بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 11 مايو 2014

رؤية وتفسير ديني لرواية "بحر الخصوبة" ليوكيو ميشيما البوذية وتناسخ الأرواح ومعتقد الوعي فقط

رؤية وتفسير ديني لرواية "بحر الخصوبة" ليوكيو ميشيما
البوذية وتناسخ الأرواح ومعتقد الوعي فقط


تأليف: ميسرة عفيفي

في ليلة الخامس والعشرين من نوفمبر عام ١٩٧٠ أكمل يوكيو ميشيما  (١٩٢٥ ~ ١٩٧٠) الجزء الأخير من رباعية "بحر الخصوبة"، وبعد أن كتب آخر كلمات الرواية الأخيرة التي أسمها "سقوط الملاك" وفي صباح اليوم نفسه وضع أوراق الرواية في مظروف وأرسله بالبريد إلى عنوان شركة النشر، ثم قام بارتداء بذته العسكرية الأثيرة لديه والتي طلب خصيصا من أحد أشهر بيوت الأزياء العالم تصميمها لجماعته العسكرية التي أنشأها تحت اسم "جماعة الدرع" (tatenokai)، ثم اصطحب أربعة من أخلص تلاميذه في الجماعة وذهب بهم إلى القيادة العامة لقوات الدفاع الذاتي اليابانية في منطقة إيتشيغايا بالقرب من القصر الإمبراطوري ليقع الحادث المشهور "بحادثة إيتشيغايا" في التاريخ الياباني المعاصر أو حادثة انتحار ميشيما (راجع مقالة الكاتب "الفتى الذي كان يكتب الشعر فصار أحد أكبر روائيي اليابان: يوكيو ميشيما وأزهار الكرز" المنشورة في جريدة القدس العربي بتاريخ ٢٨ مارس ٢٠١٣).
يدل ما سبق على أن ميشيما كان حريصا كل الحرص على الانتهاء من رواية رباعية بحر الخصوبة وحريصا أيضا على وصولها للقراء بشكل مؤكد وفي أسرع وقت ممكن، إذ أنه لو تركها كمسودة بين إرثه لربما أهملها الورثة اعتقادا أنها لم تكتمل، أو لتأخر ظهورها على أقل تقدير لمعرفته بما هو مقدم عليها وما سيحدثه فعله من جلبة ودوي هائل لا يتوقف عند حدود اليابان بل يتخطاها إلى كل أنحاء العالم، وبالتالي لن تكون عائلته المسكينة التي تُركت بين حزنها عليه وبين هجوم شديد ولاذع من المجتمع الياباني المحافظ الذي استنكر بشدة فعلة ميشيما واعتبرها ضرب من التهور والجنون غير المحمود.

ما هو إذن محتوى رواية رباعية بحر الخصوبة تلك التي حرص ميشيما كل ذلك الحرص على إكمالها وإيصالها للعالم قبل موته منتحرا بالشكل الذي حدث. هذه المقالة تناقش تلك الرواية بأجزائها الأربعة لتحاول الوصول إلى مغزاها الديني والفلسفي الذي ضمنه ميشيما في كل أعماله التي تخطت مبيعاتها المائتين مليون نسخة في كل أنحاء العالم.

