بحث في هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 20 سبتمبر 2014

من قتل هيتوشي إيغاراشي؟ - القضية أقفلت بسبب التقادم والقاتل طليق


ميسرة عفيفي

مشهد أول
في الساعة الثانية بعد ظهر العاشر من رمضان عام 1393 الموافق السادس من أكتوبر عام 1973 قامت قوات الجيش المصري بعبور قناة السويس وتحطيم خط برليف على عدة محاور والاشتباك مع العدو الصهيوني في معارك دامية برا وجوا، مكبدة له خسائر فادحة على كل المستويات. مما جعل الحكومة الأمريكية تأخذ قرارا بمد جسر جوي بينها وبين إسرائيل من أجل تعويض الخسائر التي أصابت على عدة جبهات الجيش الأقوى في الشرق الأوسط والذي كان يوصف بأنه الجيش الذي لا يقهر.
عندها اجتمعت كلمة القادة العرب ربما للمرة الأولى معربين عن تأييدهم الكامل لمصر ولدول المواجهة مع العدو الصهيوني. وفي الرابع والعشرين من شهر رمضان 1393 الموافق للعشرين من أكتوبر 1973 قررت الدول العربية المصدرة للنفط استخدام البترول كسلاح لأول مرة في معركتهم ضد عدوهم، وأخذت تلك الدول قرارا تاريخيا بمنع تصدر النفط العربي لأية دولة تؤيد إسرائيل أو تدعمها.

مشهد ثاني
في السادس عشر من نوفمبر لعام 1973 يجتمع مجلس الوزراء الياباني برئاسة رئيس الوزراء كاكوئيه تاناكا في طوكيو لبحث تداعيات قرار وقف تصدير النفط العربي على الأمة اليابانية والمجتمع الياباني بعد أن انتشرت الشائعات في عموم الدولة اليابانية بالوقوع في أزمة اقتصادية طاحنة وحدوث شح في المواد البتروكيماوية مما نتج عنه تكالب الشعب على تخزين تلك المواد ووقوفهم في طوابير لا تنتهي من لأجل الحصول على المواد التي توقعوا نفاذها من الأسواق بسبب قلة النفط وكانت أشهر هذه المواد هي أوراق التواليت التي لا يستغنى عنها اليابانيون لقضاء حاجتهم لأنهم لا يستخدمون الماء في الطهارة من الحدث. اتخذ مجلس الوزراء عدة قرارات لمواجهة الأزمة وأحد هذه القرارات هي البحث عن بديل ولو مؤقت للدول العربية لكي تستورد اليابان منه النفط بأسعار معقولة بعد عقد اتفاقية استراتيجية معه، وكانت إيران الشاهنشاهية هي الدولة المقترحة. وبالفعل تم توقيع عدة اتفاقيات بين الدولتين في عام 1974 وكانت إحدى هذه الاتفاقيات هي اتفاقية لتشجيع التبادل السياحي بين البلدين، وبالتالي إلغاء شرط الحصول على تأشيرة دخول موطني إحدى البلدين إلى الأخرى بغرض السياحة، والسماح لمن يحمل جواز سفر إحدى البلدين بالدخول للدولة الأخرى دون تأشيرة والبقاء فيها للسياحة لمدة ثلاثة أشهر.

مشهد ثالث
في الأول من فبراير عام 1979 يعود الإمام الخميني إلى طهران ليقود آخر مرحلة من مراحل الثورة الإيرانية ضد الشاه محمد رضا بهلوي وبقايا حكمه، ليتم في الأول من أبريل إجراء استفتاء شعبي عام على جعل إيران جمهورية إسلامية يقودها روح الله الخميني. وتبدأ الدولة الجديدة في تدعيم أركانها باستبعاد كل من يعارض التوجه الجديد للدولة ممثلا في قائدها الأعلى، وبدأ ما سُمّي بالثورة الثقافية فتم إعدام عدد كبير من جنرالات الجيش السابقين، وتم غلق الجامعات لفترة مؤقتة، وإبعاد آلاف الضباط عن الجيش وعشرات الآلاف من المدرسين عن التدريس.
وبدأت أعداد كبيرة من الإيرانيين الذين كانوا يؤيدون الخط الذي كانت تسير عليه الدولة في عهد الشاه في البحث عن بلد يهاجرون إليه بعد سيطرة الثورة الإسلامية الشيعية على مقاليد الحكم وبدأت تضيق الخناق على المخالفين لأفكارها حتى أولئك الذين قاموا بالثورة مع التيار الإسلامي من تيارات ثورية غير إسلامية. وهاجر الكثير من هؤلاء إلى العالم الغربي سواء أوروبا أو أمريكا. ووجد جزء من أولئك الذين لم يرضوا بما آلت إليه الثورة من حكومة إسلامية متشددة في نظرهم، وجد فرصة في الاتفاقية التي بين بلدهم واليابان السابق ذكرها، فشدوا الرحال إلى طوكيو وغيرها من المدن اليابانية التي استقبلتهم في فترة استثنائية من تاريخ اليابان يطلق عليها فترة ازدهار اقتصاد الفقاعة. وهي الفترة من عام 1986 حتى عام 1991.

مشهد رابع
بعد عقدين كاملين من النمو الاقتصادي المتسارع منذ منتصف الستينات وحتى منتصف الثمانينات وصلت اليابان إلى مصاف الدول الصناعية الكبرى وحققت نهضة صناعية واقتصادية حقيقية أدت إلى زيادة مطردة في الدخل القومي وبالتالي الدخل الفردي للمواطنين مما زاد من كمية الأموال الموجهة للاستثمار ولكن بسبب ارتفاع سعر الين الياباني تدريجيا بعد إجبار اليابان على تحرير سعر الصرف، ولأسباب عديدة أخرى تقلصت إمكانية زيادة الاستثمارات بالطرق الطبيعية وهي بناء المصانع وزيادة التصنيع والإنتاج. فاتجه الجميع سواء الأفراد أو المؤسسات إلى الاستثمار في العقارات والأراضي والأسهم والسندات وغيرها من أشكال الاستثمار غير المنتج. مما أدى إلى زيادة غير حقيقية في أسعار تلك الأشياء فزاد الطلب عليها أكثر وزادت أسعارها أكثر وأكثر، فوصل سعر المساحة التي داخل نطاق خط يامانوتيه الدائري للسكك الحديدية في مركز طوكيو والتي تبلغ 63 كيلومتر مربع، إلى سعر يمكن به شراء مجمل أراضي الولايات المتحدة الأمريكية. وحدث انتعاش اقتصادي غير حقيقي جعل اليابانيين لديهم فائق في الأموال مما جعلهم أيضا لا يرغبون في العمل في الأعمال التي توصف دائما في اليابان بأعمال الثلاثة "K" هو الأعمال الشاقة والخطرة والقذرة وهذه الصفات الثلاثة تبدأ بحرف "K" في اللغة اليابانية، وأدى ذلك لتهاون الحكومة مع وجود عمالة أجنبية غير شرعية لكي يقوموا بالعمل بهذه الأعمال التي ابتعد عنها اليابانيون للأسباب السالفة الذكر.

مشهد خامس
يتجمع في حديقة يويوغي التي تقع بجوار معبد ميجي الكبير بمدينة طوكيو، أعداد كبيرة من المقيمين غير الشرعيين، الأغلبية العظمى منهم إيرانيين دخلوا اليابان بناء على الاتفاقية التي تسمح لمن يحمل الجنسية الإيرانية بالدخول إلى اليابان للسياحة لمدة ثلاثة أشهر، ويعمل الكثير منهم في أعمال مشبوهة في نطاق منطقة رمادية قانونيا، بل وعدد منهم كذلك يعمل بشكل صريح في أعمال الجريمة المنظمة كبيع المخدرات وتزييف بطاقات الهاتف والعملات المعدنية المستخدمة في آلات البيع الإلكترونية. ولكن في عام 1992 ألغت اليابان اتفاقية التبادل السياحي المشار إليها بينها وبين إيران لأسباب عديدة أشهرها هي الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أصابت اليابان وجعلت نسبة البطالة ترتفع وبالتالي شدّدت الحكومة اليابانية قبضتها على المقيمين غير الشرعيين الذين يعملون بشكل غير قانون وشددت من العقوبات على المخالفين. فقل عدد الأجانب المقيمين بشكل غير شرعي في البلاد وخاصة الإيرانيين ليصبح عدد الإيرانيين المقيمين في اليابان يزيد قليلا على الأربعة آلاف (إحصائية وزارة الخارجية اليابانية لعام 2010) بعد أن كان يقدر عددهم في وقت الذروة بأكثر من أربعين ألفا في كل أنحاء اليابان.

