمون . فمن الناحية الأولي يرون أنه خلق أدبي للكاتب . ومن الناحية الثانية يقولون إنه صادر عن الله . إن الوحي ، في نظرهم ، لا يلغي شخصية الكاتب ، بل إن ظروفه تتدخل في الصياغة ، ويمكن أن يقع تحريف في النص ، ومن ثم فلابد ، كما يقولون ، من عملية النقد والتمحيص . وهو نفس ما قاله من قبل معجم Hook’s Church Dictionary الذي يرى أن الأنبياء وكتبة الكتاب المقدس قد أدوا ما تلقوه من الوحي كما هو بدون أدنى خطإ (من الناحية اللاهوتية)، ولكن هذا لا يصدق على الأخطاء النحوية والعلمية .
إذن فقد تم الاعتراف بما في الكتاب المقدس من أخطاء تاريخية وعلمية ، بيد أن المؤمنين به ، كما رأينا ، لا يسلمون بسهولة ، إذ اخترعوا نظرية لتسويغ استمرار إيمانهم به رغم هذه الأخطاء . وهذه النظرية تتلخص في أن ما فيه من أفكار ومعتقدات لاهوتية ومبادئ أخلاقية مصدره الله ، أما المعلومات العلمية فهي بشرية تفسرها ثقافة كاتب الوحي ومزاجه ودرجة التقدم العلمي في عصره . والقائلون بهذا يرددون أن خلاص البشر لا يتوقف على دقة المعلومات التاريخية والعلمية ، فهذه المعلومات نتاج بشري ، وهي تخضع لسنة التطور ، وأنه لا يمكن من ثمة مطالبة كاتب الوحي بسبق زمانه ، وأن الكتاب المقدس ليس كتابا مدرسيا ، أي أن وظيفته ليست تقديم معلومات علمية دقيقة .
لقد تحطمت النظرية القديمة حول عصمة الكتاب المقدس إذن على أيدي البحوث العلمية والتاريخية . والحق أنه لولا أننا مقيدون بعنوان هذا البحث لبينا كيف أن الجانب اللاهوتي والأخلاقي هو أيضا لم يسلم من الأخطاء والتحريفات . وصدق الله العظيم ، الذي يقول في قرآنه في أهل الكتاب : "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون : هذا من عند الله ، ليشتروا به ثمنا قليلا . فويل لهم من كتبت ايديهم ، وويل لهم مما يكسبون" .
ومع ذلك فإن النظرية الجديدة لا تحل المشكلة ، بل تعكس تهربا من الحقيقة الساطعة ، حقيقة أن الكتاب المقدس ، كما هو الآن ، ليس وحيا إلهيا ، وأن لم يخل كما سبق القول من قبسات من النور الإلهي . لقد نسي أصحاب هذه النظرية أن صياغة الوحي الإلهي في عبارات تتضمن معلومات علمية خاطئة لابد أن يكون لها تأثير ضار على هذا الوحي ، إذ يفقده قداسته . وإن الإنسان ليتساءل : لماذا ترك الله سبحانه المضمون العقيدي والأخلاقي يكتسي ثوبا لا يليق به ، ثوبا مهلهلا على النحو الذي رأينا ؟ كيف لم يوح سبحانه المضمون والشكل دفعة واحدة ؟ لقد قيل في تسويغ هذا إن الله سبحانه لا يتكلم بأصوات وكلمات ، ولذا فهو قد اكتفى بالإيحاء بالفكرة . ولكن قائلي هذا قد نسوا أيضا أن الله سبحانه لا يفكر كما نفكر ، فكيف يقال إنه أوحى بالفكرة ولم يوح باللفظ ما دام الأمر في الحالين واحدا ؟ أو على الأقل لم كان لابد أن يصوغ متلقي الوحي المضمون الإلهي في عبارات تتضمن معلومات خاطئة ؟ ولم لم يجنبه الله الأخطاء التي وقع فيها ؟ وهذا طبعا إن سلمنا بصحة المضمون العقيدي والأخلاقي ، وهو ما لا نسلم به .