اسم الرواية "بحر الخصوبة" هو ترجمة قام بها ميشيما لكلمة لاتينية هي (Mare Foecunditatis) وهي تشير إلى اسم بحر من البحار الوهمية الموجودة على سطح القمر والذي يتناقض اسمه مع واقعه فهو بحر ناضب بلا ماء ولا خصوبة. تتكون رباعية بحر الخصوبة من أربعة أجزاء كما تدل كلمة رباعية، نُشر كل جزء منفصلا عن الآخر وباسم مستقل وبعد الانتهاء مباشرة من كتابته؛ فنشر الجزء الأول تحت اسم "ثلج الربيع" في مجلة "شين تشو" أو التيار الجديد بدءً من شهر سبتمبر عام ١٩٦٥ حتى شهر يناير عام ١٩٦٧، ونشر الجزء الثاني "الجياد الهاربة" في نفس المجلة بدء من شهر فبراير من نفس العام حتى أغسطس عام ١٩٦٨، ونشر الجزء الثالث "معبد الفجر" نشر من شهر سبتمبر من عام ١٩٦٩ حتى شهر أبريل من عام ١٩٧٠، أما الجزء الرابع والأخير "سقوط الملاك" فقد نُشر من شهر يوليو من نفس العام ونشرت أخر حلقة منه كما ذكرنا بعد انتحار ميشيما في يناير من عام ١٩٧١ وبعد حرصه على تكملته وإرساله للنشر قبل لحظات من بقر بطنه بيده ليلاقي مصيره المحتوم ويقابل الحقيقة الكبرى التي ظل يبحث عنها من خلال مؤلفاته طوال حياته القصيرة نسبيا مقارنة بمتوسط العمر الطويل لليابانيين.
بلغ عدد صفحات الأجزاء الأربعة من رواية "بحر الخصوبة" حوالي ١٣٠٠ صفحة في الطبعات الأربعة الأولى (طبعة كبيرة الحجم مُجلّدة)، وقد تُرجمت الرباعية بمجلداتها الأربعة إلى اللغة العربية عن طريق لغة وسيطة هي اللغة الإنجليزية على يد الأستاذ كامل يوسف حسين وصدرت الرباعية كاملة عن دار الآداب ببيروت فيما يقترب من الألف وتسعمئة صفحة من القطع المتوسط، نُشرت طبعة "ثلج الربيع" الأولى في عام ١٩٩٠، والطبعة الأولى من "الجياد الهاربة" في عام ١٩٩١، ونُشرت الطبعة الأولى من "معبد الفجر" في عام ١٩٩٣، ونُشرت الطبعة الأولى من الجزء الرابع "سقوط الملاك" عام ١٩٩٥.