مشهد سادس
في الحادي عشر من شهر يوليو عام 1991، يقف د. هيتوشي إيغاراشي الأستاذ المشارك بجامعة تسوكوبا القومية وحيدا في بهو مبنى الأبحاث المكون من سبعة طوابق والخاص بدراسات الاجتماع والإنسانيات الذي يعمل به د. إيغاراشي، ينتظر المصعد بعد انتهائه من عمله ذلك اليوم، وفجأة يأتي شخص من خلفه حاملا آلة حادة يطعن بها د. إيغاراشي عدة طعنات نافذة حتى يرديه قتيلا، ثم يفر هاربا من المكان دون أن يراه أحد. ولا يتم اكتشاف جثة د. إيغاراشي إلا صباح اليوم التالي.
كان د. إيغاراشي قد ولد عام 1947 في محافظة نييغاتا بشمال اليابان، وتخرج من جامعة طوكيو القومية أفضل جامعات اليابان عام 1970 في قسم الرياضيات بكلية العلوم، ولكنه حول تخصصه بعد ذلك إلى الدراسات الإنسانية لينهي دراسة الدكتوراه عام 1976 من نفس الجامعة في تخصص عام الجمال والفنون، ثم يسافر إلى إيران في نفس العام ليعمل كباحث في الجمعية الإيرانية الشاهنشاهية للفلسفة حتى قيام الثورة الإسلامية في عام 1979، ليعود إلى اليابان في نفس العام ويواصل دراساته وأبحاثه حول الإسلام وخاصة مرحلة النهضة الإسلامية وعلاقتها بنقل العلوم والفنون من اليونان إلى أوروبا، ويصدر مؤلفات عدة مثل "أبحاث ابن سينا – طب الشرق ومعرفته"، و"عصر النهضة الإسلامية"، و"الموقف المتأرجح سوف يقضي على اليابان – هل نحتاج العرب أم لا نحتاجهم؟"، ويقوم بالاشتراك مع أخرين بترجمة "موسوعة الطب" لابن سينا، وأخيرا في عام 1990 يقوم د. إيغاراشي بترجمة رواية "آيات شيطانية" لسلمان رشدي التي صدرت عام 1988 والتي أثارت جدلا واسعا ولاقت استهجان واستياء الغالبية العظمى من المسلمين وبسببها أصدر الإمام الخميني في فبراير من عام 1989 فتوى بإهدار دم مؤلفها سلمان رشدي الذي يعيش منذ ذلك الحين متخفيا لا يظهر علانية إلا في حماية مشددة من الشرطة.

مشهد سابع
تقلع ظهر الثاني عشر من شهر يوليو عام 1991 طائرة من مطار ناريتا شرق طوكيو عليها شاب بنغالي يرحل من اليابان فجأة وبدون مقدمات بعد أن جاء منذ فترة قصيرة ليدرس في جامعة تسوكوبا، عائدا إلى دكا عاصمة بلاده بنغلاديش دون أن يخبر أحد أو يودعه أحد من أصدقائه أو معارفه.

مشهد أخير
الشرطة اليابانية تعقد مؤتمرا صحفيا تعلن فيه عدم توصلها لأية قرائن أو أدلة تساعد في الوصول إلى معرفة الجاني الذي قام بطعن د. إيغاراشي وتلمح إلى اكتشافها بضعة أوراق في مكتب د. إيغاراشي بالجامعة بها أربعة سطور يُعتقد أن د. إيغاراشي قد كتبها بنفسه باللغة اليابانية واللغة الفرنسية يقول في الجزء الفرنسي منها: "سأقُتل تحت بئر السلم"، مما يعني أن د. إيغاراشي كان يشعر بمن يتربص به ويريد قتله. لكن الشرطة قالت إنها لا تستطيع أن تحدد هوية القاتل أو أسباب القتل وإنها لا تستبعد أن تكون مشاكل شخصية هي التي وراء الجريمة. ولكن حتى هذه اللحظة لم يتم توجيه الاتهام إلى أحد. وفي الحادي عشر من يوليو 2006 أعادت الشرطة مقتنيات الضحية التي كانت ضمن أحراز القضية إلى أهل القتيل بسبب مرور خمسة عشر عاما على وقوعها وانتهاء المدة القانونية لمقاضاة الجاني لو كان يعيش طوال تلك الفترة داخل اليابان، أما لو كان خارج اليابان فتخصم فترة وجوده خارج اليابان من فترة الخمسة عشر عاما حسب قانون العقوبات الياباني.


المصادر: عدة مواقع باللغة اليابانية على الإنترنت.

جريدة الاتحاد الإماراتي الملحق الثقافي
http://www.alittihad.ae/details.php?id=79131&y=2014&article=full

الخميس، 11 سبتمبر 2014

أفكار تتزيّن بالأقراط والثعابين

نموذج من الاتجاهات الأدبية عند الروائيين اليابانيين الشبّان

أفكار تتزيّن بالأقراط والثعابين


تاريخ النشر: الخميس 04 سبتمبر 2014
ميسرة عفيفي
* «هيتومي كانيهارا» تقود أبناء جيلها ضد نواميس المجتمع
* حبكة روائية غريبة عن إعادة تشكيل الجسد
هيتومي كانيهارا أديبة يابانية شابة ولدت في 8 أغسطس من عام 1983 وتبلغ حاليا الثلاثين من العمر.
 
