بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 16 يونيو 2015

نجاة غير المسلمين في شرق آسيا


نجاة غير المسلمين في شرق آسيا
حسن كو ناكاتا (Hassan Ko Nakata)
الأستاذ السابق في كلية الإلهيات ـ جامعة دوشيشا
1.      مقدمة
هدف هذا البحث هو بيان أن إمكانية النجاة في الإسلام متوفّرة ليست فقط للمسلمين بل لغير المسلمين أيضا، تركيزاً على شرق آسيا.
قبل دخول الموضوع أودّ أن أُحدِّدَ معنى لفظ "النجاة".
كلمة "نجاة" مُشتَقَّة في الأصل من عدد من الحروف الساكنة وهي النون والجيم والواو، وهناك أربع وثمانون كلمة في القرآن مشتقة منها. ومن بَيِنِها الاسمُ الوحيدُ مع أداة التعريف "النجاة" وتعني "النجاة من النار" كما تُستعمَل "النجاة" مقابلَ "النار" في الآية التالية: ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار. (40 غافر: 41) علاوة على ذلك، لا تعني "النجاة من النار" سوى دخول "الجنة" كما هو في الآية التي تسبق تلك: ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة. (40 غافر: 40).
ويسمى عذاب النار في الآخرة "بالعذاب الأشد" لأنه أشد بكثير ولا يقارن بعذاب الدنيا وبلائها كما في الآية: ولعذاب الآخرة أشد وأبقى (20 طه: 127).
إن للنجاة معان واسعة ، إلا أنه في الخطاب الديني المعاصر في الغرب وفي اليابان أيضا، غالباً ما تستخدم للإشارة إلى الظواهر النفسية مثل "إزالة المعاناة النفسية"، "التحرر من الرغبات الدنيوية"، و"الراحة من الشعور بالألم". والحقيقة أن الإسلام  يشير  إلى "النجاة" بهذا المعنى، الذي هو شغل الصوفية الشاغل، ولا يتناول هذا البحث هذه المعاني الأخيرة "للنجاة". بل يشير إلى "النجاة من النار" بدلاً عن ذلك.
2.      حكم الإسلام
أما معنى الإسلام والمسلم، فالإسلام دين كل الأنبياء منذ سيدنا آدم فبالتالي، جميع الرسل والذين استجابوا لدعوتهم هم مسلمون فلا يقتصر إطلاق لفظ "المسلم" على أفراد "أمة محمد" بل يمكن على سائر أتباع الأنبياء والرسل حيث أن دعوتهم واحدة وهي عبادة الله لا شريك له أي التوحيد كما قال الله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت...(16 النحل:36) فقال الرسل: يا قومِ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره...(7:59 نوح، 7:65 هود، 7:73 صالح، 7:85 شعيب، 11:50 هود، 11:84 شعيب).  ولكن هناك شبهة في تحديد المسلم في الزمن بعد بعثة رسول الله. هناك أحاديث عديدة تفيد أن مجرد كلمة التوحيد هي شرط الإسلام  مثل حديث أبي هريرة: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ومن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله. (أخرجه البخاري) وحديث محمود بن الربيع الأنصاري: فأن الله قد حرّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله. (أخرجه البخاري).
 