يقول العالم والناقد الياباني المرموق د. ناوكي كومورو عن رباعية بحر الخصوبة: "إذا سألني أحدكم عن أفضل كتاب يشرح لليابانيين فلسفة الديانة البوذية التي تبلغ صعوبتها حدا لا مثيل له، سأرشح له آخر روايات يوكيو ميشيما رُباعية "بحر الخصوبة".
دعونا الآن نلقي نظرة سريعة على ملخص أحداث الرواية.
تبدأ الرواية بالجزء الأول "ثلج الربيع" ويحكي فيه ميشيما قصة حب رومانسية حالمة بين بطلي الرواية "كيوأكي ماتسوغاي" وحبيبته "ساتوكو أياكورا" اللذين يتمنيان معا لطبقة النبلاء. فقد أرسل والد كيوأكي ابنه إلى منزل عائلة أياكورا النبيلة ذات المرتبة الأعلى من مرتبة عائلة ماتسوغاي لكي يتربى كنبيل عظيم ويتاح له مستقبل زاهر. أما ساتوكو فهي ابنة عائلة أياكورا الوحيدة التي تكبر كيوأكي بعامين، وتتربى معه. وفي يوم من الأيام يعتقد كيوأكي مرهف الحس أن ساتوكو تعامله معاملة الأطفال بسبب فرق السن بينهما، فتنجرح كرامته ويبدأ في الابتعاد عنها. هنا تيأس ساتوكو من حبها له وتوافق على أن تُخطب لأحد أمراء البيت الإمبراطوري. وعندما يتحدث والد كيوأكي عن خطبة ساتوكو أمام كيوأكي كان رد فعله باردا لدرجة أن يرد بقوله إنه من الأفضل لها الإسراع بإتمام الزواج. ولكن ساتوكو تكتشف أن حبها لكيوأكي أعمق وأكبر مما كانت تعتقد. وأخيرا صدرت موافقة الإمبراطور على زواج ساتوكو من الأمير، ولكن حب ساتوكو يعود من جديد ليستولى على قلب كيوأكي. ولو دخلت ساتوكو رسميا في رحاب العائلة الإمبراطورية سيصبح لقاء الحبيبين السابقين مستحيلا. هنا يهدد كيوأكي وصيفة ساتوكو المسماة تاديشينا ويطلب منها أن ترتب له لقاءً سريا مع ساتوكو. وتوافق ساتوكو على ذلك، وبمعاونة صديقه الحميم هوندا تتكرر تلك اللقاءات حتى وصل الأمر إلى أن تحمل ساتوكو سفاحا. حاولت تاديشينا أن تقنع ساتوكو بإجهاض الجنين ولكن ساتوكو ترفض، فتحاول تاديشينا الانتحار.
وبسبب ذلك تعرف العائلتين ما بين ساتوكو وكيوأكي. فيقوم النبيل ماتسوغاي والد كيوأكي بتعريف ساتوكو بطبيب في مدينة أوساكا يقوم بإجهاضها، وتقوم ساتوكو بحلاقة شعرها تماماً لتدخل بعدها مباشرة سلك الرهبنة في معبد غيشّوجي في نارا. ويتم إلغاء القرار الإمبراطوري بزواجها من الأمير هارونوري توئين بسبب اختلال الحالة النفسية لساتوكو.
يذهب كيوأكي في السادس والعشرين من فبراير وسط تساقط ثلوج الربيع إلى معبد غيشّوجي البوذي لكي يرى ساتوكو ولو لنظرة واحدة ولكن يتم رده من على الباب ولا يستطيع لقائها. يصر كيوأكي على مقابلة ساتوكو إلا أنها ترفض ذلك رفضا تاما. وبسبب انتظاره الطويل وسط الثلوج يصاب كيوأكي بالتهاب رئوي حاد يتسبب في وفاته شابا في العشرين من عمره. ولكن كيوأكي قبل موته يبلغ هوندا أقرب أصدقائه إليه بعودته مرة أخرى للحياة من خلال التناسخ ويقول له "سنتقابل مرة أخرى يا صديق. سنتقابل عند الشلال."
بهذا ينتهي الجزء الأول من الرباعية ممهدا للجزء الثاني "الجياد الهاربة" الذي تدور أحداثه بين عامي ١٩٣٢ و١٩٣٣ وفيه يصير هوندا الذي بلغ من العمر ٣٨ بعد مرور ١٨ عام على وفاة كيوأكي وقد أصبح قاضيا في المحكمة العليا بأوساكا ثاني أكبر مدن اليابان. عند ذهاب هوندا لمشاهدة مباراة في رياضة الكندو اليابانية تتوقف عينه على شاب يبلغ من العمر ١٨ عام يلعب بسيف من خشب الخيزران، بلا أي هفوة أو خطأ. ويعرف أن هذا الشاب هو إيساو إينوما ابن شيغيوكي إينوما الذي كان يعمل كاتبا عند كيوأكي. بعد المباراة يلتقي هوندا مع إيساو مصادفة بجوار شلال سانكو في جبل ميواياما ويكتشف وجود ثلاث شامات سوداء في بطنه تماثل تماما الشامات الثلاثة التي كانت لدى كيوأكي، ويذهل هوندا عندما يتذكر قول كيوأكي له عند موته.
كوّن إيساو مع أصدقاء له جماعة باسم "رابطة النقاء"، بهدف العمل على تطهير عالمي السياسة والاقتصاد من الفساد ولو بالسيف. ويتقرب إيساو من ضابط في القوات البرية للجيش الإمبراطوري يدعى هوري، وكذلك تقابل مع الأمير هارونوري توئين وبالتالي زاد عدد أعضاء الجماعة وتأمّل إيساو في تعاون الجيش مع مخططه.
يدعو إينوما - والد إيساو - هوندا إلى منطقة ياناغاوا في محافظة شيزوأوكا ليرى هناك أناس بزي أبيض يحاولون تهدئة روح إيساو. ويقول والد إيساو لابنه: "أنت بلا أي شك، إله هائج." وكان ذلك المشهد بحذافيره يوجد في مذكرات أحلام كيوأكي. وعندها يتأكد هوندا تماماً من أن إيساو هو روح كيوأكي قد تناسخت وولدت من جديد.
يُنقل النقيب هوري إلى منشوريا وبذلك نقص عدد رفقاء إيساو ولكنه يظل مع باقي الرفاق في التفكير والتخطيط في سرية كاملة لتنفيذ مجموعة اغتيالات تستهدف كبار رجالات السياسة والاقتصاد، ولكن تتسرب الخطة بشكل ما ويتم إلقاء القبض على إيساو ورفاقه قبل التنفيذ. وعلى الفور يقرر هوندا الاستقالة من القضاء والتحول إلى محامي ليقوم بمهمة الدفاع عن إيساو ورفاقه لإنقاذهم. وبفضل دفاع هوندا يحصل إيساو ورفاقه على البراءة بعد عام كامل من التقاضي والمحاكمة ويتم إطلاق سراح الجميع. ولكن يذهل إيساو عندما يعرف إن والده هو الذي سرب خطة الاغتيالات ويسمع هوندا إيساو يقول وهو في حالة سكر بيّن: "الجنوب ... أقصى الجنوب داخل أشعة وردة بلدية في دولة جنوبية. ..."
في التاسع والعشرين من ديسمبر يختبأ إيساو عن أنظار الجميع، ويتوجه إلى جبل إيزو حاملا معه خنجر صغير. ثم يتسلل إلى البيت الريفي لـ "تاكيسيكي كوراهارا" ويغتاله. ويهرب من الحراس الذين تتبعوه، وفي الليل يصعد إيساو إلى جبل عال يطل على البحر ويقدم على الانتحار ببقر بطنه.