 
فازت كانيهارا بعدة جوائز أدبية رفيعة منها جائزة أكوتاغاوا الشهيرة وحصلت عليها في عام 2004 مناصفة مع الأدبية ريسا واتايا، وكانتا وقتها أصغر من حصل على تلك الجائزة المرموقة، إذ كانت واتايا في التاسعة عشرة من العمر وكانت كانيهارا في العشرين في عمرها.
تعتبر كانيهارا حاليا أكثر الأدباء اليابانيين الشباب الذين تتسلط عليهم أنظار النقاد بوصفهم أفضل من يعبر عن الحركة الأدبية اليابانية في الألفية الثالثة.
وتترجم أعمالهم إلى العديد من اللغات الأجنبية.
تعتبر هيتومي كانيهارا ظاهرة غريبة بين الأدباء الشباب الحاليين في اليابان، فرغم أن والدها أستاذ في جامعة مشهورة في اليابان، وهي جامعة هوسيه وهو متخصص في دراسة أدب الأطفال، ومترجم شهير، إلا أنها تركت الدراسة رسميا في المرحلة الثانوية، وتقول إنها لم تذهب للمدرسة تقريبا منذ سن العاشرة، أي منذ كانت في الصف الرابع الابتدائي.
وإن كانت قد التحقت كطالبة مستمعة بالحلقة الدراسية (سيمينار) لوالدها في الجامعة وهي في سن الخامسة عشرة.
بداية مبكرة
وبدأت كانيهارا كتابة الروايات في سن الثانية عشرة، وهي السن التي ذهبت فيها مع والدها إلى الولايات المتحدة الأميركية بسبب عمله هناك، ورجعت إلى اليابان بعد قضاء عام في سان فرانسيسكو.
تعتبر حياة كانيهارا الشخصية مليئة بالأحداث والمعاناة لدرجة إدمانها في سن الخامسة عشرة من عمرها عادة قطع الرسغ (وهي عادة تعبر عن رغبة الشخص في إيذاء نفسه بجرح الرسغ بسكين أو موسى وإن لم تصل إلى الحد الذي يؤدي إلى الانتحار).
وترتبط هذه العادة عامة بإدمان الخمر أو المخدرات أو كلاهما معا.
أما في حالة كانيهارا فلا يعرف مدى وقوعها في تلك العادات السيئة، وإن كان محتوى رواياتها ينم على معرفتها بتفاصيل دقيقة عن العالم السفلي للشباب الياباني في العصر الحالي وخاصة عصر ما بعد بداية الألفية الثالثة.
حيث ابتعد الشباب الياباني رويدا رويدا عن تقاليد بلده العريق واقترب كثيرا من الثقافة الغربية الحديثة، حيث لا وجود لقيود أو حدود على التصرفات إلا ما يفرضه القانون الوضعي الذي يتغير ويتبدل مع مرور الأيام والأعوام.
ورغبة الشباب عامة بتحدي أي قانون وأي قواعد.
إلا أن الملاحظ في روايات كانيهارا أن شخصيات الشباب ليس بها أية تعقيدات نفسية أو خلل اجتماعي أسري يدعو إلى تلك السلوكيات التي تبتعد عما هو مألوف في المجتمع الياباني، بل هي تنقل ما يعيشه الشباب بلا أي محاولة لإظهار أن ذلك غير طبيعي، أو أن هناك وراء تلك التصرفات أسباباً ما دعت شخصيات الرواية إلى تلك التصرفات.
ربما لأنها ترى أن ذلك هو الطبيعي وأن اختلاف سلوك البشر وأخلاقهم أمر لا مفر منه مع مرور الزمن وتتطور المجتمعات.
رأي مخضرم
على سبيل المثال في روايتها «السقوط على نجم» الصادرة عام 2007 عن دار نشر شوئيشا، تحكي بمنتهى التلقائية قصة فتاة كانت ترتبط بشاب في مثل عمرها وتعيش معه في نفس المنزل، ولكنها بعد أن أصبحت روائية مشهورة، تتعرف على شخص أثناء العمل فتقع في حبه وتترك منزل حبيبها الأول، لتسكن بمفردها بالقرب من منزل حبيبها الجديد، الذي نفاجأ أنه يعيش مع شخص رابع في علاقة مثلية شاذة.
وتستمر أحداث الرواية لتحكي تفاصيل هذه العلاقات المتشابكة الغريبة بين فتاة وثلاثة ذكور.
حبيبها السابق الذي لا ييأس من محاولة حثها على العودة له ومواصلة العيش معه في منزله كما كانا، وحبيبها الحالي الذي يعاني هو الآخر من تمسك شريكه المثلي به وعدم سماحه له بفسخ تلك العلاقة الشاذة بينهما وتهديده له بالانتحار إذا ما فكر في مغادرته منزلهما، بل ومحاولته ذلك أكثر من مرة.
كل هذه الأحداث ترويها البطلة بلسان المتكلم بدون أي شعور بالغرابة وبدون أي محاولة للتبرير.
لأنها تروي واقعا معاشا بدون افتعال وبدون النظر له نظرة استعلائية رافضة.
وتنتهي الرواية كما بدأت بمشهد للبطلة مع حبيبها وهو يقول لها بسهولة: لنتزوج، ولكن البطلة تجاريه وتقترح مازحة عدة أيام بدون الوصول إلى قرار نهائي وتنتهي الرواية بدون معرفة مصير كل أبطالها.
تقول الأديبة المخضرمة والراهبة البوذية جاكوتشو سيْتوأوتشي (92 عاما) إنها من أشد المعجبين بروايات هيتومي كانيهارا لأنها ترى بها جِدّة وحيوية لا توجد لدى المخضرمين من الكتاب والروائيين.
وإنها من خلال قراءة روايات الأدباء الشبان في اليابان تحصل على الدهشة والمفاجأة التي لا تحصل عليها من قراءة كبار الكتاب الذين تعرف على الأرجح ماذا سيكتبون حتى من قبل أن تقرأ أعمالهم.
وتقول جاكوتشو عما يجذبها في روايات كانيهارا: أن شيئا ما منها يظل باقيا داخل عقل قارئها بعد انتهاء القراءة ولا ينفلت منه طويلا.
تشكيل الجسد
في روايتها الأشهر «أقراط وثعابين» والتي حازت جائزتي سوبارو وأكوتاغاوا معا، تحكي كانيهارا قصة الفتاة «روي» التي تقابل الفتى «أما» الذي يحادثها بود في أحد النوادي الليلية دون سابق معرفة، ويقول لها: هل تعرفين اللسان المشقوق؟ فلما تسأل مندهشة عن معنى ذلك، يُريها لسانه وقد انشق من منتصفه إلى جزأين ليتشابه مع ألسنة الثعابين.
انبهرت روي من ذلك اللسان وجذبها حديث «أما» عن فكرة إعادة تكوين الجسد، فلازمته منذ تلك الليلة وأصبحت حبيبة له تسكن معه في غرفته.
ويأخذها «أما» معه إلى شخص يدعى شيبا سان صاحب محل للوشم والأقراط، لتبدأ معه مشوار إعادة تشكيل جسدها، بداية من ثقب لسانها ووضع قرط به استعدادا لشقه إلى نصفين، وانتهاء برسم وشم ضخم على ظهرها لصورة تنين يتصارع مع حيوان خرافي يظهر كثيرا في الأساطير الصينية ويسمى كيلين أو (Qilin).
وخلال عملية إعادة تشكيل الجسد تلك، يقع رسام الوشم شيبا سان تدريجيا في حب روي، ولا تمانع روي في إقامة علاقة جسدية معه رغم استمرار حبها وإقامتها مع «أما».
في أحد الليالي وأثناء سير روي و«أما» في الطريق يحاول بعض الشباب الماجن الاعتداء على روي، وهنا يتحول «أما» الشاب الهادئ الوديع الذي لا ينم مظهره الخارجي المنفر عن ميله للعنف.
فهو يتميز بشعر حلقه من الجانبين وأطال وسطه مثبتا لأعلى في تقليد لخوذة الجنود الرومان في العصور الغابرة، وبكمية الأقراط التي يضعها في جسده وبلسانه المشقوق ووشمه على أغلب جلد البشرة.
كل ذلك لا ينم إلا على مدى طيبة قلبه ووداعته، ولكن «أما» ذلك الطيب الوديع يتحول إلى وحش كاسر عندما يحس أن أحدهم يحاول إيذاء روي، فينقض على واحد من هؤلاء الشباب المعتدين وينهال عليه ضربا، بعد أن هرب الآخرون عندما رأوا أمامهم هذا الوحش العنيف، ولا يتركه إلا بعد استعطاف لوي له بتركه وضرورة الهرب من المكان.
يهرب الاثنان بعد أن يتركا المكان ويعودا إلى منزلهما.
بعد أيام تقرأ روي في الجرائد خبرا عن موت أحد الشباب بعد الاعتداء عليه بالضرب وتحطيم وجهه.
وتعرف من تفاصيل الخبر أنه الشاب الذي ضربه «أما»، وأن الشرطة تبحث عنه.
تخفي روي الخبر عن «أما» وتحاول بشتى الطرق تغيير مظهره الخارجي بحلق شعره وصبغه بلون مختلف، ولكن دون أن تخبره بالسبب بل تقول له فقط إنه يبدو بذلك أكثر وسامة وأنها تحب مظهره الجديد.
وفجأة يختفي «أما» وتحاول روي البحث عنه، فتجد أنها لا تعرف عنه أي شيء، حتى اسمه الحقيقي لا تعرفه، لا تعرف إلا أنه «أما» ذلك الشاب الطيب الوديع الذي يرتكب جريمة قتل من أجلها.
وهنا تلجأ روي إلى شيبا سان الذي لم تنقطع علاقتها الجسدية معه طوال الرواية، فيساعدها في البحث عن «أما» ويذهبا معا لإبلاغ الشرطة وإعطائها صورته ومواصفاته.
وبعد ذلك يتصل شيبا سان بروي ليخبرها أن الشرطة تريد منهما الذهاب إلى القسم للتعرف على جثة يشتبه أنها جثة «أما».
وتذهب روي لتجد أن الجثة جثة «أما» فعلا، ولكنها قد تحولت إلى جسد مشوّه بعد الاعتداء عليها بشدة لدرجة لا يمكن معها معرفة ملامح وجهه ولكنها تتعرف عليه من سمات جسده ومن الأقراط والوشم المميز له.
وتعرف بعد ذلك أنه تم الاعتداء عليه جنسيا قبل قتله.
وهنا تشك روي في أن شيبا سان هو الذي قتل «أما»، ليزيحه عن طريق زواجه منها.
ولكنها لا تملك الدليل ولا الشجاعة لتسأل شيبا سان عن ذلك.
وتنهي كانيهارا الرواية بشكل غامض فلا نعرف من قتل «أما» هل هو شيبا سان أم أصدقاء الشخص الذي قتله «أما» والذي يبدو أنهم أعضاء في عصابة من عصابات الجريمة المنظمة.
ولا ندري هل ستتزوج روي من شيبا سان كما عرض عليها الزواج، أم ستتركه وتعود إلى حياتها الهادئة قبل التعرف على الاثنين.
الرواية تمتاز بسلاسة وتلقائية شديدة في السرد بحيث تأخذ بتلابيب عقل القارئ فلا يتركها إلا وقد أنهاها في جلسة واحدة، ولا يستطيع التخلص من التفكير في محتواها بعد قراءتها كما قالت الراهبة العجوز والأديبة الأريبة جاكوتشو سيْتوأوتشي ذلك عن حق.
جائزة مستحقة
يقول الروائي الشهير ريو موراكامي عضو لجنة اختيار جائزة أكوتاغاوا العريقة إنه ظل الليلة التي سبقت اجتماع تقرير الجائزة يجهز الأسباب التي يقنع بها اللجنة بالموافقة على إعطاء الجائزة لرواية أقراط وثعابين، وظل يفكر في كيفية إقناع أعضاء اللجنة، وقد ظن أن الأغلبية ستعارض بشدة لما في الرواية من لغة جريئة تتناول حياة الشباب كما هي بدون تجميل وبعبارات صريحة وأحيانا بشكل خادش للحياء، ولكنه فوجئ بأن اللجنة قررت إعطاء كانيهارا الجائزة بالإجماع تقريبا ولم يعترض أحد، وبذلك لم يكن هناك أية فائدة لما حشده من وسائل الإقناع، فالرواية وحدها كانت كفيلة بإقناع جميع أعضاء اللجنة.
تعيش كانيهارا في باريس حاليا هي وابنتاها، بعد حدوث الزلزال الضخم في شرق وشمال اليابان وبعد حدوث انفجار إشعاعي في محطة «فوكوشيما دايئتشي»، خوفا على طفلتيها من خطر الإشعاع النووي.