ولكن هناك أيضاً أحاديث تفيد أن شرط الإسلام إقرار التوحيد مع نبوة سيدنا محمد كما في حديث ابن عمر المشهور في صحيح البخاري: بُنِيَ الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وفي مسند أحمد، عن رِفاعة الجُهني: قال رسول الله: أشهد عند الله لا يموت عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صِدقاً من قلبه ثم يسدِّدُ إلا سُلِك في الجَنّة.
فلذلك قد فرّق الأحناف شروط إسلام الناس طِبقَ انتسابهم الديني السابق فقسّموهم خمسة أصناف كما يقول الحَصْكَفي (توفي عام 1088 هـ / 1677 م) صاحب الدر المختار شرح تنوير الأبصار: الكفار أصناف خمسة، من يُنكِر الصانعَ كالدهرية، ومن يُنكِر الوحدانية كالثنوية، ومن يُقرّ بهما لكن يُنكِر بعثة الرسل كالفلاسفة، ومن يُنكِر الكلّ كالوثنية، ومن يقرّ بالكلّ لكن ينكر عموم رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم كالعيسوية، فيكتفي في الأولَيْنِ بقول لا إله إلا الله وفي الثالث بقول محمد رسول الله وفي الرابع بأحدهما وفي الخامس بهما مع التبريء عن كل دين يخالف دين الإسلام. (محمد أمين المشهور بابن عابدين، حاشية رد المختار شرح تنوير الأبصار، القاهرة، 1966، المجلد الرابع، ص 226 ـ 227،  وراجِعْ الموصلي الحنفي، الاختيار، المجلد  الثاني، بيروت، 1998 ص 424).
ويوافق موقف الأزهر الشريف هذا التعريف لاشتراط التبرّيء من المسيحية واليهودية بالإضافة إلى الشهادتين أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله في مصر التي لا يوجد فيه دهرية ولا وثنية إلا أهل الكتاب.
3.      شرق آسيا
قد توقّف انتشار الإسلام عند تركستان الشرق والفليبين ولم يضمّ شرق آسيا، أيْ الصين وكوريا واليابان، إلى دار الإسلام أصلاً. فتتّصف شرق آسيا بدار الحرب في منظور الشريعة باعتبار عدم قيام الحكم الإسلامي فيها. والسمة الثانية لشرق آسيا في منظور الشريعة هي كون سكّانُها غيرَ أهل الكتاب لأنهم انتسبوا إلى الكونفوشية أو البوذية تاريخياً وأسماء الأنبياء والرسل التي ذُكِرَتْ في الكتاب المقدّس ليست معروفة عند عامّتهم. فلا بُدّ لها من التعامل الخاصّ بها على أحكام الشريعة.
من المعروف أن جميع الأمم سبقت لهم بعثة كما قال الله تعالى:  ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت...(16 النحل:36)  وقال: وما أرسلنا من رسولٍ إلا بِلسانِ قومِه ليُبَيِّنَ لهم.(14إبراهيم :4)
والمسلم من أقرّ بالتوحيد استجابةً لدعوة رسول من الله والكافر من رفض دعوة الرسول. فيسمي علماؤنا الأقوام الذين نسوا رسالة التوحيد بعد زمن طويل بعد وفاة رسولٍ "أهلَ الفترة". فينبغي لنا المقارنة بين أهل شرق آسيا وبين أهل الفترة.
4.       مناقشة الأشاعرة والماتريدية حول نجاة أهل الفترة
يُبلِّغُ الرُسُلُ رسالات الله للناس، ويُدعَى الناس الذين يعيشون بين وفاة رسول وبين بعثٍ آخَرَ جديدٍ "أهل الفترة".
تختلف الآراء في الإسلام حول نجاة "أهل الفترة"، وأنا أرى أن تراث المذهب الأشعري في هذه المسألة يجب أن يكون أساسُ إعادةَ بناءِ علاقةِ التعايُشِ بين الإسلام والديانات الأخرى، فنُحلِّل المناقشات حول نجاة "أهل الفترة" في عقيدة أهل السنة.
 أولاً، نُطلِع على حُجّةِ المرحوم عبد الله الغماري من بحثه بعنوان "أهل الفترة ناجون" ضمن مجموعته المنشورة بعنوان "خواطر دينية" وقد ولد الغماري في مراكش في أسرة ذات تاريخ طويل من العلماء وكان يسمى "بخاري عصره" فهو من علماء الحديث الكبار في القرن العشرين.
يُعرِّف الغماري "أهل الفترة" بأنهم "الذين عاشوا في زمن لم يكن فيه رسول إليهم" (عبد الله بن محمد بن الصديق الإدريسي "أهل الفترة ناجون"، في كتاب خواطر دينية. القاهرة، 1968، ص، 116). يقول الغماري في رأس مقالته: والحكم فيهم عند الجمهور أنهم ناجون ولو عبدوا الأصنام لقوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (17 الإسراء: 15) و: ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلمٍ – أي بشرك – " وأهلها غافلون. (6 الأنعام: 131) أي لم يُرسل إليهم رسول.
ولدى تفسير كلام الله "وما كنا معذبين" فهذا يعني أن الله لا يفعل ذلك حتى يبعث رسولاً يبين الأحكام حول الذنوب مثل الزنى والخيانة، ويقدم البعض الحجة التالية: باعتبار أن الإنسان قد كُلِّف بالتوحيد منذ أن بعث الله آدم رسولاً لأبنائه فإن "أهل الفترة" يستحقون العذاب في النار وهو موقف الماتريدية كما يقول ابن عابدين (توفي عام 1252 هـ. / 1836 م)، الذي يقال عنه بأنه المرجع النهائي في المذهب الحنفي الحديث، من: أصول الأشاعرة أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيا، أما الماتريدية فترى إنه إن مات قبل مضى مدة يمكنه فيها التأمُّل ولم يعتقد إيمانا وكفرا فلا عقاب له بخلاف ما إذا اعتقد كفرا أو مات بعد المدة غير معتقد شيئاً. (من كتاب محمد أمين المشهور بابن عابدين، حاشية رد المختار شرح تنوير الأبصار، القاهرة، 1966، المجلد الثالث، ص. 185). ويقول النابلسي (توفي عام 1308 هـ / 1891 م): وأهل الفترة بين نبيَّيْنِ ليس في أعمالهم ذنوب، لِعدمِ حُصولِ التبليغ في زمانهم، ... وأما ذنب الكفر بالله تعالى فلا يعذر فيه أحد لأن العقل كاف في معرفة ذلك. (عبد الغني بن اسماعيل النابلسي أسرار الشريعة أو الفتح الرباني والفيض الرحماني، بيروت، 1985، ص. 78)
وقد أبدى الغماري معارضته لهذا الرأي بقوله: الآيات الآنفة الذكر واضحة وحاسمة وتثبت بحقٍ كرم الله وفضله، أما الأحاديث المخالفة لهذا فلا تعتمد أساساً ولا تكفي لتردَّ ما انتهى إليه القرآن بجلاء وجزم. (الأحاديث الواردة بخلاف ذلك معلولة والصحيح منها آحاد ثم هي تحتمل التأويل لأنها آحاد لا تقوى على معارضة القرآن. راجع "أهل الفترة ناجون"، ص، 116).
تقدم الآيات التالية من القرآن دليلاً إضافياً على نجاة "أهل الفترة".
"وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم (يعبدونها) قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. قال إنكم قوم تجهلون. إن هؤلاء متبرَّ (هالك) ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون. (7 الأعراف: 138).
ملخص ذلك أن سكان فلسطين الأصليين كانوا يعبدون الأصنام، على الرغم من أن وثنيتهم كما يقال غير حقيقية وسبب قولهم بعدم استحقاقهم للعذاب في النار هو أنهم خلافاً لبني إسرائيل لم يبعث فيهم رسول، لذلك لم يكلفوا باجتناب الشرك، فلا يعذبون في النار لممارستهم الشرك، حتى ولو سمعوا بموسى ورسالته، فهذا لا يعني أن رسولاً قد بعث فيهم. وطبقاً لهذا يقدم القرآن دليلاً مماثلاً لنجاة "أهل الفترة":
يا أهلَ الكتاب قد جاءكم رسوُلنا (محمد عليه السلام) يُبَيِّنُ لكم (الدين أصوله وفروعه) على فترة (انقطاع) من الرسل (لأجل) أن (لا) تقولوا (يوم القيامة) ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير (فلا عذر لكم بعد مجيئه). (5 المائدة: 19).
حتى وإن وجد تحريف وتبديل في النصوص الأصلية لتوراة اليهود وإنجيل المسيحيين والذين عليهم أن يعرفوا أنهم مكلَّفون بالتوحيد، فإنهم لا زالوا في حصانة من العذاب لأن النبي محمد لم يبعث مُجدَّداً فيهم، فإن كان الأمر كذلك، فإن "أهل الفترة" الذين لم يعلموا أياً من الكتب المقدسة لا بد أن يستحقوا النجاة أكثر من غيرهم (نفس المصدر ص 117 ـ 118).
5.      حكم من لم تبلغه الدعوة بعد البعثة
محمد "خاتم النبيين" (33 الأحزاب: 33) بعث كافة للناس و"رحمة للعالمين" (الأنبياء: 21) متجاوزاً الخلافات العرقية وستظل رسالته وشريعته باقية في كل زمان ومكان، فمنذ بعثته لم يعد يوجد "أهل الفترة". مع ذلك على الرغم من أن رسالة محمد عالمية وبلا حدود، كان بعض الأرض ما زال متبقّيا على حال عدم وصول الدعوة المحمّدية طول الزمن. فيمكنّا قياس حكم أهل الفترة على من لم تبلغه الدعوة المحمّدية بعد بعثته على أصل الأشاعرة أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيا.
يقول عبد الله الغماري: أما بعد البعثة المحمدية التي عَمّتْ أصل أهل الأرض جميعاً فلا يوجد أهل الفترة ولا محل لافتراض وجودهم. لكن قد يعتبر وجود من لم تبلغه الدعوة. فلو افترضنا وجود شخص في مجاهل القارة الإفريقية مثلاً لم يسمع بالإسلام ولا بالقرآن ولا عرف شيئاً عن توحيد الله تعالى وعاش بين الجبال والغابات فإنه ناج بلا شك حتى ولو اعتنق بعض الديانات الشركية كالنصرانية مثلاً. ذلك لأن بلوغ الدعوة شرط في توجيه التكليف للشخص. فحيث لم تبلغه بدون تقصير منه لم يكلف. (نفس المصدر ص. 118).
 وفي الواقع قد سبق بحث عبد القاهر البغدادي (توفي عام 429 هـ / 1037 م) في هذه المسألة في كتابه "أصول الدين" ويقول في قسم "مسألة بيان حكم من لم تبلغه دعوة الإسلام" في الفصل الثاني بعنوان "أصل بيان أصول الإيمان": قال أصحابنا إن الواجبات معلوم وجوبها بالشرع ، وقالوا فيمن كان وراء السد أو في قطر من الأرض ولم تبلغه دعوة الإسلام ينظر فيه، فإن اعتقد الحق في العدل والتوحيد وجهل شرائع الأحكام والرسل فحكمه حكم المسلمين وهو معذور فيما جهل به من الأحكام لأنه لم يقم به الحجة عليه، ومن اعتقد منهم الإلحاد والكفر والتعطيل فهو كافر بالاعتقاد وينظر فيه، فإن انتهت إليه دعوة بعض الأنبياء عليهم السلام فلم يؤمن بها كان مستحقاً للوعيد على التأبيد، ومن لم تبلغه دعوة الشريعة بحال لم يكن مكلفاً وليس له في الآخرة ثواب ولا عقاب.
كما رأينا آنفاً تلجأ حجة المذهب الأشعري المتأخر حول نجاة "أهل الفترة" إلى مفهوم "من لم تبلغه دعوة الإسلام" وهي تقوم على مبدأ أن لا عذاب طالما أنه لم يأت فيهم نبي، في حين أن نظرية نجاة "أهل الفترة" في العصر المتأخر قد تطورت على خلفية مسألة إن كان والدا الرسول (اللذان ماتا وهما يجهلان دعوة الإسلام) سوف ينجوان أم لا، فإن شاغل البغدادي الرئيسي كان في الإمكانية النظرية لنجاة غير المسلمين المعاصرين أي الناس الذين لم تصلهم الدعوة في حيز "المكان" مقابل أجيال الناس الذين لم تصلهم الدعوة في حيز "الزمان"، أي "أهل الفترة".
يمكن اختصار نتيجة بحث البغدادي في جملتين: الأولى أن من لم تصله الدعوة المحمّدية بعد بعثته وهو يؤمن بوحدانية الله وعدله بمفرده بدون تعريفه من قِبَل الرسول فحكمه أنه من المسلمين والثانية أن من لم تصله دعوة نبي ما أصلاً برغم أنه عاش بعد البعثة المحمّدية فحكمه أنه من أهل الفترة.
6.      تطبيق حكم من لم تبلغه الدعوة على أهل شرق آسيا
لم نجد في تاريخ شرق آسيا أثر دعوة نبي بالتوحيد بالدليل القطعي. إذاً هم أهل الفترة في حقّ العصر قبل البعثة المحمّدية بلا شكّ. وأما من بعد البعثة فلا بد من تدقيق البحث. وهنا ينبغي أن نُميِّزُ بين الصين وبين كوريا واليابان حيث أن الصين مع أن معظم سكانها لا يعرف عن الإسلام إلا بعض طقوسه وتقاليده، كانت لها علاقة رسمية مع الخلافة العباسية منذ القرن الثاني الهجري و استوطن المسلمون العرب والفرس فيها منذ ذلك الوقت و يوجد عدد يزيد عن عشر ملايين مسلم حتى الآن، بينما كوريا واليابان بسبب سياسة العزلة عن العالم لهما ليست لديهما أية علاقة رسمية ولا شعبية مع العالم الإسلامي أصلاً حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. فنستطيع أن نطبّق أحكام أهل الفترة على أهل كوريا واليابان قبل العصر الحديث بدون تردد. وأما الصين فهناك شبهة فلا يمكن تطبيقها على جميع أهلها فلا بد من تدقيق الفحص لأفرادهم على حِدَةٍ بحسب عصرهم وحالتهم.
أما أهل كوريا واليابان المعاصرون فهل يمكن تطبيق حكم من لم تبلغهم الدعوة عليهم أم لا؟ هنا نستشهد بقول د. محمد خير هيكل في هذا الموضوع، فيقول: - هل مجرد استفاضة شأن الإسلام في الشرق والغرب يألف حجة على الشعوب والدول الداخلة في إطار تلك الاستفاضة، إذ تعتبر في  هذه الحال مما يبلغهم الدعوة، فتجري عليهم الأحكام على هذا الاعتبار؟ كما قد يفهم مما ورد في بعض الفقه - أم لا بد من التبليغ الرسمي من السلطة الإسلامية للشعوب، أو لمن يمثل الشعوب حتى يصدق عليهم أنهم قد بلغتهم الدعوة؟ ... والذي أراه أنه لا بد من التبليغ الرسمي من السلطة الإسلامية للشعوب، أو لمن يمثل الشعوب حتى يصدق عليهم أنهم قد بلغتهم الدعوة بالنسبة للأحكام الإسلامية الدولية. وبالتالي: يطبق عليهم أحكام من بلغتهم الدعوة على نحو ما تقدم بيانه... مجرد الاستفاضة لا يدل على أن شرط بلوغ الدعوة متوفرة فيها، وشرطها هو البلاغ المبين، كما تقدم، بدليل أن بقاعاً كثيرة من العالم اليوم، يسمعون الإسلام، ولكنهم يأخذون عنه، وعن أهله فكرة مشوهة مما ينفر الناس عن الإسلام، ولا يرغب فيه. فلا يقال والحالة هذه إن تلك الشعوب قد وصلها الإسلام بصورة (البلاغ المبين). والذي يحقق شرط (البلاغ المبين) في الدعوة إنما هو الخطاب الرسمي من السلطة الإسلامية التي يجب عليها الدعوة على وجه يحقق الشرط المذكور. حتى إذا كانت هناك تساؤلات، واستفسارات لدى من توجه اليهم الدعوة بشأنها تقدمت السلطة الرسمية بالأجوبة المعتمدة على تلك التساؤلات والاستفسارات. (محمد خير هيكل، الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، دار البيارق، بيروت، 1996-1417، ط.2، ج.1، 772-791)
فأرى حجّته موافقة لعقلية الإسلام تماماّ وملائمة لمنهج الدعوة للمجتمع غير الإسلامي على وجه العموم وشرق آسيا على وجه الخصوص.
لم تنضّم شرق آسيا إلى دار الإسلام أصلاً كما تقدم ذكره فلا بد فيهما من التبليغ الرسمي للإسلام على الصورة الشاملة الحقيقية بدون تشويه ولا تحريف حتى تتوفّر فيها شروط وصول الدعوة الإسلامية لأهلها. فيعتبر أهل شرق آسيا من لم تبلغه الدعوة حيث لم يتحقّق التبليغ الإسلامي على هذا الشكل الذي أوضح د. محمد خير هيكل فحكمهم حكمه إلا أن هناك شبهة في حقّ الصين باعتبارها متّصلة بالخلافة الإسلامية منذ العصر العباسي.
7. خاتمة
هنا نُلخِّص نتائج البحث السابق للمذهب الأشعري في قضية من لم تبلغه الدعوة في ما يلي:
(1) أهل الفترة ناجون من النار مهما كانت عقيدتهم على كل من الأصلين أن الواجبات معلوم وجوبها بالشرع وأن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيًا، لقوله تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً".
(2) من يصل إلى التوحيد بالبصيرة بمفرده من أهل الفترة حكمه حكم المسلم.
(3) من لم تبلغه الدعوة المحمدية بعد بعثته حكمه حكم أهل الفترة.
(4) حكم أهل دار الحرب الذين لم يصل إليهم التبليغ الرسمي من قِبَل السلطة الإسلامية حكم أهل الفترة.
(5) حكم عموم أهل شرق آسيا وخصوصا أهل كوريا واليابان حكم أهل الفترة.
و نستنبط الآثار العملية في منهج الدعوة في هذه المنطقة من هذا البحث في ما يلي:
(1) إباحة الاستغاثة لأجل الأجداد. وله أهمية كبيرة في شرق آسيا التي في مجتمعها تعليم الكنفوشية من بر الوالدين سائدٌ مُجذرٌ عميقٌ ويرتبط الناس بقوة باحترام الأجداد. فتحريم الاستغاثة لأجل الأجداد إذاً عقبة كبيرة في طريق الدعوة للإسلام في هذه المنطقة وطلب المغفرة لأصحاب النار مُحرَّمٌ لقوله تعالى: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. (9 التوبة: 113) إلا أن أهل شرق آسيا حكمهم حكم أهل الفترة من النجاة فلا بأس بالاستغاثة لأجل الأجداد.
(2) التواضع في الدعوة مخالف لبعض المتكبّرين المدّعين للدعوة الذين تعاملوا مع أهل البلد كأنهم أصحاب الجنّة والمخاطَبون أهل النار ولكن بحثنا قد بَيَّنَ أن العكس هو الصحيح أَي أنه لا ذنب لأهل البلد لأنهم لم تبلغهم الدعوة فليس لديهم تكليف أصلاً بينما نحن مُقَصِّرون في الدعوة لعدم وفاء شروطها بل شوهنا صورة الإسلام حتى حُلنا دون وصولها إليهم.
(3) التعامل مع مُوَحِّدي هذه المنطقة بحُكمِهِ مُسلِماً امتثالاً بقوله صلى الله عليه وسلم :ومن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله، وينبغي أن نحتضنَهم مع المحبة والأخوة الإسلامية حتى تصبِح في قلوبهم محبّة للإسلام فيقتدوا بنا في التزام الشريعة المحمدية بحسب تعميق فهم الإسلام ومحبّته تدريجياً. وهذا الذي هدف إليه سماحة الشيخ أحمد رحمه الله تعالى.
وآخِر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