الجزء الثالث "معبد الفجر" تدور أحداثه على قسمين الأول في فترة وقوع الحرب العالمية الثانية من عام ١٩٤١ وحتى عام ١٩٤٥. والثاني يدور في عامين فقط هما عام ١٩٥٢ ثم بعد مرور ١٥ عاما أي في عام ١٩٦٧.
يذهب هوندا الذي بلغ السابعة والأربعين من العمر لزيارة أمير تايلاند في بانكوك وهو الذي كان على علاقة جيدة مع كيوأكي. وهناك يقابل الأميرة جين جان التي تقول إن روحها هي ميلاد جديد لرجل ياباني. وعندما ترى جين جان هوندا تقول إنها كانت تحن إلى لقائه وتعتذر عن الرحيل دون إبلاغه. وتقوم بالرد بإجابات صحيحة تماما عن اليوم الذي تم القبض فيه على إيساو، وتاريخ مقابلة هوندا وكيوأكي أمام أطلال بوابة حديقة قصر ماتسوغاي، وأظهرت بوضوح أنها فعلا الميلاد الجديد لكيوأكي، ولكن بعد ذلك وأثناء نزهة مع الأميرة، لم يجد هوندا في جانب بطنها الثلاثة شامات المميزة لكيوأكي. يسافر هوندا إلى الهند وهناك يخوض عدة تجارب روحية عميقة، ثم يعود إلى بانكوك حاملا هدايا لجين جان من الهند، فتتشبث به في الوداع باكية لكنه يعود إلى اليابان وفي قلبه مرارة الفراق، وتشب الحرب بين اليابان وأمريكا بعد عودته بأيام.
بسبب تجاربه في الهند وتناسخ روح صديقه، يغرق هوندا في عالم تناسخ البوذية وعالم نظرية الوعي فقط، أثناء الحرب ينهمك هوندا في كتب أبحاث البوذية المتعددة. في أحد الأيام وعند ذهابه في مهمة عمل يمد خطواته إلى أطلال قصر ماتسوغاي، فوجده قد احترق ولم يبق منه إلا بقايا محترقة، ولكنه يلتقي مصادفة بالخادمة تاديشينا التي بلغت من العمر عتيا. وأراد هوندا أن يقابل ساتوكو ولكنه لم يستطع ذلك بسبب صعوبة الأوضاع أثناء الحرب.
في القسم الثاني من الجزء الثالث، يحصل هوندا الذي بلغ من العمر الثامنة والخمسين على مبالغ طائلة بعد نجاحه في عمله في قضايا نزاع على ملكية أراض، فيبتاع أرضا في منطقة غوتنبا التي تطل على جبل فوجي ويبني فيها فيلا لسكنه. وتسكن بجواره كيكو هيساماتسو التي تبلغ حوالي الخمسين من العمر، وهي سيدة مترفة وتصبح صديقة لهوندا ومن أصدقائه الذين يترددون على فيلته ولكن هوندا كان يتلهف على مجيء جين جان التي أصبحت في سن الثامنة عشر وأتت إلى اليابان للدراسة.
عندما قابل هوندا جين جان أبلغته أنها لا تتذكر أي شيء عن قولها في طفولتها أنها ميلاد جديد لروح صديقه كيوأكي. رغم فارق العمر الكبير وقع هوندا في عشق جين جان التي صارت جميلة وجذابة. بسبب عشقه لها يقوم هوندا بالتلصص عليها في غرفتها في فيلته من خلال ثقب في الجدار، فيجدها تتعانق عارية مع كيكو، ولكن ما أدهشه هو وجود ثلاثة شامات بجنب البطن. ولكن بعد ذلك يقع حريق في الفيلا، وتعود جين جان إلى بلادها وتنقطع أخبارها. بعد خمسة عشر عام يذهب هوندا لحضور حفل في السفارة الأمريكية بطوكيو وهناك يقابل امرأة تشبه جين جان تماماً. ويعرف أنها تؤامها وتبلغه أن جين ماتت في العشرين من عمرها عندما لدغها ثعبان من نوع الكوبرا في حديقة منزلها.
الجزء الرابع والأخير من رباعية "بحر الخصوبة" هو "سقوط الملاك"، وترجمة العنوان بالعربية هو ترجمة مباشرة للعنوان باللغة الإنجليزية المنقول عنها النسخة العربية، ولكن عنوان الرواية باللغة اليابانية عبارة عن تعبير ديني ينتمي للبوذية هو باللغة اليابانية، (تن نين غو سوي) ويشير إلى الأعراض التي تعتري ساكن السماء في أعلى عالم من عوالم التناسخ، عند يقترب منه الموت ويوشك على الانتقال من حياته في علياء السماء إلى عالم آخر غير معروف ربما يكون السماء مرة أخرى أو الأرض في صورة بشر أو ربما تحت الأرض في صورة شياطين.