* المصدر الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الإماراتية
http://www.alittihad.ae/details.php?id=76940&y=2014&article=full
 

السبت، 14 يونيو 2014

العراق وخطورة سقوط الموصل


العراق: خطورة سقوط الموصل

تأليف: كيكو ساكاي
ترجمة: ميسرة عفيفي

(البروفيسورة كيكو ساكاي ولدت في عام 1959، وتخرجت من جامعة طوكيو القومية، ثم حصلت على ماجستير من جامعة درهام البريطانية مركز أبحاث الشرق الأوسط والإسلام. عملت كباحثة في مركز أسيا للدراسات الاقتصادية، وأستاذة في جامعة طوكيو للغات الأجنبية، وتعمل حاليا كأستاذة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والقانون في جامعة تشيبا القومية. تعتبر البروفيسورة ساكاي أكثر اليابانيين معرفة وتخصصا في الحالة العراقية سياسيا واقتصاديا. عملت لفترة كباحثة في السفارة اليابانية في بغداد في منتصف الثمانينات من القرن العشرين، ودرست لفترة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة كباحثة زائرة في منتصف التسعينات.)


بدأ - ما كنت أخاف وقوعه - يقع بالفعل.
الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) "ISIS"، شديدة التطرف - لدرجة قطع علاقتها مع تنظيم القاعدة نفسه - بدأت في اجتياح العراق ووضعت يدها على الموصل ثالث أكبر المدن العراقية. وكانت داعش قد أنشأت لها معاقل بالفعل في الفلوجة غرب العراق منذ بداية هذا العام، ودارت بينها وبين الجيش العراقي مناوشات ومعارك متكررة، ثم حاولت في بداية شهر يونية اجتياح مدينة سامراء التي تبعد حوالي 125 كيلومتر شمال بغداد، موسّعة بذلك من نطاق عملياتها القتالية بسرعة كبيرة. وفي العاشر من هذا الشهر وصل الأمر إلى سقوط مدينة الموصل عاصمة محافظة نينوى التي يوجد بها مقر المحافظة. وقد أحكمت الجماعات المسلحة التابعة لداعش سيطرتها على المراكز الحيوية في المدينة مثل مقر مجلس وبلدية المدينة والمطار. أما قوات الشرطة والجيش العراقيين، التي من المفترض أن تحمي المدينة فقد هرب جنودها بأجسادهم بعد أن خلعوا زيهم العسكري، وأما سكان الموصل المدنيين الذين فقدوا من يحميهم فقد حارت بهم السبل وهم يحاولون الهرب خارج حدود المدينة وحدود المحافظة. ويقال إن عدد النازحين المدنيين وصل إلى 450 ألف شخص. ولكن رغم ذلك إقليم الحكم الذاتي الكردي المجاور الذي اندفع إليه النازحين طلبا للأمان، أغلق أبوابه في وجوههم في محاولة مستميتة لتجنب التورط في الصراع.

بدء الوضع الأمني في العراق يزداد سوءا مع الوقت بعد جلاء قوات الاحتلال الأمريكي في عام 2011، ولكن منذ بداية هذا العام وصل متوسط عدد القتلى من المدنيين إلى حوالي 50 شخصا في اليوم الواحد. وبالمقارنة مع متوسط عدد القتلى في اليوم الواحد في عامي 2011 – 2012 - الذي كان حوالي 10 أشخاص - نجد أن عدد القتلى تضاعف خمسة مرات. علاوة على ذلك في الأسبوع الأول فقط من شهر يونية هذا، تخطى متوسط عدد القتلى حاجز الثمانين شخصا، وإذا استمر الحال على ذلك، فمن السهل توقع أن يعود الوضع القهقري إلى ما كان عليه بين عامي 2006 – 2007 حيث شهدت البلاد أسوء حرب أهلية في تاريخها والتي كان متوسط عدد القتلى في اليوم الواحد وقتها يفوق المئة شخص.

لماذا وصل الأمر إلى هذا الحال؟!
من المفترض أن رغبة الحكومة العراقية الجيش الأمريكي في إنهاء الحرب الأهلية واستخدامهما كل الوسائل المتاحة، قد أنهت بشكل كبير النشاطات القتالية لدولة العراق الإسلامية في عام 2008. ففي محافظتي الأنبار ونينوى غرب العراق حيث كانت الجماعات المسلحة تقاوم الجيش الأمريكي بشراسة، نجحت الحكومة في قطع الطريق على وجود أي علاقة تعاون بين المواطنين وبين الجماعات المسلحة من خلال دعم وتقوية الجماعات العشائرية المتعاونة مع الحكومة العراقية والتي أطلق عليها اسم مجالس الصحوة. تلك الطريقة في "استمالة قلوب المواطنين"، أُطلق عليها وقتها اسم "معادلة بتريوس"، لدرجة أن يقال عنها إنها أكثر الأمثلة نجاحا لإنهاء الجيش الأمريكي لحروبه.
ورغم ذلك، لماذا عادت الحرب الأهلية لتشتعل من جديد؟!
من الواضح جدا تأثّر العمليات القتالية في داخل العراق بنشاط الجماعات المسلحة في سوريا، لدرجة تسمية التنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، ولكن الفشل الأكبر هو إضاعة الحكومة العراقية لقلوب المواطنين التي نجحت في استمالتها سابقا.

كان أحد سبل استمالة قلوب المواطنين هو توزيع حقائب وزارية على الفئات المهمشة البعيدة عن التيار الرئيس للسلطة الحاكمة، وكذلك خلق حالة وعي بضرورة المشاركة في العملية السياسية لدى السُنة الذين يشعرون بعدم الرضا من الوضع السائد. ظلت حكومة المالكي وحتى عام 2010 - أي حتى بداية فترة حكمه الثانية – تحافظ على مبدأ تقاسم السلطة من خلال إعطاء مناصب حكومية هامة للسياسيين الرئيسين من السُنة. ولكن بعد جلاء الجيش الأمريكي تبدّل الحال وبدأت عملية إبعاد السياسيين السنة واعتبارهم أعداء سياسيين.

ومن ضمن ذلك، ما حدث في عام 2012 - وسبّب أزمة سياسية كبرى - ألا وهو البدء في إبعاد رافع العيساوي وزير المالية المنتمي لمحافظة الأنبار. وكانت تلك القضية أحد أسباب عودة حالة انعدام الثقة في الحكومة لدى أهل الأنبار التي كانت قد هدأت وخفت حدتها. ولذا استمرت المظاهرات المعارضة للحكومة في محافظة الأنبار، وليس من الصعب تخيل قدرة مجموعات مسلحة من أتباع دولة العراق الإسلامية في بناء معاقل لها مرة أخرى في تلك المنطقة وسط الفوضى التي حدثت أثناء إخماد الحكومة العراقية للمظاهرات بعنف وصرامة.
حاولت الحكومة العراقية إعادة استخدام مجالس الصحوة مرة ثانية، تلك التي كان استخدامها في الماضي سببا في استمالة قلوب المواطنين، ولكن من الصعب جدا استعادة الثقة التي فقدتها مرة.

ولكن مقارنة بأحوال محافظة الأنبار تلك، فإن سقوط الموصل هذه المرة يشكل كارثة في منتهى الخطورة. والسبب أن سكان الموصل السنة ورغم وجود إحساس بالغبن وعدم الرضا تجاه الحكومة، إلا أنهم ظلوا مشاركين في العملية السياسية من خلال النظام النيابي والبرلمان. فبخلاف السياسيين السنة في محافظة الأنبار الذين تم إبعادهم، يوجد مثلا من السياسيين من أهل مدينة الموصل، أسامة النجيفي رئيس البرلمان الذي له قاعدة قوية في الموصل ويعتبر حاليا من أكثر السياسيين السنة تمتعا بتأييد الجماهير. لو افترضنا أن وقوع محافظة الأنبار في براثن الجماعات المسلحة هو نتيجة طرد سياسيّها من السلطة، فلم تكن الموصل في نفس الظروف. لو بدّلنا القول، فذلك يعني أن قوات دولة العراق الإسلامية المقاتلة أصبحت تملك قوة تجعلها قادرة على إخضاع مدينة كبرى بأكملها، رغم عدم وجود ثغرات تنفذ منها الجماعات المسلحة وتحصل على تأييد المواطنين.

ربما تكون الأوضاع قد أصبحت أكثر خطورة من حالة الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 2006 – 2007. والسبب أن ما يجري الآن ليس صراعا دينيا. ففي وقت الحرب الأهلية كانت توجد ضرورة لدى الجماعات المسلحة للانخراط وسط المواطنين، فقامت متعمدة بعمليات إرهابية عشوائية من أجل إشعال فتيل الصراع الديني. وتفجير ضريح الإمام العسكري في مدينة سامراء أحد الأماكن المقدسة للشيعة، يعتبر أشهر الأمثلة على ذلك. ولكن الذي يحدث حاليا عبارة عن عمليات عسكرية حقيقية لجيش شبه نظامي، وليست مجرد عمل أخرق لتحدي مشاعر الآخرين الدينية. أثناء مواجهة عمل أخرق يستفز مشاعر الصراع الديني، كانت توجد قدرة على التعامل معه بضبط النفس وعدم الانجرار وراء الاستفزاز. ولكن في مواجهة الهجوم الأخير مهما قام المواطنين بضبط النفس، فلن يكون لذلك أي فائدة.