الخميس، 4 يونيو 2015

اليابان وثقافة المرور


اليابان وثقافة المرور

ميسرة عفيفي

 

المسافة بين مسكني وبين أقرب محطة للقطارات حوالي 800 متر تقريبا. ولا يوجد في هذه المسافة إلا إشارة مرور واحدة تقع في منتصف تلك المسافة تقريبا في تقاطع بين طريقين غير رئيستين.

بالأمس كنت عائدا إلى منزلي في وقت متأخر نسبيا من الليل ألا وهو العاشرة والنصف مساء. وفي هذا الوقت من الليل في منتصف الأسبوع عدد المارة من المشاة والسيارات يكون قليل للغاية، خمسة أو ستة رجال ونساء عائدون من أعمالهم مثلي في نفس الاتجاه، وسيارة أو سيارتين في كل اتجاه عند التقاطع.

عندما وصلت إلى التقاطع كانت الإشارة قد تحولت إلى اللون الأحمر بالفعل، فوقف من سبقني من المشاة في انتظار اللون الأخضر، ولكني نظرتُ فوجدتُ أن السيارة الوحيدة في الاتجاه المعاكس التي كانت تنتظر تغير الإشارة قد سارت بالفعل ولا توجد أي سيارة في الاتجاهين ولا يوجد أي احتمال لقدوم سيارة، فواصلت سيري دون توقف رغم أن الإشارة حمراء ورغم أن جميع المشاة حولي كانوا ينتظرون عند مكان عبور المشاة.

بعد أن سرت قليلا جاءني هاتف أن أنظر خلفي، فوجدتُ أن الإشارة قد صارت خضراء وأن المشاة بدأوا السير في نفس اتجاهي. كانت المسافة بيني وبينهم حوالي 15 مترا وفارق الزمن بيني وبينهم 10 ثواني تقريبا.