والآن جاء دور القرآن . ولست أنوي أن أناقش كل الآيات المتعلقة بالعلم في القرآن المجيد ، فما أكثر الكتب التي قامت بهذه المهمة ، وإن غالى بعضها في الربط بين حقائق العلم الحديث ونظرياته وبين بعض الآيات التي يصعب على الدارس الموضوعي أن يرى فيها شيئا قاطعا أو على الأقل واضحا يربطها بالحقائق العلمية الثابتة ، دعك من أولئك الذين يرون في بعض الآيات أشياء لا وجود لها ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وإنما سأكتفي بإيراد عدد من الآيات التي بهذا الشكل ، وسأقف عند بعضها مستأنيا بعض الشيء . اقرأ مثلا هذه الآيات الكريمة ، وراجع بنفسك تفسيرها في ضوء العلم الحديث : "ويسألونك عن المحيض . قل : هو أذى . فاعتزلوا النساء في المحيض ، ولا تقربوهن حتى يطهرن ... " . "وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ، حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت ، فأنزلنا به الماء ، فأخرجنا به من كل الثمرات" . "وينزل من السماء من جبال فيها من برد" . "وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين" . "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين . ثم جعلناه في قرار مكين . ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة ، فخلقنا المضغة عظاما ، فكسونا العظام لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين" . "وجعلنا من الماء كل شيء حي... " . "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث" . "والشمس تجري لمستقر لها . ذلك تقدير العزيز العليم . والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم . لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار . وكل في فلك يسبحون" . "فلينظر الإنسان مم خلق . خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب" .
ولنعد مرة ثانية إلى الدكتور بوكاي ، الذي يقول : "ومن الثابت فعلا أنه في فترة تنزيل القرآن ... كانت المعارف العلمية في مرحلة ركود منذ قرون ، كما أن عصر الحضارة الإسلامية النشط مع الازدهار العلمي الذي واكبها كان لاحقا لنهاية تنزيل القرآن . إن الجهل وحده بهذه المعطيات الدينية والدينوية هو الذي يسمح بتقديم الاقتراح الغريب الذي سمعت بعضهم يصوغونه أحيانا ، والذي يقول إنه إذا كان القرآن فيه دعاوى ذات صفة علمية مثيرة للدهشة فسبب هو تقدم العلماء العرب على عصرهم ، وإن محمدا بالتالي قد استلهم دراساتهم . إن من يعرف، ولو يسيرا ، تاريخ الإسلام ، ويعرف أيضا أن عصر الازدهار الثقافي والعلمي في العالم العربي في القرون الوسطى لاحق لمحمد ، لن يسمح لنفسه بإقامة مثل هذه الدعاوى الوهمية . فلا محل لأفكار من هذا النوع ، وخاصة أن معظم الأمور العلمية الموحى بها أو المصوغة بشكل بين تماما في القرآن لم تتلق التأييد إلا في العصر الحديث . من هنا ندرك كيف أم مفسري القرآن ( بما في ذلك مفسرو عصر الحضارة الإسلامية العظيم ) ، قد أخطأوا حتما وطيلة قرون ، في تفسير بعض الآيات التي لم يكن باستطاعتهم أن يفطنوا إلى معناها الدقيق" .
وهنا نصل إلى الآيات التي ذكرت آنفا أنني أحب أن أستأنى عندها قليلا ، فقد وجدت في التفاسير القديمة ما يؤكد هذا الذي يقوله الدكتور بوكاي ، ففي تفسير قوله تعالي : "وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون . ثم كلي من كل الثمرات ، فاسلكي سبل ربك ذللا ، يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس ... " ، إذ يقول الشريف الرضي : " والعسل عند المحققين من العلماء غير خارج من بطون النحل ، وإنما تنقله بأفواهها من مساقطه ومواقعه من أوراق الأشجار وأضغاث النبات ، لأنه يسقط كسقوط الندى في أماكن مخصوصة وعلى أوصاف معلومة . والنحل تتبع تلك المساقط ، وتعهد تلك المواقع فتنقل العسل بأفواهها إلى كوراتها ، والمواضع المعدة لها ، فقال سبحانه : "يخرج من بطونها" والمراد "من جهة بطونها" ، وجهة بطونها أفواهها . وهذا من غوامض هذا البيان وشرائف هذا الكلام" . فانظر كيف أن العلماء المحققين حتى عصر الشريف الرضي ( القرن الخامس الهجري ) يقررون أن العسل لا يخرج من بطون النحل ، ومن ثم عد هو قوله تعالى : "يخرج من بطونها شراب ..." مجازا من مجازات القرآن ، التي أدار عليها كتابه الذي اقتبسنا منه النص السابق . والصواب هو ما قاله القرآن من أن العسل يخرج فعلا من بطون النحل ، التي تجمع الرحيق ، ويتحول في معدتها إلى عسل تقوم بإفرازه بعد ذلك .