أحداث الجزء الأخير من عام ١٩٧٠ وحتى صيف عام ١٩٧٥ ونلاحظ أن ميشيما يتحدث في تلك الفترة عن الحياة في المستقبل القريب، بل وبعد رحيله هو عنها (وهو ما نزعم أنه يعرف ذلك).
هوندا الذي بلغة من العمر السادسة والسبعين، رحلت عنه زوجته، فأصبح كثير السفر، مرات كثيرة وحيدا ومرات أخرى مع صديقته كيكو هيساماتسو التي قاربت السبعين من العمر. وفي إحدى رحلاته قابل هوندا فتى في السادسة عشر من عمره يدعى تورو ياسوناغا يعمل في ميناء شيميزو كعامل إشارة للسفن. يعتقد هوندا أن تورو هو ميلاد جديد لروح صديقه كيوأكي بعد أن يشاهد الثلاثة شامات في جانب بطنه الأيمن، فيقوم بتبنيه ويربيه تربية العظماء من حيث التعليم ويأدبه بأدب راقي كي لا يموت صغيرا كما حدث مع كيوأكي وإيساو
ولكن يشعر هوندا أن تورو يشبهه تماماً في تركيبة الوعي الذاتي، ولذا يشعر أنه ليس تناسخ حقيقي لروح كيوأكي. ويتحول تورو تدريجيا الي الشر، ويسقط خطيبته موموكو في الخطيئة ثم يفسخ خطوبته معها. وبعد أن يلتحق بجامعة طوكيو القومية يبدأ في الاضرار بهوندا والده بالتبني الذي بلغ الثمانين من العمر.
وبسبب الضغط النفسي الواقع على هوندا من تعذيب تورو له يعود مرة أخرى لعادة التلصص على العشاق في الحدائق العامة التي كان قد تاب عنها منذ أكثر من عشرين عاما. ويتم القبض عليه من الشرطة بسبب ذلك وينشر ذلك الأمر في إحدى المجلات الأسبوعية. وينتهزها تورو فرصة لكي يقوم بمحاولة وضع هوندا تحت الحجر العقلي ليصبح هو الحاكم الآمر في ممتلكات العائلة. فتقوم كيكو هيساماتسو التي تخمن فعل تورو باستدعائه وإبلاغه بسبب تبني هوندا له وحكاية الثلاث شامات وموضوع التناسخ، وتنعته بالابن المزور. تورو الذي انجرحت كرامته بشدة يستعير مذكرات الأحلام من هوندا ويقرأها ثم يقدم على الانتحار بتجرع السم في الثامن والعشرين من ديسمبر. تفشل محاولة الانتحار ولكنه يفقد بصره بسببها. بعد ذلك يتعلم تورو طريقة برايل في القراءة ويعيش حياة هادئة تتغير فيها شخصيته تماماً ويتزوج من فتاة عنيفة المزاج تسمى كينوئه ويصبح ألعوبة في يدها وكأنه إنسان السماء الذي بدأت عليه أعراض الشيخوخة والموت. من جانب آخر هوندا الذي توقع موعد موته يذهب إلى معبد غيشوجي في نارا لملاقاة ساتوكو بعد فراق لمدة ستين عاما. وهنا في نهاية النهاية يحطّم ميشيما تماما العالم الذي بناه خلال الأربعة أجزاء. فحبيبة كيوأكي السابقة ساتوكو أياكورا التي بلغت الثانية والثمانين من العمر وأصبحت كبيرة رهبان معبد "غتسوشوجي" التابع لطائفة "الوعي فقط" أو "يوغاكارا" (Yogācāra)، تقول لهوندا ما يلي:
"لم يسبق لي السماع عن شخص باسم "كيوأكي ماتسوغاي" من قبل. ألا تعتقد أن هذا الشخص لم يكن له وجود من الأصل؟ ربما جاءك أنت إحساس بوجوده، ولكن الواقع أنه من البداية لم يكن له وجود في أي مكان، ألا تعتقد أن تلك هي حقيقة الأمر؟"
في يوم من أيام الصيف الحار، هوندا الذي يرى أمامه حديقة في غاية الهدوء يشعر أنه جاء إلى الفراغ.