فكرت كثيرا في هذا الذي حدث، لماذا أخذتُ قرارا بالسير رغم أن الإشارة كانت حمراء؟ ولماذا انتظر باقي المشاة رغم عدم وجود احتمال لأية مخاطر من عبور الطريق في ذلك الوقت؟

ماذا استفدتُ أنا من توفير 10 ثواني، وماذا خسر الباقون؟ هل 15 متر تقدم في المسافة عن الآخرين، مقابل مجز لاختراق القانون والتفرد بوصمة المتخلف الهمجي الذي لا يبال بقواعد المجتمع وما جرى عليه العُرف؟

هل كنت أنا الذي في المقدمة وهم يلاحقونني أم كان الأمر على العكس؟

حسنا، هل سيتغير الأمر لو أني فزت بجائزة أكبر من مجرد 10 ثوان و15 متر؟ أعني لو خرق القانون (بلا عواقب بالطبع) أفادني بتوفير 10 دقائق وتقدم بمسافة 1500 متر عن المحافظين على القانون، لو حدث ذلك هل كنت أشعر بالنصر ولذة التفوق عليهم؟

 

هذا الموقف ذكرني بما حدث لي عندما جئت إلى اليابان للمرة الأولى منذ ما يقرب من عشرين عاما. كنت أسكن عند صديق ياباني منزله أيضا يشبه منزل الآن يقع في الأطراف البعيدة من مركز العاصمة طوكيو ويقع إداريا في المحافظة المجاورة لطوكيو، رغم أنهما على طرفي النقيض شرقا وغربا من طوكيو.

كنت أريد أن أستغل كل دقيقة من وجودي في اليابان فكنت أظل في مركز طوكيو حتى موعد آخر قطار يصل المحطة التي بها مسكن صديقي هذا، فكنت أصل البيت الساعة الواحدة ونصف بعد منتصف الليل، وكان ذلك الوقت يعني أنني كنت الوحيد تقريبا الذي أسير في الطريق من المحطة حتى منزل صديقي. وكان يوجد عدد أكبر من التقاطعات لا أتذكره بالضبط، ولكن الذي لن أنساه ما حييت هو دهشتي وصدمتي عندما أرى السيارات وإن كان عددها تقريبا معدوم إلا أنه كل سيارة تمر في الطريق كانت تلتزم بالوقوف في الإشارات الحمراء رغم أن في ذلك الوقت احتمال مرور سيارتين في اتجاهين متقاطعين يكاد يكون صفر. كان هذا الذي أراه صدمة حضارية بكل ما تعني الكلمة، خاصة لشاب أتى من مصر في منتصف التسعينات من القرن العشرين، وكنت أعتقد أن الأمر به لغزا وأنه ربما كان الأمر مجرد صدفة تكررت أمامي بشكل عفوي وهي ليست العادة المنتشرة في كل اليابان.

كان هذا ظني حتى مرت السنوات وعرفت أن الأمر ليس صدفة وأنه الأمر المتبع في كل اليابان طولا وعرضا. وإن عجزت عن معرفة كيفية جعل الناس تلتزم بمثل هذه الدرجة التي لا يكاد يشذ عنها أحد. إلى أن قررت بعد سبع سنوات في اليابان اقتناء سيارة، وكنت لا أحمل رخصة في بلدي مصر ولم أقم بقيادة سيارة من قبل، فكان لزاما أن اتعلم القيادة وأحصل على رخصة قيادة يابانية، فذهبت لتعليم القيادة في مدرسة متخصصة لذلك وداومت الذهاب إليها على مدى حوالي ثلاثة أشهر حتى استطعت الحصول على رخصة قيادة. وخلال هذه الفترة عرفت سبب التزام الجميع بقواعد المرور، فأي شخص ياباني من أجل أن يحصل على رخصة قيادة لا بد له من التعلم في مدرسة تعليم محترفة كالتي تعلمتُ فيها. وفي هذه المدرسة يتم تعليم قواعد المرور والقيادة بشكل علمي بحث عملي ونظري على مدى طويل من الوقت بحيث يصبح الالتزام بالقانون وقواعد المرور شيء بديهي تلقائي في السائق، فأنا حتى الآن لا أستطيع قيادة السيارة بدون ربط حزام الآمان، وحتى داخل مرأب السيارات في منزلي، ارتبط جلوسي على مقعد القيادة بربط الحزام، لو لم أربطه أحس كأن بإحساس غريب وأني غير قادر على السير، ربما كان الأمر له علاقة بتأثير نظرية بافلوف لا أدري ولكني حتى الآن وعلى مدار ما يقرب من 13 سنة قيادة لا أستطيع أن أتخيل نفسي أخترق إشارة وهي حمراء مهما كنت في تعجل، مهما كان المكان الذي يجب أن أذهب إليه سريعا وحتى وأنا أتوجه في منتصف الليل بأحد أبنائي للمستشفى وهو يتلوى من الألم. الإشارة حمراء معناها الوقوف. الجلوس في مقعد القيادة معناه ربط حزام الآمان.

كنت في بداية معيشتي في اليابان أدرس في معهد لتعليم اللغة اليابانية في الصباح وأعمل في محل بقالة من محلات البقالة المنتشرة في طول اليابان وعرضها وهي تسمى باليابانية "كون بيني" اختصارا لكلمة (convenience store) بالإنجليزية. كنت أعمل حتى وقت متأخر من الليل أحيانا حتى الساعة الثانية عشرة وأحيانا أخرى حتى الواحدة من صباح اليوم التالي، وكنت أستخدم دراجة للذهاب والإياب من العمل. وكان رئيسي الياباني في المحل وهو مدير المحل يشدد عليّ أن أحترس وأنا أقود الدراجة خاصة في الليل. في البداية كنت أترجم نصائحه لي بألا أخرق القانون وأن أحافظ على قواعد المرور وألا أكسر الإشارة عندما تكون حمراء. ظل ذلك فِهمي لقوله وقتا طويلا من الزمن. ولكن بعد مرور سنوات بدأت أفهم أن المدير لم يكن يعني ذلك، فلن تجد أحدا يقول ذلك حتى لطفل في السادسة من عمره يذهب للمدرسة الابتدائية لأول مرة. فهذا الطفل قد تشرّب بالفعل من خلال ما رآه منذ ميلاده من جميع المحيطين به، هذا الذي فهمتُ أنا أن مديري يوصي به رجلا قد تخطى الربع قرن من العمر، به محذرا من قيادة دراجة في وقت متأخر من الليل. يتشرّب الأطفال هذا السلوك من خلال القدوة أي الكبار.

إذن ما الذي كان المدير يريد قوله؟

المدير كان يريد نصحي بالانتباه، حتى لو إشارتي أنا خضراء فيجب ألا أعبر مغمض العينين ويجب أن أحترس فلعل سائق السيارة لا يرى دراجتي بسبب الظلام، أو لعله يسوق تحت تأثير الخمر، أو لعله مصاب بضعف نظر ليلي أو لعله ... أو لعله إلى آخر مسببات حوادث الطرق التي تحدث في اليابان، والذي لا بد أن القارئ قد تساءل في نفسه هل إذن لا توجد حوادث مرور بسبب هذا الالتزام الياباني الصارم بالقانون وقواعد المرور؟ ولكن الإجابة هي العكس وهي أن حوادث المرور كثيرة في اليابان وتسببت على سبيل المثال في وفاة ما يزيد على الأربعة آلاف شخص في عام 2014 فقط، وإصابة أضعاف هذا الرقم. والسبب في كثرة حوادث المرور في رأيي هو نفس السبب الذي شرحته فأنا ذكرت أن السائق عندما يرى الإشارة حمراء فهذه الإشارة تتحول لا إراديا في عقله إلى مكبح صارم يمنعه من الضغط على مكبس السرعة وتخطي الإشارة، ولكن العكس أيضا صحيح، أي أن الإشارة الخضراء تتحول في عقله إلى علامة ضغط على السرعة وتخطي التقاطع، ولا يمكن للياباني أن يفهم سببا يجعله يقف أمام إشارة خضراء، فهي لا تعني كما يجب أن تكون يمكنك المرور ولكنها ربما تعني له يجب أن تمر أو احذر من الوقوف أو شيء من هذا القبيل، ولن يفهم أيضا أن هناك من يفكر في السير في الاتجاه العكسي رغم أنه إشارته تمنعه من ذلك، وبالتالي فأي خطأ ولو بسيط، أي سهو، أي إهمال، معناه حادثة تصادم بين السيارتين.