وفي خطأ مشابه يقع الإمام الباقلاني، إذ يعد قوله تعالى: "والله خلق كل دابة من ماء... " نوعا من التعميم في التعبير ، فقد ظن أن القرآن ، حينما قال إن كل الدواب مخلوقة من ماء ، لم يقصد أن القرآن أنها كلها كذلك بل بعضها فقط ، ولكنه عمم القول . فماذا يقول علماء العصر الحديث ، الذين قتلوا هذا المسألة بحثا ؟ " الثابت بالتحديد أن أصل الحياة مائي ، وأن الماء هو العنصر الأول المكون لكل خلية حية ، فلا حياة ممكنة بلا ماء . وإذا ما نوقشت إمكانية الحياة على كوكب ما فإن أول سؤال يطرح هو : أيحتوي هذا الكوكب على كمية من الماء للحياة عليه ؟" والطريف أن الباقلاني قال قوله ذاك دفاعا عما ظنه الملحدون في عصره مطعنا في القرآن الكريم . وهذا نص كلامه : " وأما قوله عز وجل: "والله خلق كل دابة من ماء ..." قال الملحدون : وفي هذه الآية إحالة من وجوه ، أحدها أنه خلق كل دابة من ماء وليس الأمر كذلك ، لأن منها ما يخلق من بيض وتراب ونطف ... والجواب أن قوله "كل" لا يقتضي استغراق الجنس ، بل هو صالح للتعميم والتخصيص . ولو ثبت العموم لجاز تخصيصه إذا علمنا أن من الدواب ما لم يخلق من ماء . على أن من الناس من يقول : أصل الأشياء كلها أربع : الماء والهواء والنار والأرض ، وكل دابة مركبة من بلة ورطوبة" . والآياتان السابقتان وتعليق الشريف الرضي والباقلاني عليهما لا يحتاجان إلى تعقيب ، اللهم إلا القول بأن هذين العالمين قد أتيا بعد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بعدة قرون أحرز المسلمون أثناءها تقدما علميا كبيرا جدا بالقياس إلى معارف العرب بل والعالم كله في عصر الرسول ، ومع ذلك فالقرآن على صواب وهذان العالمان ، وهما يعكسان معارف عصريهما ، هما المخطئان .
ويمكن أن نلحق بهاتين الآيتين قوله تعالى : "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ... " ، فقد فسر البيضاوي ، وهو متأخر نسبيا (عاش في القرن الثامن الهجري) ، عبارة "كأنما يصعد في السماء" على النحو التالي : "شبهه (أي شبه الله من يريد أن يضله) ، مبالغة في ضيق صدره ، بمن يزاول ما لا يقدر عليه ، فإن صعود السماء ، مثل فيما يبعد عن الاستطاعة . ونبه على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع الصعود . وقيل : معناه : كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق وتباعدا في الهرب منه" . أما تفسير الآية في ضوء مكتشفات العلم التجريبي فهو أن الذي يضله الله يشعر بنفس ضيق الصدر الذي يحسه الصاعد في طبقات الجو العليا حيث الهواء مخلخل فلا تجد الرئتان كفايتهما من الهواء والأكسجين . وأنا ، وإن لم أكن متخصصا في أي فرع من العلوم الطبيعية ، يصعب على أن أوافق الدكتور موريس بوكاي ، الذي يؤكد أن هذه الآية تعبر عن فكرة عادية تماما ، والذي يخالف من يقولون إن فكرة ضيق التنفس كانت مجهولة عند العرب في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام ، لأن وجود مرتفعات عالية تربو على ٣٥٠٠ متر في شبه الجزيرة العربية يجعل من غير المنطقي ، في رأيه ، القول بجهل صعوبة التنفس الناشئة عن الارتفاع . وتنهض مخالفتي للدكتور بوكاي على أساس أن الآية تتحدث عن "التصعد في السماء" وهو ما لم يكن متاحا لأي إنسان في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام (بغض النظر عن حادث المعراج) ولا فيما بعده