بعد سيطرتها على الموصل والأنبار أصبحت دولة العراق الإسلامية، تطل على بغداد من غربها وشمالها. وأصبح يحيط بالعراق قلق محتواه أن كابوس سقوط بغداد في يد داعش، ربما لم يعد الآن مجرد كابوس.



الثلاثاء، 10 يونيو 2014

النزاع العرقي والطائفي، وكيفية حله


النزاع العرقي والطائفي، وكيفية حله

 

تأليف: د. هاجيمه يوشيكاوا – بروفيسور بجامعة صوفيا اليابان

 

ترجمة: ميسرة عفيفي

 

1-    حتمية تفادي النزاع العرقي

تؤول الدولة التي خاضت صراع عرقي بعد انتهاء النزاع العرقي فيها إلى طريقين مختلفتين.

 

l      في حالة البوسنة: تم تثبيت حالة التقسيم العرقي في داخل البوسنة (تقسيم أماكن السكن بين الأعراق الثلاثة المتنازعة في الدولة)، وبقيت تركيبة الصراع العرقي على ما كانت عليه سابقًا.

l      في حالة كوسوفو: أعلن الاستقلال وتم الانتهاء من التطهير العرقي. ولكن على اعتبار أنه أصبح من المستحيل الوصول إلى حالة من السلام مع الصرب المجاورين لهم، فإن الوضع لايزال غير مستقرا، ولازال النزاع العرقي على المستوى الدولي مستمرا.

 

يوجد في الدول الأوروبية نظام لحماية الأقليات. كما يوجد نظام لمراقبة تلك الحماية، ولأن هناك جاذبية في الانضمام إلى حلف الناتو أو إلى الاتحاد الأوربي لذا تم تحقيق التعايش بين الأعراق المتعددة وحماية الأقليات في الدول الأوربية. ولكن للأسف لا يوجد نظام كهذا النظام الدولي في بلدان أسيا والشرق الأوسط. فما أن تبدأ السياسات القائمة على أساس عرقي، حتى يصبح احتمال الوقوع في حرب أهلية لا تحمد عقباها على أساس العرق كبيرا للغاية.

إنه لمن الصعوبة بمكان العودة إلى نظام ديمقراطي طبيعي، بعد حدوث نزاع عرقي. بعد انتهاء الحرب الطائفية أو العرقية، تستمر داخل الدولة حالة التطهير والفصل العرقي وينتهي الأمر إلى الفصل التام بين الأعراق داخل الدولة الواحدة. ويتم تثبيت تركيبة الصراع والتناحر، حتى في إطار النظام الديمقراطي الحر على الطريقة الغربية.

 

السؤال هو: ما هي الإجراءات التي يجب القيام بها من أجل تجنب الوقوع في سياسة تقوم على الأساس العرقي؟

 

2-    السياسة العرقية والنزاع العرقي

إن عملية تغيير النظام السياسي تكون عملية صعبة ومليئة بالمتاعب. وغالبا ما يحدث تقهقر فيها. إذن كيف يمكن تلافي ذلك التقهقر؟ وخاصة في فترة الانتقال الديمقراطي لدولة بها تعدد عرقيات أو تعدد طوائف، خطورة الوقوع في "عرقنة" السياسة كبيرة للغاية. فعندما يقوم النظام الحاكم بمحاولة توحيد الدولة حول محور عرقي أو طائفي أو ديني، تصبح المجموعات الأخرى طرف منافس، ويتطور الأمر ليشكل خطورة على وجودهم من أساسه.

إن احتمال الوقوع في حرب أهلية في الدول التي مضى على تطبيق الديمقراطية فيها عشرة أعوام يكون أكبر بكثير من احتمال وقوعها في دولة لم يمض عليها سوى عام واحد في التجربة الديمقراطية. وهذا بسبب أن عملية انتخاب الرئيس أو رئيس الوزراء تصبح أكثر شفافية، وبازدياد المشاركة السياسية، ومن أجل المحافظة على الدعم الشعبي، يكون هناك اتجاه إلى رفع المبادئ العرقية والطائفية، وعندها تتوتر العلاقات مع البلدان المجاورة، ويصبح من السهل وصول الوضع إلى حالة الحرب.

إن الدولة التي تكون في فترة التحول إلى الديمقراطية، مقارنة بالدول المستقرة، تكون أكثر عدوانية وتتجه بسهولة إلى الحرب، وتكون فرص استخدام قوة السلاح كبيرة. إن احتمال حدوث حروب في البلدان التي في فترة التحول إلى الديمقراطية يكون ضعف احتمال حدوث الحروب في الدول الديكتاتورية.

إن عدم القدرة على التحكم في "الإثنية" السياسية هي الأزمة الكبرى في عملية التحول الديمقراطي.

 

3-    هل تطبيق النظام الفيدرالي هو الحل؟

في مراحل التحول الديمقراطي انهارت دول فيدرالية مثل الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا بسبب مبدأ حق تقرير المصير للشعوب، كما أن كندا أيضا تواجه خطر التفكك. وفي سيريلانكا لم يتوقف "التاميل" عن تحيّن أي فرصة للانفصال. وافقوا على النظام الفيدرالي مرة، ولكن مطالبتهم بتوسيع سلطات حكمهم الذاتي كان سببا في عودة حالة النزاع من جديد. وقد رفضت مقدونيا النظام الفيدرالي وحققت حالة من التعايش بتوسيع سلطات الحكم الذاتي. وتشكيل جهاز الشرطة اعتمادا على نسب التوزيع العرقي في البلاد.

لماذا لا يستمر النظام الفيدرالي طويلا؟ السبب هو إنه في الدول الموحدة هناك ضرورة لتمازج ثقافي، وسيطرة الحكم الديمقراطي على الجيش، وتوحيد العلاقات الخارجية، ومساواة في التقدم الاقتصادي، لكن في حالة النظام الفيدرالي فإنه:

      بسبب الاستقلال الثقافي والتعليمي، يقوم كل إقليم بتقوية هوية الإقليم المتعلقة بالعرق أو الطائفة.

      بسبب استقلال هيئات الجيش والشرطة تضعف سلطة الحكومة المركزية وتفقد السيطرة عليهما.

      بسبب الفوارق بين الأقاليم، تقوى الرغبة في الانفصال لدى حكومات الأقاليم الغنية بالموارد.

 

4-    هل يتحقق الاستقرار من خلال عملية اقتسام السلطات؟

أحد أشكال النظام الديمقراطي لدولة تقر بوجود مجموعات عرقية وطائفية متنازعة، هو تقسيم السلطات بينها. نظام تقاسم السلطات هو نظام يضمن للجماعات العرقية والأقليات الاشتراك كمجموعة عرقية أو كأقلية في تشكيلة الحكومة بموجب الدستور. وهو أحد الخيارات القليلة التي يتم التفكير في تنفيذها على الفور، في الدول التي لا زالت تركيبة الصراع العرقي والطائفي فيها ساخنة. الحل بواسطة تطبيق نظام تقاسم السلطات هو الحل المناسب للمجتمع الذي يواجه خطر الانقسام والتحارب.

هناك أربعة طرق لتطبيق هذا النظام.

الطريقة الأولى: طريقة الائتلاف الكبير (مثل البوسنة)، التي يتم فيها تداول مناصب الحكومة والرئاسة، وأيضا كبرى الوظائف الحكومية بالتبادل بين الأعراق المختلفة كل فترة.

الطريقة الثانية: هي الفصل الكامل للأعراق والطوائف وإعطاء كل منها حكما ذاتيا مطلقا.

الطريقة الثالثة: اشتراك الأعراق أو الطوائف في العملية السياسية وتوزيع المناصب عليها حسب تعداد سكان كل منها (مثل لبنان).

الطريقة الرابعة والأخيرة: إعطاء الأقليات حق النقض أو الفيتو في القرارات المصيرية الهامة.

 

5-    الخلاصة

إن أوضاع العالم تتغير بشكل دائم. ولقد انتهى عصر إعطاء العرقيات حق تقرير المصير. ولن يكون هناك على الأرجح استقلال على أساس عرقي. حركات التحرر القومي التي لاقت تأييدا في الماضي يتم تصنيفها بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 على أنها حركات إرهاب دولية.

هناك الآن اتجاه عالمي نحو "الدمقرطة"، وتجريم سياسات الهضم والامتصاص. وأصبح لا بديل عن التعايش بين الثقافات المختلفة.

بعد انتهاء النزاع العرقي أو الطائفي تكون شرعية الحكم ضعيفة، كيف يمكن بناء دولة مستقرة، من حطام دولة لا يملك مواطنيها شعورا بالوحدة والانسجام؟ في حالة إجراء انتخابات حرة، فإنه من الواضح أنها ستصب في صالح الأكثرية العرقية في الدولة. وعندها كيف يتم الاحتفاظ بالتوازن في المشاركة السياسية بين الأكثرية العرقية والأقليات؟ المجتمع الذي ينقسم فيه المواطنون إلى تكتلات، يدور فيه الناقش حول القضايا المركزية مثل الفيدرالية والحكم الذاتي بالإضافة إلى تقاسم السلطات.