 

 

 

 

الأحد، 17 مايو 2015

المرأة اليابانية

المرأة اليابانية

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا
ترجمة: ميسرة عفيفي

 (هذه المقالة لها قصة: منذ عدة سنوات كنت في حوار مع صديقي وأستاذي، الأستاذ الدكتور إبراهيم عوض أستاذ النقد الأدبي بجامعة عين شمس، عبر المحيطات من خلال البريد الإلكتروني، وتطرق الحديث إلى المرأة اليابانية والصورة الوردية الحالمة التي يحملها العالم بشكل عام والعرب بشكل خاص عن المرأة اليابانية، فقلت له: إن الواقع يختلف كثيرا عن ذلك. فأشار عليّ وقتها بكتابة مقال عن الموضوع، وتوضيح الصورة الحقيقية للمرأة اليابانية تكون أقرب للواقع مما هي عليه الآن حيث لا زال الكثيرون متأثرون بصورة "أوشين" في المسلسل الدرامي الشهير وما ترمز له من تفاني المرأة اليابانية في مثاليّة لأسرتها. وأضاف الدكتور إبراهيم أنه من الأفضل الاستعانة بالإحصائيات والحقائق التي لا يختلف عليها أحد. فوعدته بذلك، وأنني سأحاول كتابة شيء ما بهذا الخصوص. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. فقد مرت السنوات والسنوات ولم يكن باستطاعتي تحقيق هذا الوعد حتى الآن. وعندما وجدت هذه المقالة التي عنوانها هو بالضبط نفس العنوان الذي فكرت فيه لمقالتي المزعومة، قررت ترجمتها ونشرها برا بالوعد وإن كانت لا تفي بالمطلوب ولكن مؤقتا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. تبقى إشارة وهي أن كل الهوامش هي من إعداد المترجم وتم الاعتماد بشكل أساسي على كتاب "اليابان" لمؤلفه تشارلز ماكفارلين وهو موجود على موقع أرشيف دوت أورغ، وكذلك الاعتماد على مواقع من الإنترنت وخاصة موقع ويكيبيديا باللغة اليابانية. / المترجم)




1

هذا كتابٌ في منتهى التشويق. عنوان الكتاب "Japan"[1] (اليابان)، وصدر عام 1852. مؤلفه يدعى تشارلز ماكفارلين[2]، ولم يسبق للمؤلف زيارة اليابان أبدًا، ولكنه يحمل اهتمامًا شديدًا للغاية باليابان. أو على الأقل يدَّعي هو ذلك. وفي كتاب "Japan" جمَّع المؤلف المقالات والأجزاء التي تتعلق باليابان في الكتب باللغات اللاتينية والبرتغالية والإسبانية والإيطالية والفرنسية والهولندية والألمانية والإنجليزية ... إلخ، وألف منها هذا الكتاب الضخم. وقد جمع الكتب التي صدرت في الفترة ما بين عام 1560 وعام 1850[3]، ويذكر المؤلف أنه بدأ الاهتمام الشديد بهذا الموضوع، أي بالشأن الياباني بفضل الجنرال جيمس دروموند[4]. وذكر أن دروموند هذا كان يعمل في شبابه بالتجارة والمشروعات، ورغم أن دروموند إنجليزي الأصل، إلا أنه عاش في اليابان لعدد من السنين متخفيًّا باسم هولندي[5]. وقد قابل المؤلفُ ماكفارلين الجنرالَ دروموند في مدينة برايتون وأطلعه دروموندُ على مقتنياته من الكتب والمؤلفات النادرة التي تتعلق باليابان. ولم يقتصر دروموند على إعارة تلك الكتب للمؤلف بل زاده بأحاديث عديدة ومتنوعة عن أحوال اليابان. قام المؤلف بجعل تلك الأحاديث أحد مراجعه في الانتهاء من تأليف كتابه "Japan". وأضاف المؤلف أن دروموند متزوج من حفيدة الروائي المشهور سموليت[6]، وكانت زوجته من كبار العاشقين للأدب والكتب.
وبسبب ظروف تأليف هذا الكتاب السالفة الذكر، فهو ليس دقيقًا في محتواه كالدقة التي في كتب الرحالة الذين زاروا اليابان وعرفوها بالفعل. وفي الواقع عدم الدقة يصل لدرجة أنه عند وضع الرسومات التوضيحية التي تتخلل الكتاب، اللوحات الخاصة بكوريا على أنها من اليابان. ومع ذلك، لا يمنعنا هذا نحن المعاصرون الآن من الاهتمام بهذا الكتاب. فعلى سبيل المثال، لابد من القول إن نشره جديًّا في الكتاب أن إمبراطور اليابان يملك أعدادا كبيرة من غليون التبغ وأنه يستخدم واحدة مختلفة منها كل يوم لتدخين التبغ، لهو أمر في غاية الفكاهة والظرف.
في هذا الكتاب فصلٌ يعمد إلى التعريف بالمرأة اليابانية ويقدم دراسة عنها.
وأريد هنا أن أقدم لكم تعريفًا سريعًا بهذا الفصل.
يقول المؤلف ماكفارلين:

"المكانة التي تشغلها المرأة في المجتمع، هي المقياس الحقيقي لارتفاع أو انخفاض حضارة ذلك المجتمع، ومكانة المرأة اليابانية في المجتمع أعلى بدرجات عدة منها في أية دولة شرقية أخرى. فلا تعاني المرأة اليابانية ما تعانيه المرأة في الدول الشرقية الأخرى من متاعب وحظ سيئ كالحبس في المنزل. ليس فقط تمتع بمعاملة راقية بدرجة كبيرة من المجتمع، ولكن أيضا تستطيع الاشتراك في اللهو والترفيه مع أبيها وزوجها.
بالطبع يضع اليابانيون عفة الزوجة وعذريتها مقياسًا للشرف، ولكن على الأغلب يمكننا القول إنه ما من امرأة واحدة تصبح زوجة خائنة. وذلك بسبب حقيقة أنها إذا وقعت في الخطيئة مرة، تكون الأخيرة ويكون الموت مصيرها. والحقيقة أن ذلك مطبّقٌ بدرجة عالية من الحزم والصرامة.
في اليابان، يتعلم كل أفراد المجتمع من أعلى الطبقات الاجتماعية إلى أدناها. ومن خلال المعلومات المتاحة لنا، فعدد المدارس في اليابان يفوق عدد المدارس في أية دولة أخرى من دول العالم. بل ويستطيع حتى الفقراء والفلاحون القراءة والكتابة على أقل تقدير. وبالتالي فالنساء متاح لهن التعليم مثل الرجال تمامًا. وبالتالي أيضا ففرصة التعليم مهيأة تماما للمرأة مثل الرجل. وعلى أرض الواقع يوجد عدد كبير من النساء في اليابان من بين أشهر الشعراء والمؤرخين وغيرهم من الكُتّاب والمؤلفين.
أمّا بين الأغنياء والنبلاء، فالرجل عامة لا يحافظ على العفة بدرجة المرأة. ولكن عندما تكون المرأة، أُمّا أو زوجة فهذا أضمن لها في توفير حياة شريفة وعفيفة على مدى حياتها. ويجب القول إن ذلك الأمر ليس به أدنى شك أو ريب، إنْ عرضناه على الحكايات المتنوعة التي وصلت إلينا من اليابان أو من الحقائق التي أبلغها لنا عدد كبير من الرحالة الذين زاروا اليابان.
تعتبر المرأة اليابانية العار من أكثر الأمور التي تستوجب الخجل. لدرجة أنه يصعب علينا ذكر كل الأمثلة على انتحار المرأة بسبب احتقارها أو إذلالها، ولكن تكفي الحكاية التالية لكي تبرهن على هذه الحقيقة.
سافر رجل من الوجهاء في رحلة، وأثناء غيابه وقع رجل من طبقة النبلاء في حب محظور لزوجته (أي زوجة ذلك الوجيه الغائب)، ولكن تلك الزوجة لم تقع فريسة لإغواء ذلك النبيل، ليس هذا فقط بل أنها أيضا وجهت له العديد من الإهانات لفعله ذلك. ولكن يبدو أن ذلك النبيل استخدم العنف أو ربما استخدم الحيلة والمكر في التعدي على عفة تلك المرأة. وعندما عاد زوجها استقبلته الزوجة كما هي عادتها دائما بكل حب. ولكن كان في سلوكها ذلك تمنعا لا يمكن خرقه. فاستعجب زوجها من سلوكها، وحاول استنطاقها عدة مرات عما حدث، ولكن كانت إجابتها كالتالي:
"أرجوك لا تسألني عن شيء أكثر من ذلك حتى الغد. وفي الغد أرجو منك دعوة أهلي وكل وجهاء ونبلاء المدينة، وأمامهم جميعا سأحكي كل ما حدث"
في اليوم التالي تجمع الزوار جماعات وافرادا في منزل الزوج. وكان من ضمنهم ذلك النبيل الذي ألحق العار بالزوجة. وقُدِّم الطعام والشراب للزوار في الشرفة المفتوحة التي توجد فوق سطح المنزل. وبعد أن انتهت المأدبة، وقفت زوجته، وأعلنت على الملأ ما لاقته من عار. ليس هذا فقط، بل قالت لزوجها في بحماس وعزيمة:
"لم أعد استحق أن أكون زوجة لك. أرجوك ... أتوسل إليك أن تقتلني حالا"
حاول جميع الحضور بما فيهم زوجها تهدئتها بالقول إنه ليس عليها أي ذنب وإنها كانت مجرد ضحية لذلك النبيل الآثم. فأظهرت الزوجة شكرها وامتنانها العميق لهم جميعا. ثم بعد ذلك تشبثت بكتف زوجها وبدأت في النواح والبكاء لدرجة ينخلع لها القلب. ولكن بعد أن قبّلت زوجها بغتة، وفي اللحظة التالية دفعت يد زوجها بعيدا وفي لمح البصر هرعت إلى حافة الشرفة، وألقت بنفسها من ذلك المكان العالي إلى سطح الأرض.
ولكن رغم أن الزوجة أعلنت على الملأ ما تعرضت لها من مهانة وعار، إلا أنها لم تعلن عن اسم النبيل الذي قام بذلك. ولذلك هبط النبيل الذي ألحق بها الخزي والعار درجات السلم، أثناء الهرج والمرج الذي حدث بين الحاضرين، ثم قام ببقر بطنه كمحارب عظيم بجوار جثة الزوجة المنتحرة. وطريقة بقر البطن هي الطريقة القومية للانتحار في اليابان، يقوم فيها المنتحر بقطع بطنه طولا عرضا على شكل علامة زائد"