ببضعة عشر قرنا ، لا "التصعيد في الجبال" كما يفيد كلامه . كذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام ، كما نعرف من سيرته الشريفة ، لم يصعد غير جبلي حراء وثور ، أولهما في فترة التحنث السابقة على البعثة ، والثاني في طريقه هو وأبي بكر إلى يثرب . ولم ترد في السيرة أية إشارة ، ولو من بعيد ، إلى أي أثر لهذا الصعود على جهازه التنفسي عليه الصلاة والسلام . بل إني لا أذكر أن أحدا من كتاب السيرة في العصر الحديث ممن صعد هذين الجبلين قد ألمح إلى مثل هذا الأثر ، على رغم حرصهم الشديد على تسجيل كل ما يعتريهم أثناء ذلك من تأثرات عضوية أو نفسية . ولم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد زار صنعاء ، التي يشير إليها الدكتور بوكاي . بل إني أستبعد أن يكون سكان مثل هذه المدن العالية في ذاك العصر ، حتى لو كانوا أحسوا بشيء من هذا ، قد تنبهوا إلى السبب الحقيقي لذلك . وأحب أن أكرر القول ، كيلا ننسى ، أن القرآن يتحدث عن "التصعد في السماء" لا "التصعيد في الجبال" . ثم ها هي كتب التفسير القديمة ، لا تجدها حين تبلغ هذه الآية إلا تقول إن المقصود هو أن الكافر الذي أغلق قلبه يستحيل عليه الإيمان كما يستحيل على بشر أن يصعد في السماء ، وهو ما يدل دلالة قاطعة على أن فكرة ضيق التنفس المشار إليها كانت مجهولة لدى هؤلاء المفسرين ، الذين كانوا بلا شك يعيشون في ظل حضارة متقدمة أعظم التقدم بالقياس إلى الحياة البدائية التي كان يحياها عرب الجاهلية وعصر المبعث.
وثمة آية أخرى أراني ، رغم عدم تخصصي كما سلف القول في أي من العلوم الطبيعية ، مضطرا إلى أن أخالف ، في تفسيرها ، الدكتور بوكاي ، الذي يكرر كلام المفسرين القدامى . وهذه الآية هي : "وهو الذي مرج البحرين : هذا عذب فرات ، وهذا ملح أجاج ، وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا" . وفي تفسيرها يقول د.بوكاي : "معروفة تلك الظاهرة التي كثيرا ما تشاهد عن عدم الاختلاط الفوري لمياه البحر المالحة بالمياه العذبة للأنهار الكبيرة . ويرى البعض أن القرآن يشير إليها لعلاقتها بمصب نهري دجلة والفرات ، اللذين يشكلان بالتقائهما بحرا ، إذا جاز القول ، طوله أكثر من ١٥٠كم ، هو شط العرب . وفي الخليج ينتج تأثير المد ظاهرة طيبة هي انحسار الماء العذب إلى داخل الأراضي ، وذلك يضمن ريا طيبا" . والحقيقة أن هذا التفسير غير مقنع : فمن الناحية اللغوية يصعب علي أن أوافق العالم الفرنسي ومفسرينا القدامى على أن أداة التعريف في "البحرين" هنا هي للعهد ، الذي قيل على أساسه إن "البحرين" المذكورين هما دجلة والفرات . إن الآيات السابقة تتحدث عن الظل (الظلام) والرياح والماء والأنعام والأناسي ، وهي مفاهيم عامة لا تشير إلى ظلام بعينه ولا رياح بعينها ولا ماء معين ولا أنعام ولا أناسي مخصوصة ، فلم يقال إذن إن "البحرين" هنا هما بحران معينان (دجلة والفرات) ؟ إن السياق الذي وردت فيه هذه الكلمة هو سياق عام ، ومن ثم فإن بلاغة الكلام تقتضي أن يكون "البحران" أيضا هما "النهر والبحر" بإطلاق ، أي أن (ال) فيهما هي (ال) الجنس لا العهد . فهذا من ناحية اللغة والبلاغة ، فضلا عن ذلك فإن ماء النهر ، مهما توغل بقوة اندفاعه إلى مدى بعيد في داخل البحر أو المحيط ، يختلط في النهاية بمائهما ، ومن ثمة فإن ظاهر الأمر أن النهر يبغي في البداية على البحر ( عندما شق ماءه الملح وأزاحه عن طريقه) ليعود البحر فيبغي في النهاية عليه ( عندما اختلط ماؤه العذب بماء البحر الملح الذي أفقده خاصية العذوبة وأعطاه بدلا منها ملوحته)، فأين البرزخ إذن والحجر المحجور ؟ أما "المنتخب في تفسير القرآن" فإنه يقول في هامش خصصه للتعليق على هذه الآية إنها ربما " تشير إلى نعمة الله على عباده بعدم اختلاط الماء الملح المتسرب من البحار في الصخور القريبة من الشاطئ بالماء العذب المتسرب إليها من البر اختلاطا تاما ، بل إنهما يلتقيان مجرد تلاق : يطفو العذب منهما فوق الملح كأن بينهما برزخا يمنع بغي أحدهما على الآخر وحجرا محجورا ، أي حاجزا خفيا مستورا لا نراه " . لكن ثمة نقطة هامة يبدو لي أن كاتبي هذا التعليق ، على رغم جدته وطرافته (بالنسبة لي على الأقل) قد أغفلوها ، إذ إن الماء العذب والماء الملح اللذين يلتقيان في الشقوق على هذا النحو لا يمكن تسميتهما بحرين . ثم إذا كان الماءان في هذه الظروف لا يلتقيان ، فإنهما في عرض البحر والمحيط يلتقيان ويتمازجان ويصبحان في النهاية ماء واحدا ، كما قلنا من قبل . يبدو لي ، والله أعلم ، أن البرزخ المذكور في هذه الآية هو القوانين التي بمقتضاها بقى كل من الماء العذب والملح كل هذه الدهور المتطاولة التي لا يعلم مداها إلا الله ، وسيبقيان إلى أن يرث الله الأرض والسماوات موجودين، فالأنهار تصب في البحار والمحيطات ، وكان المفروض ، لو أن الأمر انتهى عند هذا الحد ، أن يختلط الماءان اختلاطا دائما ، فلا ينفصلان بعد ذلك أبدا ، ويصبح كل الماء الموجود على سطح الأرض ماء ملحا . بيد أن التقدير الإلهي قد شاء أن يقوم البحر بحمل الماء من البحار والمحيطات ، فتسوقه الرياح ليسقط على الجبال وينحدر إلى الأنهار ماء عذبا كما كان ، وهكذا دواليك . وهكذا أيضا يبقى الماء العذب والماء الملح ، ويتعايش البحران دون أن يبغي أحدهما على الآخر ويقضي عليه. فهذا هو البرزخ وهذا هو الحجر المحجور ، فيما أفهم ، والله أعلم . كما يبدو لي أن هذه الآية ، إلى جانب امتنانها على العباد بهذه النعمة الإلهية ، تتضمن معنى مجازيا ، فإني أظن أن المقصود بالماء العذب هنا المؤمنون وبالماء الملح الكافرون ، والمعنى هو أن الإيمان والكفر سيبقيان إلى آخر الدهر لا يستطيع أحدهما أن يقضي على الآخر تماما . والذي دعاني إلى هذا التفسير هو ما فهمته من أولى الآيات التي تتحدث عن ظواهر الطبيعة في السياق الذي وردت فيه آيتنا هذه ، والآية التي إليها هي : "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ، ولو شاء لجعله ساكنا ، ثم جعلنا الشمس عليه دليلا . ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا" . أما المعنى المجازي الذي لمحته فيها ، بجانب معناها الظاهري ، فهو أن الله يطمئن الرسول أن كفر قومه ، المرموز إليه هنا بالظل (أي الظلام) ، إن كان الآن ممدودا فإن الله قابضه رويدا رويدا ، ومبزع شمس الإيمان عما قليل . والذي أوحى إلي بهذا المعنى هو السياق الذي وردت فيه هذه الآية هي وآية "وهو الذي مرج البحرين ..." ، فقد كان المولى سبحانه يتكلم عن الأمم السابقة التي كذبت برسلها عنادا وطغيانا ، فأهلكها الله بعد أن كانت مستعزة بقوتها وانتشار سلطانها ، فبدت لي النقلة إلى الحديث عن بعض الظواهر الطبيعية غير مفهومة إلا في ضوء هذا المعنى المجازي .