 

-        الحل يتلخص في حتمية تجنب الصراع والنزاع العرقي والطائفي. ورغم أنه لا توجد وسيلة مؤكدة للتحصن ضد الوقوع في الحرب الأهلية، إلا أنه يوجد أمثلة لحلول سابقة تم اللجوء إليها مثل:

-        في الجانب السياسي: تطبيق نظام الحكم الذاتي، والانتظار حتى تنضج الأحزاب الوطنية (التي لا تقوم على أساس عرقي أو طائفي).

-        في الجانب الثقافي: تطبيق مبكر لمبدأ تعدد الثقافات الذي يحترم تقاليد وثقافات ولغات الجميع، بالإضافة إلى توحيد مناهج التعليم (وبصفة خاصة مناهج التاريخ).

-        تشجيع الشراكة الثقافية من خلال توحيد وسائل الإعلام، (مما يؤدي إلى تمازج انسجام جميع المواطنين).

-        الجانب الأمني: من الأفضل تعيين رجال الشرطة لكل إقاليم بحسب عدد سكان كل طائفة أو عرق فيه.

الأحد، 11 مايو 2014

رؤية وتفسير ديني لرواية "بحر الخصوبة" ليوكيو ميشيما البوذية وتناسخ الأرواح ومعتقد الوعي فقط

رؤية وتفسير ديني لرواية "بحر الخصوبة" ليوكيو ميشيما
البوذية وتناسخ الأرواح ومعتقد الوعي فقط


تأليف: ميسرة عفيفي

في ليلة الخامس والعشرين من نوفمبر عام ١٩٧٠ أكمل يوكيو ميشيما  (١٩٢٥ ~ ١٩٧٠) الجزء الأخير من رباعية "بحر الخصوبة"، وبعد أن كتب آخر كلمات الرواية الأخيرة التي أسمها "سقوط الملاك" وفي صباح اليوم نفسه وضع أوراق الرواية في مظروف وأرسله بالبريد إلى عنوان شركة النشر، ثم قام بارتداء بذته العسكرية الأثيرة لديه والتي طلب خصيصا من أحد أشهر بيوت الأزياء العالم تصميمها لجماعته العسكرية التي أنشأها تحت اسم "جماعة الدرع" (tatenokai)، ثم اصطحب أربعة من أخلص تلاميذه في الجماعة وذهب بهم إلى القيادة العامة لقوات الدفاع الذاتي اليابانية في منطقة إيتشيغايا بالقرب من القصر الإمبراطوري ليقع الحادث المشهور "بحادثة إيتشيغايا" في التاريخ الياباني المعاصر أو حادثة انتحار ميشيما (راجع مقالة الكاتب "الفتى الذي كان يكتب الشعر فصار أحد أكبر روائيي اليابان: يوكيو ميشيما وأزهار الكرز" المنشورة في جريدة القدس العربي بتاريخ ٢٨ مارس ٢٠١٣).
يدل ما سبق على أن ميشيما كان حريصا كل الحرص على الانتهاء من رواية رباعية بحر الخصوبة وحريصا أيضا على وصولها للقراء بشكل مؤكد وفي أسرع وقت ممكن، إذ أنه لو تركها كمسودة بين إرثه لربما أهملها الورثة اعتقادا أنها لم تكتمل، أو لتأخر ظهورها على أقل تقدير لمعرفته بما هو مقدم عليها وما سيحدثه فعله من جلبة ودوي هائل لا يتوقف عند حدود اليابان بل يتخطاها إلى كل أنحاء العالم، وبالتالي لن تكون عائلته المسكينة التي تُركت بين حزنها عليه وبين هجوم شديد ولاذع من المجتمع الياباني المحافظ الذي استنكر بشدة فعلة ميشيما واعتبرها ضرب من التهور والجنون غير المحمود.

ما هو إذن محتوى رواية رباعية بحر الخصوبة تلك التي حرص ميشيما كل ذلك الحرص على إكمالها وإيصالها للعالم قبل موته منتحرا بالشكل الذي حدث. هذه المقالة تناقش تلك الرواية بأجزائها الأربعة لتحاول الوصول إلى مغزاها الديني والفلسفي الذي ضمنه ميشيما في كل أعماله التي تخطت مبيعاتها المائتين مليون نسخة في كل أنحاء العالم.

اسم الرواية "بحر الخصوبة" هو ترجمة قام بها ميشيما لكلمة لاتينية هي (Mare Foecunditatis) وهي تشير إلى اسم بحر من البحار الوهمية الموجودة على سطح القمر والذي يتناقض اسمه مع واقعه فهو بحر ناضب بلا ماء ولا خصوبة. تتكون رباعية بحر الخصوبة من أربعة أجزاء كما تدل كلمة رباعية، نُشر كل جزء منفصلا عن الآخر وباسم مستقل وبعد الانتهاء مباشرة من كتابته؛ فنشر الجزء الأول تحت اسم "ثلج الربيع" في مجلة "شين تشو" أو التيار الجديد بدءً من شهر سبتمبر عام ١٩٦٥ حتى شهر يناير عام ١٩٦٧، ونشر الجزء الثاني "الجياد الهاربة" في نفس المجلة بدء من شهر فبراير من نفس العام حتى أغسطس عام ١٩٦٨، ونشر الجزء الثالث "معبد الفجر" نشر من شهر سبتمبر من عام ١٩٦٩ حتى شهر أبريل من عام ١٩٧٠، أما الجزء الرابع والأخير "سقوط الملاك" فقد نُشر من شهر يوليو من نفس العام ونشرت أخر حلقة منه كما ذكرنا بعد انتحار ميشيما في يناير من عام ١٩٧١ وبعد حرصه على تكملته وإرساله للنشر قبل لحظات من بقر بطنه بيده ليلاقي مصيره المحتوم ويقابل الحقيقة الكبرى التي ظل يبحث عنها من خلال مؤلفاته طوال حياته القصيرة نسبيا مقارنة بمتوسط العمر الطويل لليابانيين.
بلغ عدد صفحات الأجزاء الأربعة من رواية "بحر الخصوبة" حوالي ١٣٠٠ صفحة في الطبعات الأربعة الأولى (طبعة كبيرة الحجم مُجلّدة)، وقد تُرجمت الرباعية بمجلداتها الأربعة إلى اللغة العربية عن طريق لغة وسيطة هي اللغة الإنجليزية على يد الأستاذ كامل يوسف حسين وصدرت الرباعية كاملة عن دار الآداب ببيروت فيما يقترب من الألف وتسعمئة صفحة من القطع المتوسط، نُشرت طبعة "ثلج الربيع" الأولى في عام ١٩٩٠، والطبعة الأولى من "الجياد الهاربة" في عام ١٩٩١، ونُشرت الطبعة الأولى من "معبد الفجر" في عام ١٩٩٣، ونُشرت الطبعة الأولى من الجزء الرابع "سقوط الملاك" عام ١٩٩٥.