طبقا لماكفارلين مؤلف كتاب "Japan" فهذه القصة مذكورة في كتاب ذكريات راندال[7]. وأنا شخصيا (أكوتاغاوا) لا أدري هل ثمَّة قصة شبيهة بهذه الحكاية في اليابان أم لا. ولكن عند البحث والتفكير قليلا، لا أجد أي أثر في روايات أو مسرحيات عصر توكوغاوا لشيء يشبه هذه القصة. ولكن ربما تكون حدثت في أحد أقاليم اليابان الريفية مثل كيوشو أو غيرها. ولكن إقامة مأدبة طعام في شرفة فوق سطح المنزل، وتقبيل زوجة ساموراي لزوجها على الملأ، هي أمور مضحكة ذات طابع غربي لا تمت لليابان بصلة. ولكن من السهل أن نضحك ونمرر الأمر على أنه حكاية فكاهية مسلية. ولكن لو فكرنا أن ما وصلنا في اليابان عن العالم الغربي منذ القدم به كذلك نفس الكمية من الأخطاء والأغلاط، يجعلنا ذلك نشعر بالأسى والحزن، والحقيقة أننا لا نستطيع السخرية من الغربيين فقط. لا ليس الغرب فقط، بل وحتى الصين جارتنا، مثل هذه الأخطاء موجودة بكثرة لا حد لها. أقرب مثال هو عندما نقرأ رواية "كوكوسنيا" للمؤلف مونزائمون تشيكاماتسو، أوصاف الشخصيات والأماكن نجد أنها شديدة الغرابة ولن تفرق هل هو يكتب عن الصين أم اليابان.
يعطي ماكفارلين مثالا آخر ليوضح إلى أي درجة المرأة اليابانية عظيمة.
"كان أحد أكابر قادة الساموراي اسمه تشويا، يدبر مع صديق له اسمه جوشيتسو مؤامرة ضد الإمبراطور. وكانت زوجة تشويا امرأة في غاية الجمال والذكاء معا. وبعد أن خُطِّط للمؤامرة سرا على مدى خمسين عاما، افتضحت على الملأ بسبب أخطاء وقع فيها تشويا. وعندها أصدرت الحكومة أمرا بالقبض على تشويا وجوشيتسو معا، وطبقا لظروف ذلك الوقت، كان من الضروري جدًا لدى الحكومة القبض على تشويا على الأقل حيّا بأي شكل. ولذلك كان يجب خداعه وأخذه على حين غرة. عندئذ جاء الجنود المكلفون بالقبض على تشويا إلى منزله وصاحوا بصوت عالي أمام البوابة "حريق، حريق". فهرع تشويا خارجا من البوابة ليرى أين الحريق. وهنا هجم عليه الجنود، ولكن تشويا قاتلهم بشجاعة وذبح منهم اثنين، ولكن في النهاية بسبب كثرة الجنود وقلة أعوانه أُلقِيَ القبض عليه. وفي تلك الأثناء كانت زوجته التي سمعت أصوات القتال، وأدركت أن زوجها مصيره القبض عليه، تقوم بالتخلص من كل أوراق زوجها الهامة برميها في النار. وكانت تلك الأوراق بها أسماء النبلاء والساموراي المتورطين في المؤامرة. تصرف زوجة تشويا العاقل هذا لا يزال موضع دهشة وإعجاب اليابانيين جميعا حتى اليوم. لدرجة أنه عند مدح شخص لحسن تقديره الموقف وحسن اتخاذ القرار، تستخدم كلمة: مثل زوجة تشويا"
بالطبع تشويا هذا هو تشويا ماروباشي، وجوشيتسو هو شوسيتسو يوي. وأيضا لو اتبعنا ما يقوله ماكفارلين، فهذه القصة أيضا هي كما المتوقع مذكورة في كتاب راندال "ذكريات إمبراطورية اليابان" سابق الذكر. صورة المرأة اليابانية التي يبلغها ماكفارلين مؤلف كتاب "Japan" هي في الأغلب الأعم امرأة من "المدينة الفاضلة" أو يوتوبيا وحتى في عقد ستينات القرن التاسع عشر، من المؤكد أننا لا نستطيع الوثوق أن المرأة اليابانية كانت بهذه العظمة التي تحافظ بها على عذريتها أو الزوجة كانت تحافظ على عفتها بهذه المثالية. لو سخرنا من سذاجة ماكفارلين وضحكنا فالأمر ينتهي عند هذا الحد، ولكن الحقيقة أنه عند نقل عادات وتقاليد الدول الأجنبية من السهل وقوع تلك المآسي الكوميدية. من فترة بسيطة، قامت كاتبة في إحدى الصحف بالحديث عن حياة المرأة في أمريكا، ومثلتها وكأنها حياة ملائكة تمشي على الأرض، ولكن ربما لو قرأ أحد الأمريكان تلك المقالة، بعد نصف قرن من الآن، من المؤكد أنه سيضحك ساخرا منها، مثلما نفعل الآن مع كتاب "اليابان" ومؤلفه ماكفارلين.