ونأتي الآن إلى آخر آية أحب أن أتريث عندها قليلا ، وهي قوله تعالى : "وما يستوي البحران : هذا عذب فرات سائغ شرابه ، وهذا ملح أجاج . ومن كل تأكلون لحما طريا ، وتستخرجون حلية تلبسونها ..." . فما أكثر ما قرأت هذه الآية ولكن لم ألتفت إلى ما تنبهت إليه وأفزعني منذ فترة ليست بالبعيدة ، وهو ما تؤكده الآية من أن الحلي تستخرج من النهر والبحر كليهما ، إذ إن الذي كنت أعرفه حتى ذلك الوقت هو أن اللؤلؤ والمرجان ( المذكورين في آية مشابهة في سورة "الرحمن" ) لا يوجدان إلى في البحار . وقفز السؤال إلى عقلي على الفور مفزعا : " أيمكن أن يكون القرآن قد أخطأ ؟ " . إن هناك عدة آيات مشابهة في سورة "الرحمن" ، ولكنها لا تثير أية مشاكل ، فنصها هو : "مرج البحرين يلتقيان . بينهما برزخ لا يبغيان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان" ، ومعناه أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من مجموع البحرين لا من كل منهما ، كما تقول : " إن في يدي هاتين مائة جنيه " ، ويكون المبلغ كله في اليد الأولى بينما الثانية خلو تماما من أي نقود ، ولا تكون قد عدوت الحقيقة . أما آية سورة "فاطر" فإنها تقول بصريح العبارة : " ومن كل ... تستخرجون حلية تلبسونها " . ولم تسعفني ما عندي من تفاسير قديمة ، فأخذت أقلب نظري في أرفف مكتبتي وأنا حائر ضائق ، وإذا بي ألمح ترجمة يوسف علي للقرآن فأفتحها فأجد فيها شفاء نفسي ، إذ يذكر المترجم رحمه الله ( في تعليقه على هذه الآية في الهامش ) من الحلي البحري اللؤلؤ والمرجان ، ومن الحلي النهري العقيق وبرادة الذهب وغيرهما . ثم رجعت بعد ذلك إلى دائرة المعارف البريطانية ( مادة Pearl ) و"المنتخب في تفسير القرآن الكريم " فوجدت أن اللؤلؤ يوجد أيضا في المياه العذبة . وكأن الكتاب الأخير يرد على حيرتي ، إذ يقول : " وقد يستبعد بعض الناس أن تكون المياه العذبة مصدرا للحلي ، ولكن العلم والواقع أثبتا غير ذلك . أما اللؤلؤ فإنه ، كما يستخرج من أنواع معينة من البحر، يستخرج أيضا من أنواع معينة أخرى من الأنهار، فتوجد اللآلئ في المياه العذبة في إنجلترا وأسكتلندا وويلز وتشيكوسلوفاكيا واليابان ... إلخ، بالإضافة إلى مصايد اللؤلؤ البحرية المشهورة ، ويدخل في ذلك ما تحمله المياه العذبة من المعادن العالية الصلادة كالماس ، الذي يستخرج من رواسب الأنهار الجافة المعروفة باليرقة . ويوجد الياقوت كذلك في الرواسب النهرية في موجوك بالقرب من باندالاس في بروما العليا . أما في سيام وفي سيلان فيوجد الياقوت غالبا في الرواسب النهرية . ومن الأحجار شبه الكريمة التي تستعمل في الزينة حجر التوباز ويوجد في الرواسب النهرية في مواقع كثيرة منتشرة في البرازيل وروسيا ( الأورال وسيبيريا ) وهو فلورسيليكات الألمونيوم ، ويغلب أن يكون أصفر أو بنيا . والزيركون CIRCON حجر كريم جذاب تتقارب خواصه من خواص الماس ، ومعظم أنواعه الكريمة تستخرج من الرواسب النهرية" . وحتي يقدر القارئ رد فعلي الأول حق قدره أذكر له أنه حتى بعض المترجمين الأوربيين في العصر الحديث قد استبعدوا أن تكون الأنهار مصدرا من مصادر الحلي . وقد تجلى هذا في ترجمتهم لهذه الآية ، فمثلا نرى رودويل الإنجليزي يترجم الجزء الخاص بالحلي منها هكذا :
Yet from both ye eat fresh fish, and take forth for you ornaments to wear.
فعبارة "from both" تصلح لترجمة آية سورة "الرحمن" لا هذه الآية . كذلك ينقل رودي باريت هذه العبارة إلى الألمانية على النحو التالي :
"Aus beiden ebt ihr frishes feisch"
إلى هنا والترجمة صحيحة ، هذه العبارة تقابل بالضبط قوله تعالى : "ومن كل تأكلون لحما طريا" وإن كان استخدم في مقابل طريا كلمة "frish" ومعناها الدقيق "طازج" . لكن تنبه لترجمته للجزء الآتي الذي يقول فيه :
Und (aus dem Salzmeer) geurnnt ihr scmuck….. um ihm euch anzulegen.