يقول العالم والناقد الياباني المرموق د. ناوكي كومورو عن رباعية بحر الخصوبة: "إذا سألني أحدكم عن أفضل كتاب يشرح لليابانيين فلسفة الديانة البوذية التي تبلغ صعوبتها حدا لا مثيل له، سأرشح له آخر روايات يوكيو ميشيما رُباعية "بحر الخصوبة".
دعونا الآن نلقي نظرة سريعة على ملخص أحداث الرواية.
تبدأ الرواية بالجزء الأول "ثلج الربيع" ويحكي فيه ميشيما قصة حب رومانسية حالمة بين بطلي الرواية "كيوأكي ماتسوغاي" وحبيبته "ساتوكو أياكورا" اللذين يتمنيان معا لطبقة النبلاء. فقد أرسل والد كيوأكي ابنه إلى منزل عائلة أياكورا النبيلة ذات المرتبة الأعلى من مرتبة عائلة ماتسوغاي لكي يتربى كنبيل عظيم ويتاح له مستقبل زاهر. أما ساتوكو فهي ابنة عائلة أياكورا الوحيدة التي تكبر كيوأكي بعامين، وتتربى معه. وفي يوم من الأيام يعتقد كيوأكي مرهف الحس أن ساتوكو تعامله معاملة الأطفال بسبب فرق السن بينهما، فتنجرح كرامته ويبدأ في الابتعاد عنها. هنا تيأس ساتوكو من حبها له وتوافق على أن تُخطب لأحد أمراء البيت الإمبراطوري. وعندما يتحدث والد كيوأكي عن خطبة ساتوكو أمام كيوأكي كان رد فعله باردا لدرجة أن يرد بقوله إنه من الأفضل لها الإسراع بإتمام الزواج. ولكن ساتوكو تكتشف أن حبها لكيوأكي أعمق وأكبر مما كانت تعتقد. وأخيرا صدرت موافقة الإمبراطور على زواج ساتوكو من الأمير، ولكن حب ساتوكو يعود من جديد ليستولى على قلب كيوأكي. ولو دخلت ساتوكو رسميا في رحاب العائلة الإمبراطورية سيصبح لقاء الحبيبين السابقين مستحيلا. هنا يهدد كيوأكي وصيفة ساتوكو المسماة تاديشينا ويطلب منها أن ترتب له لقاءً سريا مع ساتوكو. وتوافق ساتوكو على ذلك، وبمعاونة صديقه الحميم هوندا تتكرر تلك اللقاءات حتى وصل الأمر إلى أن تحمل ساتوكو سفاحا. حاولت تاديشينا أن تقنع ساتوكو بإجهاض الجنين ولكن ساتوكو ترفض، فتحاول تاديشينا الانتحار.
وبسبب ذلك تعرف العائلتين ما بين ساتوكو وكيوأكي. فيقوم النبيل ماتسوغاي والد كيوأكي بتعريف ساتوكو بطبيب في مدينة أوساكا يقوم بإجهاضها، وتقوم ساتوكو بحلاقة شعرها تماماً لتدخل بعدها مباشرة سلك الرهبنة في معبد غيشّوجي في نارا. ويتم إلغاء القرار الإمبراطوري بزواجها من الأمير هارونوري توئين بسبب اختلال الحالة النفسية لساتوكو.
يذهب كيوأكي في السادس والعشرين من فبراير وسط تساقط ثلوج الربيع إلى معبد غيشّوجي البوذي لكي يرى ساتوكو ولو لنظرة واحدة ولكن يتم رده من على الباب ولا يستطيع لقائها. يصر كيوأكي على مقابلة ساتوكو إلا أنها ترفض ذلك رفضا تاما. وبسبب انتظاره الطويل وسط الثلوج يصاب كيوأكي بالتهاب رئوي حاد يتسبب في وفاته شابا في العشرين من عمره. ولكن كيوأكي قبل موته يبلغ هوندا أقرب أصدقائه إليه بعودته مرة أخرى للحياة من خلال التناسخ ويقول له "سنتقابل مرة أخرى يا صديق. سنتقابل عند الشلال."
بهذا ينتهي الجزء الأول من الرباعية ممهدا للجزء الثاني "الجياد الهاربة" الذي تدور أحداثه بين عامي ١٩٣٢ و١٩٣٣ وفيه يصير هوندا الذي بلغ من العمر ٣٨ بعد مرور ١٨ عام على وفاة كيوأكي وقد أصبح قاضيا في المحكمة العليا بأوساكا ثاني أكبر مدن اليابان. عند ذهاب هوندا لمشاهدة مباراة في رياضة الكندو اليابانية تتوقف عينه على شاب يبلغ من العمر ١٨ عام يلعب بسيف من خشب الخيزران، بلا أي هفوة أو خطأ. ويعرف أن هذا الشاب هو إيساو إينوما ابن شيغيوكي إينوما الذي كان يعمل كاتبا عند كيوأكي. بعد المباراة يلتقي هوندا مع إيساو مصادفة بجوار شلال سانكو في جبل ميواياما ويكتشف وجود ثلاث شامات سوداء في بطنه تماثل تماما الشامات الثلاثة التي كانت لدى كيوأكي، ويذهل هوندا عندما يتذكر قول كيوأكي له عند موته.
كوّن إيساو مع أصدقاء له جماعة باسم "رابطة النقاء"، بهدف العمل على تطهير عالمي السياسة والاقتصاد من الفساد ولو بالسيف. ويتقرب إيساو من ضابط في القوات البرية للجيش الإمبراطوري يدعى هوري، وكذلك تقابل مع الأمير هارونوري توئين وبالتالي زاد عدد أعضاء الجماعة وتأمّل إيساو في تعاون الجيش مع مخططه.
يدعو إينوما - والد إيساو - هوندا إلى منطقة ياناغاوا في محافظة شيزوأوكا ليرى هناك أناس بزي أبيض يحاولون تهدئة روح إيساو. ويقول والد إيساو لابنه: "أنت بلا أي شك، إله هائج." وكان ذلك المشهد بحذافيره يوجد في مذكرات أحلام كيوأكي. وعندها يتأكد هوندا تماماً من أن إيساو هو روح كيوأكي قد تناسخت وولدت من جديد.
يُنقل النقيب هوري إلى منشوريا وبذلك نقص عدد رفقاء إيساو ولكنه يظل مع باقي الرفاق في التفكير والتخطيط في سرية كاملة لتنفيذ مجموعة اغتيالات تستهدف كبار رجالات السياسة والاقتصاد، ولكن تتسرب الخطة بشكل ما ويتم إلقاء القبض على إيساو ورفاقه قبل التنفيذ. وعلى الفور يقرر هوندا الاستقالة من القضاء والتحول إلى محامي ليقوم بمهمة الدفاع عن إيساو ورفاقه لإنقاذهم. وبفضل دفاع هوندا يحصل إيساو ورفاقه على البراءة بعد عام كامل من التقاضي والمحاكمة ويتم إطلاق سراح الجميع. ولكن يذهل إيساو عندما يعرف إن والده هو الذي سرب خطة الاغتيالات ويسمع هوندا إيساو يقول وهو في حالة سكر بيّن: "الجنوب ... أقصى الجنوب داخل أشعة وردة بلدية في دولة جنوبية. ..."
في التاسع والعشرين من ديسمبر يختبأ إيساو عن أنظار الجميع، ويتوجه إلى جبل إيزو حاملا معه خنجر صغير. ثم يتسلل إلى البيت الريفي لـ "تاكيسيكي كوراهارا" ويغتاله. ويهرب من الحراس الذين تتبعوه، وفي الليل يصعد إيساو إلى جبل عال يطل على البحر ويقدم على الانتحار ببقر بطنه.