2

عند مقارنة كتاب السير راذرفورد ألكوك[8] "ثلاث سنوات في اليابان" بكتاب ماكفارلين، سنجد أن كتابه استطاع إيصال حقيقة اليابان إلى حدٍ ما.
الكتاب عبارة عن جزئين وصدر عن دار هارفارد للنشر في نيويورك عام 1863. وبه العديد من الرسوم التوضيحية وبه كذلك إعادة نشر للعديد من لوحات كيساي[9].
أولا مؤلف الكتاب السير راذرفورد ألكوك، لم يقم بتخيّل اليابان وهو جالس على مكتبه مثلما فعل ماكفارلين. ولكنه وكما يوضح عنوان الكتاب عاش ثلاث سنوات في اليابان.
وثانيا لم يكن السير ألكوك غير متعلم مثل ماكفارلين، بل كان له نصيب كبير جدا من التعليم وكان بصفة خاصة على علم واسع بفلسفة جون ستيوارت ميل التي كانت على انتشار واسع في أيامه. من أجل ذلك، كان يقوم بإبداء رأيه الشخصي حتى في الأحداث والوقائع التي يراها أو يسمعها في اليابان. ومن ضمن تلك الآراء ما يثير ضحكنا وسخريتنا اليوم، ولكن لا تخلو أيضا من آراء يجب علينا الاستماع لها بجدية. وهذا أمر لا نجد له أي أثرا في كتاب ماكفارلين.
كان السير ألكوك هو قنصل إنجلترا العام المقيم باليابان في نهاية عصر أسرة توكوغاوا. وفي أثناء إقامته في اليابان، تم اغتيال إيي[10] كبير موظفي الحكومة العسكرية أمام بوابة ساكورادا خارج قلعة إيدو. وقتل عدد من الأجانب الغربيين.
إذا ذكرنا ذلك بهذه الطريقة فسيبدو الأمر لا يخصه، ولكن في منطقة شيناغاوا التي كان يسكن فيها السير ألكوك، حدثت عدة حوادث اعتداء على أجانب وقُتل وجُرح عدد منهم في معبد شوزنجي البوذي. علاوة على ذلك فقد قام السير ألكوك بالعديد من الرحلات مثل تسلق جبل فوجي، ودخل العيون الساخنة في منطقة أتامي ... إلخ، وبهذا، فقد عاش في اليابان فترة انتهاء حكومة العسكريين الساموراي ذات الأحداث الوقائع الكثيرة داخليا وخارجيا، بل إنه لم يلتزم بالبقاء في مدينة إيدو فقط، بل دار ولف العديد من الأنحاء والمدن في اليابان، ولذلك ليس من سبيل الصدفة أن ينتابنا اهتمام كبير بتسجيل السير ألكوك هذا لرحلته في اليابان.
لا يحتوي كتاب رحلة اليابان للسير ألكوك على تنوع وإمتاع فني وأدبي مثل كتابات لوتي[11] أو كبلينغ[12]. فهو مثلا عندما يصف صورة لأساكوسا، فالحقيقة أنه لا يشبه أبدا ما كتبه لوتي في وصف أساكوسا الموجود في كتابه "الخريف في اليابان"، حيث تكاد أوراق شجر الجنكو الصفراء وحوائط المعبد الحمراء تظهر أمام عين القارئ. ولكن وكما ذكرت من قبل، فآرائه وتحليله للحوادث التي شاهدها أو سمعها هي في الواقع في منتهى المتعة والتشويق.
مثلا: شهد السير ألكوك في منزل بأحد الأرياف امرأة يابانية عجوز تضع لطفل إبرا صينية بها بخور، فيقول بتألم: "نهوى نحن البشر، قديما وحديثا، شرقا وغربا، إيلام أجسادنا بأنفسنا من أجل الحصول على سعادة خيالية" وأيضا أثناء عبوره لأحد الجبال، سمع فجأة صياح طائر الوقواق، نجده يقول ساخرا: "إن صوت طائر الوقواق يشبه صوت الكروان، طبقا للأساطير اليابانية فإن اليابانيين هم الذين علّموا الوقواق الموسيقى والغناء، ولكن لو كانت تلك الأسطورة حقيقة لكانت أمر يثير الدهشة والعجب. وذلك لأن اليابانيين أنفسهم لا يفقهون شيئا في الموسيقى والغناء!"
وهذه آراء لا يمكن قراءتها دون ضحك وابتسام. ولكن أثناء كتابته أحداث الفوضى التي حدثت خارج بوابة "ساكورادا"[13]، أخذ السير ألكوك ينظّر عن عبادة اليابانيين للثأر، وعن الآثار التي تركتها مسرحية "تشوشينغورا" في عقلية الجماهير، وكان هذا الجزء في غاية المتعة والإثارة، ولكن عندما أنحرفُ عن الحديث الأساسي سيصعب عليّ العودة إلى الموضوع فلذا أود أن أترك التعريف بأمثلة على ذلك إلى فرصة أخرى.
 لكن قبل ذلك ومن أجل التعريف بالمضمون الرئيس لكتاب "ثلاثة أعوام في اليابان"، إذا عرضنا بشكل سريع انطباع السير ألكوك عند دخول السفينة التي استقلها إلى ميناء ناغاساكي للمرة الأولى، فهي كالتالي:
"كان دخول السفينة إلى ميناء ناغاساكي وسط هطول الأمطار في الرابع من يونية (عام 1859). هذا الميناء تم بالفعل وصفه مرات عديدة من خلال أقلام الرحالة الذين زاروا اليابان في الماضي. ولكن، حتى ولو كان النظر وسط سماء ملبدة بالغيوم، فلم يكن المشهد يخلو من الجمال مطلقا. مع دخولنا الميناء تدريجيا تظهر الجزر جميلة أيضا مثل اللوحات المرسومة"
"عند دخول السفينة مباشرة إلى الميناء تظهر لنا مدينة ناغاساكي مترامية الأطراف على الجانب الآخر من الميناء. تقع مدينة ناغاساكي تحت سفح سلسلة جبال صغيرة. وتمتد المدينة عاليا لمسافة كبيرة داخل تلك الجبال كثيفة الأشجار. على يسار الداخل تُرى جزيرة "ديجيما"، وهي عبارة عن أرض منخفضة تأخذ شكل مروحة يدوية. ويد المروحة تتجه ناحية اليابسة، أما الجزيرة نفسها فتتجه بارزة داخل البحر. يمتد طريق وحيد طويل وواسع في ديجيما، ويصطف على جانبيه بيوت من طابقين على الطراز الأوروبي. وعلى ما تبدو فهي مدينة شديدة الصغر. (جزء محذوف بواسطة أكوتاغاوا) الانطباع الأول للميناء نفسه، أنه يشبه بدرجة كبيرة جدًا موانئ خليج النرويج، وبصفة خاصة منطقة دخول ميناء كريستيانا[14] عاصمة النرويج. رغم أن المضيق هناك أجمل بكثير من خليج ناغاساكي. تقع الجبال الصغيرة عند ميناء ناغاساكي هذا أيضا على حافة البحر مباشرة عالية في شموخ، وتنبت في تلك الجبال أشجار الصنوبر في كثافة شديدة، ولكن عند النزول من الميناء نجد أن أنواع النباتات الاستوائية أكثر بكثير من النرويج. مثل الرمان والكاكا والنخيل والخيزران إلخ. ولكن أيضا تنبت نباتات مثل الغاردينيا والكاميليا. ويوجد نبات السرخس المنتشر في كل مكان. وكذلك نباتات اللبلاب تتضافر على الجدران. ويوجد الكثير من أشجار الحسك على حواف الطريق."

الباقي على هذا المنوال. حسنا، ماذا عن آرائه عن المرأة اليابانية؟ يقول السير ألكوك:

"منذ قديم الزمان، يُمدح دائما وضع المرأة الاجتماعي وعلاقاتها مع الرجل في اليابان. ولكن على أرض الواقع هل فعلًا يستحق الوضع هذا المديح أم لا، الواقع أن ذلك أمر مشكوك فيه. وأنا (سير ألكوك)، ليس لدي أي نية إطلاقا الدخول في قضية إنْ كان الياباني منحطًا أخلاقيًّا أكثر من باقي موطني الدول الأخرى أم لا. ولكن القانون في اليابان لا يعاقب الأب الذي يبيع ابنته أو يوظفها لكي تعمل في الدعارة. ليس هذا فقط، بل أنه يُمنح ترخيصًا بذلك. بل وعلاوة على ذلك، حتى جيرانهم لا ينتقدوهم على ذلك مطلقًا. وأنا لا أؤمن بتاتا أن دولة مثل هذه بها شعور أخلاقي طبيعي أو صحي.
بالطبع أفهم أن اليابان لا يوجد بها نظام عبودية ورق. لا يوجد عبيد أو أقنان يتم بيعهم وشراءهم مثل المواشي والبهائم. (في الأصل عدم وجودهم بتاتا هو نصف الحقيقة، والسبب أن الفتاة اليابانية وكما يسمح بذلك القانون، يمكن بيعها وشرائها في نطاق عدد محدد من السنوات. وإذا نظرنا لذلك فعلى الأرجح أيضا أنه يتم بيع وشراء الفتيان والرجال كذلك) ولكن ما دام هناك نظام الاحتفاظ بالمحظيات، فمن الواضح لكل ذي عينين أن الحفاظ على قدسية النظام الأسري، هو أمر مستحيل.
وحتى هذه اللحظة لا يمكن لنا اكتشاف الأمر الذي يخفف من مخاطر وأضرار تلك الجرائم الشنيعة للشعب الياباني عامة. ولكن يمكن اعتبار أن جزءًا من عناصر تخفيف ذلك، يبدو في وجود سلطة قوية للغاية للأم تجاه أبنائها، وهو نفس الحال في الصين أيضا.
المرأة اليابانية يتم التعامل معها مثل السلعة، فتباع لرجل يتزوجها، دون النظر مطلقا إلى إرادتها، ولا إلى حقوقها بصفتها امرأة. وكذلك يعاملها الزوج أثناء حياته مثل البهائم أو العبيد.
ولكن سلطة المرأة مطلقة تجاه أبنائها كأم، ما داموا أطفالا. وربما يتم تخفيف تلك الأضرار والمخاطر من خلال احتلال الأم في اليابان منزلة أعلى من الأب. وعلى الأرجح أن إمكانية المرأة اعتلاء العرش الإمبراطوري نفسه هو أحد الأمثلة على ذلك.
فقد وصلت المرأة لعرش الإمبراطورية اليابانية فعلا مرات عديدة في الماضي القريب والبعيد. وعلى الرغم من أن وضع المرأة اليابانية هي أنها تُباع وتُشترى مثل البهائم والعبيد بشكل مؤكد، إلا أن الأمر على ما يبدو لا يخلو من نقاط تعينها على التحمل بعكس المتوقع. ولكن فيما يتعلق بهذه النقطة، لا يمكننا إصدار حكم واضح ومؤكد إذا لم يتم بحث الأمر من نواحي عدة. ويبدو كذلك أن علاقة المحبة والود بين الوالدين والأبناء قوية للغاية. على أي حال عاطفة حب الأبناء لدى اليابانيين عظيمة جدا بلا أي شك"
لقد أصاب السير ألكوك كبد الحقيقة عند حديثه عن المرأة اليابانية أكثر بكثير من ماكفارلين. ويبدو أن وضع المرأة في اليابان لم يتقدم خطوة واحدة للأمام منذ عصر إقامة السير ألكوك في اليابان أي منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن.
إنه لأمر مشكوك فيه جدا أن يكون امتداح الغربيين قبل السير ألكوك للمرأة اليابانية جاء بسبب دراستهم ومعرفتهم لوضع المرأة الاجتماعي في اليابان دراسة موضوعية ومحايدة. ولكن على العكس من ذلك المؤكد أن حكمهم هذا نتيجة لتعاملهم مع النساء اليابانيات من نوع "الراشامِن"[15]، فكنّ صادقات ومخلصات، وربما سبَّب ذلك عندهم نوعا من أنواع الشكر والعرفان الكبيرين.
في أوائل حكم أسرة توكوغاوا، عندما رُحِّل الإنجليز من ناغاساكي، كانوا يُظهرون حبا عظيما لزوجاتهم اليابانيات ويرفضون بشكل كبير الرحيل عنهن. وإذا كان الأمر كذلك فلو كان السير ألكوك له راشامن واحدة، ربما لم يكن بالضرورة وصل احتقاره للمرأة اليابانية عند هذا الحد الذي رأيناه. ولكن ربما بسبب ذلك استطاع الوصول إلى فهم قريب جدا من الحقيقة تجاه المرأة اليابانية، وعلى الأقل يجب القول إن في ذلك "سعادة كبرى" لمحبي القراءة من الأجيال التي تلت السير ألكوك.
عندما ذهبتُ [أكوتاغاوا] لزيارة ترفيهية في الصين منذ عدة أعوام، وفي مركب يبحر في أعالي نهر اليانغتسي، كان معي راكب نرويجي. كان ذلك النرويجي في قمة الغضب من انخفاض الوضع الاجتماعي للمرأة في الصين.
فعلى حد قوله، في وقت المجاعة الكبرى التي حدثت في منطقة هينان كان الصينيون يجيئون إليهم لبيع زوجاتهم قبل أن يفكروا في بيع أبقارهم. ولكن رغم ذلك فهذا الرجل النرويجي، قد جعل الزوجة الصينية وكذلك اليابانية في أعلى عليين من المديح. لدرجة أنه في الواقع حدث بينه وبين سيدة أمريكية كانت معنا على نفس المركب معارك كلامية عنيفة بسبب ذلك. نستخلص من ذلك أن الرجل أي رجل في داخله، وعلى الرغم من كل الحجج والأسباب التي يسوقها، عندما يتعامل مع المرأة باعتبارها زوجة، لو استعارنا كلام السير ألكوك: يبدو أنه لا يستطيع منع نفسه من مدح المرأة التي يكون وضعها مماثل لوضع البهائم والعبيد. والخلاصة أن الحركة النسائية لا يمكن لها النجاح بغير الاعتماد على النساء أنفسهن.

(الشهر الخامس من العام الرابع عشر من عصر تايشو [5/1925])


[1] اسم الكتاب بالكامل هو "JAPAN An Account Geographical and Historical from the Earliest Period at Which The Islands Composing This Empire were Known to Europeans, Down to The Present Time and The Expedition Fitted Out in the United States, etc." ويقال إن كتاب "اليابان" هذا كان أحد الوثائق التي اعتمد عليها الأسطول الأمريكي بقيادة ماثيو بيري عند اقتحامهم اليابان في عام 1853 لإجبارها على كسر عزلة الدولة عن العالم وفتح موانيها وأسواقها للدول الغربية وتوقيع عدة اتفاقيات ثنائية كانت الشرارة الأولى التي انطلقت منها ثورة ميجي وبدأت اليابان الدخول بقوة للعصر الحديث / المترجم (وكل الهوامش من إعداد المترجم م. ع.)
[2] Charles Macfarlane (1799 ~ 1858) كاتب أسكتلندي له عدة كتب عن الرحلات وتاريخ الدول عاش فترة طويلة من حياته في إيطاليا وتركيا.
[3] يذكر المؤلف في الكتاب الإنجليزي الأصلي أنه جمّع الكتب التي بين عامي 1560 و1838 وهذا الأوقع لأنه يفترض أنه ألف كتابه هذا قبل عام 1850.
[4] اسمه في الكتاب الأصلي James Drummond ووظيفته هي commissary general.
[5] في ذلك العصر كانت اليابان تتبع سياسة الانغلاق التام ولا تسمح لأحد بدخول اليابان أو الخروج منها إلا بناء على إذن من الحكومة العسكرية، وكانت هولندا والصين استثناء من ذلك.
[6] Tobias George Smollett (1721 ~ 1771) شاعر ومؤلف أسكتلندي شهير، برع في أدب "الصعلكة" وتأثر به العديد من مشاهير الروائيين مثل تشارلز ديكينز وجورج أورويل.
[7] اسم الكتاب Memorials of the Empire of Japon لمؤلفه توماس راندال Thomas Rundall.
[8] السير راذرفورد ألكوك Sir Rutherford Alcock (1809 ~ 1897) طبيب ودبلوماسي بريطاني شغل منصب أول قنصل عام لبريطانيا في اليابان من عام 1859 وحتى عام 1865. ألف ثلاثة كتب عن اليابان.
[9] الرسام كيساي كُواغاتا (1764 ~ 1824) يعرف أيضا باسم ماسايوشي كيتاو، من أشهر رسامي عصر إيدو في اليابان.
[10] ناوسكيه إيي (1814 ~ 1865) كان يشغل منصب كبير موظفي قلعة إيدو وهو منصب رفيع في عصر حكومة إيدو ويتم مقارنته برئيس الوزراء حاليا حيث كان هو الذي يضع سياسة الدولة في ذلك العصر وهو الذي وقع اتفاقية التعاون والتبادل التجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية التي كان سببا في ثورة وغضب عدد كبير من الساموراي وتتابعت الأحداث إلى أن تم اغتياله عام 1860 وهو في الرابع الأربعين من العمر ضمن أحداث الفوضى التي قادت إلى قيام ثورة ميجي في عام 1867 وانهيار حكم الساموراي وتسليم مقاليد الحكم للإمبراطور الشاب ميجي.
[11] بيير لوتي (1850 ~ 1923) كاتب فرنسي اسمه الأصلي لويس ماري جوليان فياو كان يعمل ضابط في الأسطول الفرنسي وزار اليابان عدة مرات وكتب عنها كثيرة في رواياته ويومياته.
[12] جوزيف روديارد كبلينغ (1865 ~ 1936) روائي وشاعر إنجليزي ولد وتربى في الهند حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1907 ليكون أصغر من حصل عليها في التاريخ، زار اليابان أكثر من مرة وترك عدد من الدراسات عن اليابان.
[13] انظر هامش رقم 10.
[14] كانت عاصمة النرويج هي مدينة كريستيانا التي أسسها الملك كريستيان الرابع عام 1624م وسميت باسمه حتى عام 1925 الذي تغير فيه اسم العاصمة إلى الاسم الحالي أوسلو عندما استقلت النرويج عن الاتحاد السويدي.
[15] كلمة تحقير تشير إلى المرأة اللعوب التي تعمل في تلبية رغبات الأجانب الجنسية.