يقول ميشيما عن روايته بحر الخصوبة: "بعد أن أصبحت روائيا، كنت على الدوام أرغب في كتابة رواية لتفسير هذا العالم". يمكننا القول إن تلك الرواية بالفعل شكلت وجهة نظر ميشيما تجاه هذه الدنيا.
جعل ميشيما من فلسفة "الوعي فقط" في البوذية المسماة باللغة السنسكريتية "ماتراتا" أو (maatrataa) خطا مساعدا لشرح أحداثها، وجعلها أفضل وأنسب كتاب للتعريف بمبادئ البوذية وفلسفة الفراغ.
البوذية بها العديد من الطوائف، ولكن هناك طائفة هي مجرد تعاليم فقط، فليس لها أتباع وليس لها مقابر خاصة بها. وهي طائفة الوعي فقط المسماة باللغة السنسكريتية "يوغاكارا" (Yogācāra) وباللغة اليابانية "يويشيكي" أو (yuishiki). هذه الطائفة التي يستحيل وجودها من وجهة النظر الدينية الغربية العادية، هي طائفة تتمسك بتعاليم الديانة البوذية الجذرية. أحد المواضيع الهامة والأساسية لرواية "بحر الخصب" هي التفسير الكامل لطائفة "يوغاكارا" (Yogācāra) البوذية.
أغلب النقاد والقراء حتى الآن يعتقدون أن رواية "بحر الخصوبة" هي رواية عن تناسخ الأرواح فقط. ولكن الأمر ليس كذلك.
يصمم ميشيما الأجزاء الثلاثة الأولى من تركيبة الرواية وكأنها رواية عن تناسخ الأرواح.
إذا فسرنا كلمات ساتوكو الأخيرة تفسيرا صحيحا، وفهمنا المعنى الحقيقي لحرق تورو يوميات أحلام كيوأكي التي كان هوندا يحتفظ بها باهتمام بالغ، نستطيع فهم أن ما يريد ميشيما قوله هو إن روح الإنسان لا يحدث لها تناسخ أو إعادة ولادة.
وبهذا الشكل في نهاية النهاية ينكر ميشيما بكل وضوح تناسخ وتوالد الأرواح، وهنا تظهر بوضوح "نظرية الوعي فقط" التي جعلها ميشيما محور رواية بحر الخصوبة.
"نظرية الوعي فقط" هي تعاليم في منتهى الصعوبة على الأفهام وهي الأساس لتعليم اليوغا المنتشرة في العالم. وهي في كلمة واحدة "كل الأشياء تتقلب وتتغير"، كل شيء يتغير ويتحوّل ولا يوجد إلا الوعي بها فقط.
منطق الفراغ في البوذية يقوم على أن كل شيء مؤقت وله علاقة ببعضه ولكن لا يوجد في الواقع أي وجود فعلي حقيقي.
الخلاصة هي أن ميشيما الذي أنكر تناسخ الأرواح، ترك للقراء حل التساؤل: ما هو إذن الشيء الذي يتوالد ويتغير ويُبعث من جديد؟
*المصادر:
1.      بحر الخصوبة أربعة مجلدات باللغة اليابانية صدر عن دار نشر "شين تشو".
2.      بحر الخصوبة أربعة مجلدات باللغة العربية صدر عن دار الآداب اللبنانية.
3.      كتاب "مبادئ الأديان لليابان" باللغة اليابانية تأليف: د. ناوكي كومورو.
4.      مواقع وصفحات باللغتين العربية واليابانية على شبكة الإنترنت.