والذي ترجمته : "وتستخرجون (من البحر المالح) حلية تلبسونها" . ويرى القارئ أن المترجم قد أضاف من عنده بين قوسين عبارة : "من البحر المالح : aus dem Salzmeer " ، وهو ما يوحي باستبعاده أن تكون الأنهار مصدرا من مصادر اللؤلؤ والعقيق وغيرهما من أنواع الحلي على ما تقول الآية الكريمة . (أما ترجمة سيل وبالمر (الإنجليزيتان) وترجمتا كازيمريسكي وماسون (الفرنسيتان)، وكذلك ترجمتا ماكس هننج ومولانا صدر الدين (الألمانيتان) على سبيل المثال فقد ترجمت كلها النص القرآني كما هو ، ولكنها لزمت الصمت فلم تعلق بشيء .
ويرى القارئ من هذا الآية بالذات كيف أن القرآن قبل أربعة عشر قرنا قد أشار إلى حقيقة يستبعدها واحد مثلي يعيش في القرن العشرين ، وآخرون مثل المستشرق الإنجليزي رودويل ونظيره الألماني رودي باريت ، فكيف عرفها الرسول عليه الصلاة والسلام إذن وأداها بهذه البساطة لو كان هو مؤلف القرآن ، وبخاصة أن الأنهار التي ذكر أن اللؤلؤ وغيره من الأحجار الكريمة وشبه الكريمة تستخرج منها تقع في بلاد سحيقة بالنسبة للجزيرة العربية ، بل إن بعضها كالبرازيل مثلا لم تكتشف إلا في العصور الحديثة.
فإذا قارنا بين الكتاب المقدس والقرآن في هذا الصدد راعنا أن المؤمنين بالكتاب المقدس كانوا يصدقون تصديقا أعمى بكل ما جاء فيه على حرفيته على أساس أن كل كلمة بل كل حرف فيه وحي إلهي ، ثم اضطروا اضطرارا تحت مطارق الحقائق العلمية القاطعة إلى أن يهجروا هذه النظرية إلى نظرية أخرى ملخصها إنه لا ينبغي أن يؤخذ النص على حرفيته ، بخلاف بعض مفسري القرآن الكريم القدماء الذين كانوا يرون في بعض الآيات لونا من المجاز أو توسعا في التعبير ، ثم جاءت المعارف العلمية القاطعة فأثبتت أنهم كانوا مخطئين في هذا الموقف وأن الآيات تعني تماما ما عبرت عنه .

المراجع
 القرآن الكريم .
 الكتاب المقدس .
 ابن حزم ، الفصل في الملل والأهواء والنحل / مكتبة السلام العالمية / القاهرة .
 د. إبراهيم عوض / تفسير سورة التوبة / ١٩٨٧ .
 د. أحمد زكي / مع الله في السماء / كتاب الهلال / عدد ٣١١ / نوفمبر ١٩٧٦ .
 البضاوي ( تفسير ) .
 د. توفيق الطويل / في تراثنا العربي والإسلامي / عالم المعرفة / عدد ٨٧ / مارس ١٩٨٥ .
 الجلالين ( تفسير ) .
 الزمخشري ( تفسير ) .
 الشريف الرضي / تلخيص البيان في مجازات القرآن ( تحقيق محمد عبد الغني حسن ) ط / ١ .
 مالك بن نبي / الظاهرة القرآنية ( ترجمة عبد الصبور شاهين ) / مكتبة دار العروبة / القاهرة / ١٩٥٨ .
 محمد عبده ، الإسلام بين العلم والمدنية / كتاب الهلال / عدد ٣٨٥ يناير ١٩٨٣ .
 محمد عبده / رسالة التوحيد / كتاب الهلال / عدد ٣٥٥ / يولية ١٩٨٠ .
 محمد فؤاد عبد الباقي / المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم .
 محمود شلتوت / تفسير القرآن الكريم / الأجزاء العشرة الأولى / دار القلم / القاهرة / ط ٢ .
 المنتخب في تفسير القرآن الكريم .
 د. موريس بوكاي/ القرآن والتوراة والإنجيل والعلم – دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة / دار المعارف / القاهرة ١٩٨٢ .
 الموسوعة الثقافية / دار الشعب .