الجزء الثالث "معبد الفجر" تدور أحداثه على قسمين الأول في فترة وقوع الحرب العالمية الثانية من عام ١٩٤١ وحتى عام ١٩٤٥. والثاني يدور في عامين فقط هما عام ١٩٥٢ ثم بعد مرور ١٥ عاما أي في عام ١٩٦٧.
يذهب هوندا الذي بلغ السابعة والأربعين من العمر لزيارة أمير تايلاند في بانكوك وهو الذي كان على علاقة جيدة مع كيوأكي. وهناك يقابل الأميرة جين جان التي تقول إن روحها هي ميلاد جديد لرجل ياباني. وعندما ترى جين جان هوندا تقول إنها كانت تحن إلى لقائه وتعتذر عن الرحيل دون إبلاغه. وتقوم بالرد بإجابات صحيحة تماما عن اليوم الذي تم القبض فيه على إيساو، وتاريخ مقابلة هوندا وكيوأكي أمام أطلال بوابة حديقة قصر ماتسوغاي، وأظهرت بوضوح أنها فعلا الميلاد الجديد لكيوأكي، ولكن بعد ذلك وأثناء نزهة مع الأميرة، لم يجد هوندا في جانب بطنها الثلاثة شامات المميزة لكيوأكي. يسافر هوندا إلى الهند وهناك يخوض عدة تجارب روحية عميقة، ثم يعود إلى بانكوك حاملا هدايا لجين جان من الهند، فتتشبث به في الوداع باكية لكنه يعود إلى اليابان وفي قلبه مرارة الفراق، وتشب الحرب بين اليابان وأمريكا بعد عودته بأيام.
بسبب تجاربه في الهند وتناسخ روح صديقه، يغرق هوندا في عالم تناسخ البوذية وعالم نظرية الوعي فقط، أثناء الحرب ينهمك هوندا في كتب أبحاث البوذية المتعددة. في أحد الأيام وعند ذهابه في مهمة عمل يمد خطواته إلى أطلال قصر ماتسوغاي، فوجده قد احترق ولم يبق منه إلا بقايا محترقة، ولكنه يلتقي مصادفة بالخادمة تاديشينا التي بلغت من العمر عتيا. وأراد هوندا أن يقابل ساتوكو ولكنه لم يستطع ذلك بسبب صعوبة الأوضاع أثناء الحرب.
في القسم الثاني من الجزء الثالث، يحصل هوندا الذي بلغ من العمر الثامنة والخمسين على مبالغ طائلة بعد نجاحه في عمله في قضايا نزاع على ملكية أراض، فيبتاع أرضا في منطقة غوتنبا التي تطل على جبل فوجي ويبني فيها فيلا لسكنه. وتسكن بجواره كيكو هيساماتسو التي تبلغ حوالي الخمسين من العمر، وهي سيدة مترفة وتصبح صديقة لهوندا ومن أصدقائه الذين يترددون على فيلته ولكن هوندا كان يتلهف على مجيء جين جان التي أصبحت في سن الثامنة عشر وأتت إلى اليابان للدراسة.
عندما قابل هوندا جين جان أبلغته أنها لا تتذكر أي شيء عن قولها في طفولتها أنها ميلاد جديد لروح صديقه كيوأكي. رغم فارق العمر الكبير وقع هوندا في عشق جين جان التي صارت جميلة وجذابة. بسبب عشقه لها يقوم هوندا بالتلصص عليها في غرفتها في فيلته من خلال ثقب في الجدار، فيجدها تتعانق عارية مع كيكو، ولكن ما أدهشه هو وجود ثلاثة شامات بجنب البطن. ولكن بعد ذلك يقع حريق في الفيلا، وتعود جين جان إلى بلادها وتنقطع أخبارها. بعد خمسة عشر عام يذهب هوندا لحضور حفل في السفارة الأمريكية بطوكيو وهناك يقابل امرأة تشبه جين جان تماماً. ويعرف أنها تؤامها وتبلغه أن جين ماتت في العشرين من عمرها عندما لدغها ثعبان من نوع الكوبرا في حديقة منزلها.
الجزء الرابع والأخير من رباعية "بحر الخصوبة" هو "سقوط الملاك"، وترجمة العنوان بالعربية هو ترجمة مباشرة للعنوان باللغة الإنجليزية المنقول عنها النسخة العربية، ولكن عنوان الرواية باللغة اليابانية عبارة عن تعبير ديني ينتمي للبوذية هو باللغة اليابانية، (تن نين غو سوي) ويشير إلى الأعراض التي تعتري ساكن السماء في أعلى عالم من عوالم التناسخ، عند يقترب منه الموت ويوشك على الانتقال من حياته في علياء السماء إلى عالم آخر غير معروف ربما يكون السماء مرة أخرى أو الأرض في صورة بشر أو ربما تحت الأرض في صورة شياطين.
أحداث الجزء الأخير من عام ١٩٧٠ وحتى صيف عام ١٩٧٥ ونلاحظ أن ميشيما يتحدث في تلك الفترة عن الحياة في المستقبل القريب، بل وبعد رحيله هو عنها (وهو ما نزعم أنه يعرف ذلك).
هوندا الذي بلغة من العمر السادسة والسبعين، رحلت عنه زوجته، فأصبح كثير السفر، مرات كثيرة وحيدا ومرات أخرى مع صديقته كيكو هيساماتسو التي قاربت السبعين من العمر. وفي إحدى رحلاته قابل هوندا فتى في السادسة عشر من عمره يدعى تورو ياسوناغا يعمل في ميناء شيميزو كعامل إشارة للسفن. يعتقد هوندا أن تورو هو ميلاد جديد لروح صديقه كيوأكي بعد أن يشاهد الثلاثة شامات في جانب بطنه الأيمن، فيقوم بتبنيه ويربيه تربية العظماء من حيث التعليم ويأدبه بأدب راقي كي لا يموت صغيرا كما حدث مع كيوأكي وإيساو
ولكن يشعر هوندا أن تورو يشبهه تماماً في تركيبة الوعي الذاتي، ولذا يشعر أنه ليس تناسخ حقيقي لروح كيوأكي. ويتحول تورو تدريجيا الي الشر، ويسقط خطيبته موموكو في الخطيئة ثم يفسخ خطوبته معها. وبعد أن يلتحق بجامعة طوكيو القومية يبدأ في الاضرار بهوندا والده بالتبني الذي بلغ الثمانين من العمر.
وبسبب الضغط النفسي الواقع على هوندا من تعذيب تورو له يعود مرة أخرى لعادة التلصص على العشاق في الحدائق العامة التي كان قد تاب عنها منذ أكثر من عشرين عاما. ويتم القبض عليه من الشرطة بسبب ذلك وينشر ذلك الأمر في إحدى المجلات الأسبوعية. وينتهزها تورو فرصة لكي يقوم بمحاولة وضع هوندا تحت الحجر العقلي ليصبح هو الحاكم الآمر في ممتلكات العائلة. فتقوم كيكو هيساماتسو التي تخمن فعل تورو باستدعائه وإبلاغه بسبب تبني هوندا له وحكاية الثلاث شامات وموضوع التناسخ، وتنعته بالابن المزور. تورو الذي انجرحت كرامته بشدة يستعير مذكرات الأحلام من هوندا ويقرأها ثم يقدم على الانتحار بتجرع السم في الثامن والعشرين من ديسمبر. تفشل محاولة الانتحار ولكنه يفقد بصره بسببها. بعد ذلك يتعلم تورو طريقة برايل في القراءة ويعيش حياة هادئة تتغير فيها شخصيته تماماً ويتزوج من فتاة عنيفة المزاج تسمى كينوئه ويصبح ألعوبة في يدها وكأنه إنسان السماء الذي بدأت عليه أعراض الشيخوخة والموت. من جانب آخر هوندا الذي توقع موعد موته يذهب إلى معبد غيشوجي في نارا لملاقاة ساتوكو بعد فراق لمدة ستين عاما. وهنا في نهاية النهاية يحطّم ميشيما تماما العالم الذي بناه خلال الأربعة أجزاء. فحبيبة كيوأكي السابقة ساتوكو أياكورا التي بلغت الثانية والثمانين من العمر وأصبحت كبيرة رهبان معبد "غتسوشوجي" التابع لطائفة "الوعي فقط" أو "يوغاكارا" (Yogācāra)، تقول لهوندا ما يلي:
"لم يسبق لي السماع عن شخص باسم "كيوأكي ماتسوغاي" من قبل. ألا تعتقد أن هذا الشخص لم يكن له وجود من الأصل؟ ربما جاءك أنت إحساس بوجوده، ولكن الواقع أنه من البداية لم يكن له وجود في أي مكان، ألا تعتقد أن تلك هي حقيقة الأمر؟"
في يوم من أيام الصيف الحار، هوندا الذي يرى أمامه حديقة في غاية الهدوء يشعر أنه جاء إلى الفراغ.

يقول ميشيما عن روايته بحر الخصوبة: "بعد أن أصبحت روائيا، كنت على الدوام أرغب في كتابة رواية لتفسير هذا العالم". يمكننا القول إن تلك الرواية بالفعل شكلت وجهة نظر ميشيما تجاه هذه الدنيا.
جعل ميشيما من فلسفة "الوعي فقط" في البوذية المسماة باللغة السنسكريتية "ماتراتا" أو (maatrataa) خطا مساعدا لشرح أحداثها، وجعلها أفضل وأنسب كتاب للتعريف بمبادئ البوذية وفلسفة الفراغ.
البوذية بها العديد من الطوائف، ولكن هناك طائفة هي مجرد تعاليم فقط، فليس لها أتباع وليس لها مقابر خاصة بها. وهي طائفة الوعي فقط المسماة باللغة السنسكريتية "يوغاكارا" (Yogācāra) وباللغة اليابانية "يويشيكي" أو (yuishiki). هذه الطائفة التي يستحيل وجودها من وجهة النظر الدينية الغربية العادية، هي طائفة تتمسك بتعاليم الديانة البوذية الجذرية. أحد المواضيع الهامة والأساسية لرواية "بحر الخصب" هي التفسير الكامل لطائفة "يوغاكارا" (Yogācāra) البوذية.
أغلب النقاد والقراء حتى الآن يعتقدون أن رواية "بحر الخصوبة" هي رواية عن تناسخ الأرواح فقط. ولكن الأمر ليس كذلك.
يصمم ميشيما الأجزاء الثلاثة الأولى من تركيبة الرواية وكأنها رواية عن تناسخ الأرواح.
إذا فسرنا كلمات ساتوكو الأخيرة تفسيرا صحيحا، وفهمنا المعنى الحقيقي لحرق تورو يوميات أحلام كيوأكي التي كان هوندا يحتفظ بها باهتمام بالغ، نستطيع فهم أن ما يريد ميشيما قوله هو إن روح الإنسان لا يحدث لها تناسخ أو إعادة ولادة.
وبهذا الشكل في نهاية النهاية ينكر ميشيما بكل وضوح تناسخ وتوالد الأرواح، وهنا تظهر بوضوح "نظرية الوعي فقط" التي جعلها ميشيما محور رواية بحر الخصوبة.
"نظرية الوعي فقط" هي تعاليم في منتهى الصعوبة على الأفهام وهي الأساس لتعليم اليوغا المنتشرة في العالم. وهي في كلمة واحدة "كل الأشياء تتقلب وتتغير"، كل شيء يتغير ويتحوّل ولا يوجد إلا الوعي بها فقط.
منطق الفراغ في البوذية يقوم على أن كل شيء مؤقت وله علاقة ببعضه ولكن لا يوجد في الواقع أي وجود فعلي حقيقي.
الخلاصة هي أن ميشيما الذي أنكر تناسخ الأرواح، ترك للقراء حل التساؤل: ما هو إذن الشيء الذي يتوالد ويتغير ويُبعث من جديد؟
*المصادر:
1.      بحر الخصوبة أربعة مجلدات باللغة اليابانية صدر عن دار نشر "شين تشو".
2.      بحر الخصوبة أربعة مجلدات باللغة العربية صدر عن دار الآداب اللبنانية.
3.      كتاب "مبادئ الأديان لليابان" باللغة اليابانية تأليف: د. ناوكي كومورو.
4.      مواقع وصفحات باللغتين العربية واليابانية على شبكة الإنترنت.