 النسفي ( تفسير ) .
همايون كبير / العلم والديمقراطية والإسلام ( ترجمة عثمان نويه ) / دار الهلال .

 Alexander Cruden, Cruden’s Concordance. The Epworth Press, London, 1952.
 Cambridge Companion to the Bible, Cambridge Univ. Press, 1892.
 C.H. Dodd, The Authority of the Bible, Fontana Books, 1960.
 Ch. Gore H.L. Goudge, A. Guillaume, A New Commentary on Holy Scripture Including the Apocrypha, London Society for Promoting Christian Knowledge, 1929.
 Edward Clodd, Childhood of Religions, Henry S. King & Co., London 1875.
 Encyclopedia Britannica, Vol. 5, ed. 14, 1938.
 George Townshend, Christ et Baha-u’llah, Maison d’Editions Baha’ies, Bruxelles, 2 ͤ ed., 1968.
 Georges Marchal, Promotion de l’Islam, Berget Leuault, Paris, 1957.
 J.D. Douglas (editor), The New Bible Dictionary, Inter-Varsity Press, London, 1972.
 Joseph Hubby, Christus-Manuel d’histoire des religions, Bauchesne et ses files, Paris, 1946.
 Maulana Sadr-ud-din, Der Koran, die Muslimische Mission, Berlin, 1964.
 Max Henning Der Koran, Reclam, Stuttgart, 1981.
 Rudi Paret, Der Koran, W. Kholhammer, Stuttgart, 1983.
 Stanley Cook, An Introduction to the Bible, Pelican Books, 1945.
 W.F. Hooks Hook’s Church Dictionary, London, John Murry, 1887.
 William Neil, William Neil’s One Volume Bible Commentary, Hodder & Stoughton, London – Sydney – Auckland – Toronto, 1973.



للمؤلف (هذه القائمة خاصة بسنة 1987م):ــــ
١ - الترجمة من الإنجليزية – منهج جديد .
٢- في الشعر الإسلامي والأموي – تحليل وتذوق .
٣ - في الشعر العباسي – تحليل وتذوق .
٤ - في الشعر الأندلسي – تحليل وتذوق .
٥ - في الشعر العربي الحديث – تحليل وتذوق .
٦ - فصول من النقد القصصي – رؤية جديدة .
٧ - من أعلام النقد القصصي – ( بالإنجليزية والعربية ) .
٨ - المستشرقون والقرآن .
٩ - مصدر القرآن – دراسة في الإعجاز النفسي .
١٠ - من الطبري إلى سيد قطب – دراسة في مناهج التفسير ومذاهبه .
١١ - تفسير سورة المائدة .
١٢- تفسير سورة التوبة .
١٣ - محمود طاهر لاشين .
١٤ - نقد القصة في مصر .
١٥ - NOVEL – CRITICISM IN EGYPT
١٦ - المتبني – دراسة جديدة لحياته وشخصيته .
١٧ - معركة الشعر الجاهلي بين الرافعي وطه حسين – بحث موضوعي مفصل .
١٨ - لغة المتنبي – دراسة تحليلية .
١٩ - موقف الكتاب المقدس والقرآن الكريم من العلم ( تحت الطبع ) .
٢٠ - المتنبي بإزاء القرن الإسماعيلي في تاريخ الإسلام – لماسينيون ( ترجمة وتعليق ودراسة د. إبراهيم عوض ) – ( تحت الطبع ) .


رقم الايداع 8060 / 87


مطبعة الشباب الحر ومكتبتها
ت : ٣٩٠٧٦٢١ القاهرة

----------------------------------------------------------------------------------------


شكر وتقدير:ــــ
هذا الكتاب أعاد كتابته، بحيث يكون صالحا للنشر بصيغة ورد، الصديق الأستاذ ميسرة عفيفى المصرى المقيم فى اليابان، والذى أدين فى معرفتى إياه وصداقتى له للمشباك، ذلك الاختراع العجيب، الذى كان سببا أيضا لزيارته إياى فى بيتى منذ نحو عام حين أتى من بلاد الشمس المشرقة إلى أرض الوطن فى عمل فكان من أوائل ما صنع: تشريفه لى فى منزلى، فله الشكر على هاتين المكرمتين. وأرجو من السادة القراء الدعاء له بالنجاح والتوفيق فى كل أمور حياته.
أ. د. إبراهيم عوض