الخميس، 6 يونيو 2013

القضية ليست صدام حضارات

القضية ليست صدام حضارات

 بقلم العالم الياباني:  د. ناوكي كومورو
 ترجمة: ميسرة عبد الراضي عفيفي

(مقدمة من المترجم : الدكتور ناوكي كومورو عالم موسوعي يبلغ من العمر 73 عاما له العديد من الدراسات  والأبحاث في كافة فروع المعرفة.  اكتسب شهرته المدوية في اليابان والعالم في بداية الثمانينات عندما تنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتي في دراسة نشرها في أغسطس من عام 1980 تحت عنوان "انهيار  الإمبراطورية السوفيتية".  كتب دراسة عن حرب الخليج الأولى المسمى بحرب تحرير الكويت تحت عنوان "انتقام العرب" مهاجماً فيها الطريقة الأمريكية في معالجة الأزمة. في أكتوبر من عام 2000 نشر دراسته القيمة "أصول الأديان لليابانيين" وهي دراسة في مقارنة الأديان قارن فيها الديانات الأربع الكبرى في العالم وهي  المسيحية والإسلام والبوذية والكونفوشية وتوصل إلي أن الإسلام هو الدين الأكمل بينها وأن الإسلام هو النموذج الأمثل لما يجب أن يكون عليه الدين. ((نشرت جريدة الشعب الإلكترونية الفصل الخاص بالإسلام الذي ترجمه كاتب هذه السطور تحت عنوان " الإسلام هو الدين الحق" في عددها الصادر في 8 يوليو 2005)).
ثم وقعت الواقعة وزُلزل العالم أو أريد له أن يُزلزل بأحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. وأعلن العالم  غربه وشرقه الحرب على الإسلام بحجة الحرب على الإرهاب. ولم تكن اليابان بعيدة عن ذلك.  وبدأ الإعلام  الياباني ينقل من الإعلام الغربي الصورة كما هي دون توضيح أو شك في أنها الصورة الصادقة. ساء ذلك كاتبنا  كثيراً فأصدر في مارس عام 2002 كتاباً تحت عنوان "مبادئ الإسلام لليابانيين" دافع فيه عن الإسلام وفند الصورة الخاطئة التي يريد الغرب أن يجعلها هي الإسلام.
 المقالة هذه هي آخر سبع صفحات من هذا الكتاب في آخر فصول الكتاب تحت عنوان "معاناة الإسلام في العصر الحديث". أما العنوان أعلاه فهو من عندي.  م.ع ).

التعامل مع حركات الصحوة (الإسلامية) على أنها هوس ديني يعبر عن جهل أمريكا:

ما جعل الفاندمنتاليزم (الأصولية المسيحية) تشتهر بشدة هي المونكي ترايال أو ما يمكن ترجمته محاكمات القرد.
وهي المحاكمات التي تتعلق بنظرية التطور.
أحد معلمي المدارس الثانوية في الولايات المتحدة الأمريكية درّس لطلابه في المدرسة دروساً تعلمهم نظرية النشوء والارتقاء مما جلب عليه غضب أولياء الأمور وانتهى الأمر بفصله من وظيفته، فرفع هذا المدرس قضية مطالباً  اعتبار هذا الفصل فصل تعسفي وبإعادته إلى عمله. هذه هي البداية.
في هذه المحاكمة القضية التي أصبحت محل النزاع بلا جدال هي ماذا يقول الكتاب المقدس؟
الكتاب المقدس يقول إن الله هو خالق الإنسان. ومع هذا يأتي من يقول كلاماً فارغاً مثل إن القرد قد تطور فأصبح  إنساناً. من هنا جاءت اسم محاكمات القرد.
أول هذه المحاكمات حدثت في ولاية أركانصو في العشرينات من القرن الماضي، لكن اللافت للنظر هو تكرر هذا النوع من المحاكمات بعد ذلك أكثر من مرة.
مؤخراً في ثمانينات القرن العشرين حدث جدال واسع في أمريكا حول هل يجب تدريس نظرية التطور أم لا.
كما وضحنا الفاندمنتاليزم (الأصولية المسيحية) شئ وثيق الصلة بالنسبة للأمريكان. لذلك عندما رأوا الثورة الإيرانية لا شعورياً  أصدروا حكمهم السريع والجاهز بأنها نوع من أنواع الفاندمنتاليزم  (الأصولية المسيحية).
ونستطيع أن نتخيل أنهم في أعماق قلوبهم يحملون تصوراً خاطئاً مفاده أن"محاولة إعادة المجتمع الإسلامي الذي  كان موجوداً قبل أكثر من ألف عام هو شئ لا يفكر فيه إلا المهووسين الدينيين الذين يرفضون العلوم الحديثة.
بالفعل عندما حدثت الثورة الإيرانية قال الرئيس الأمريكي جيمي كاتر وكرر أقوال تستند على هذا التصور الخاطئ. كرر أكثر من مرة القول أن من قاموا بهذه الثورة هم أناس مجانين لديهم هوس ديني. أيضاً وسائل الإعلام الأمريكي والأوروبي كررت بث المعلومات التي تكونت من نفس التصور.
في الأصل الفاندمنتاليست (الأصولي) في المسيحية هو من يضع المشكلة في الإيمان القلبي فقط. الفاندمنتاليست  (الأصولي) في المسيحية هو من يؤمن بكل ما هو مكتوب في الكتاب المقدس كما هو.  أي أنه ليس للفاندمنتاليستس  (الأصوليين المسيحيين) أي قوانين خاصة بهم.
في المقابل، إذا نظرنا إلى الإسلام على أي وجه من الوجوه، لا سبيل فيه  إلى ظهور فاندمنتاليست (أصولي) يدعي أن من يؤمن فقط بالقرآن(دون عمل) سيفلح.
القرآن ذات نفسه يدعو المؤمنين به إلى الفعل الخارجي بمعنى أن القرآن يطالب بالمحافظة على أوامره ونواهيه.
وبذلك فظهور فاندمنتاليست (أصولي) على الطريقة المسيحية هو شئ غير وارد على الإطلاق في الإسلام. لكن الغربيين وخاصة الأمريكيين منهم لا يعلمون بدائيات البدائيات في الإسلام هذه، ثم يتعاملون مع حركات  الصحوة الإسلامية على إنها حركات لأناس متخلفين ومهوسين دينياً.
وبناء على هذا فإن عدم إعتراض العالم الإسلامي على هذه المعاملة يكون هو الشئ المستغرب.
إن المسلمين ليسوا مهاويس دينياً على الإطلاق. إنهم يعانون بجدية من وضعهم الراهن ويحاولون عمل حركة  تصحيحية تعود بهم إلى الأصول. وهو ما لا ينبغي تشبيهه بالأصولية المسيحية، بل يجب على العكس تشبيهم بجون  كالفن ومارتن لوثر.
بالطبع فيهم بعض المتطرفين . لكن التعامل مع حركات الصحوة الإسلامية جميعها على أنها كلها حركات تطرف، سيزيد حقد العالم الإسلامي على أمريكا ولن يحدث أي تفاهم بينهما أبداً.

حرب الخليج (تحرير الكويت) زادت من عقدة الحروب الصليبية لدى المسلمين:

المسلمون لديهم عقدة تسمى الحروب الصليبية.
هذه العقدة لازالت حتي الآن مستقرة في قلوبهم.
يعاني العالم الإسلامي حالياً ويتحرق جسده بسبب التناقض بين دخول العصر الحديث وبين العودة إلى الأصول.
ماذا فعل العالم الغربي إزاء ذلك؟
هل تفهم معاناة العالم الإسلامي هذه وحاول أن يقدم له يد المساعدة؟
هيهات.
هؤلاء المسيحيون ما فعلوه هو شئ شبيه بتكديس الملح في قلوب المسلمين الدامية.
حرب الخليج التي بدأت أحداثها عام 1990 كانت كذلك.
دراسة وتحليل هذا الحادث الضخم، عرضته في كتابي " إنتقام العرب" لذلك سأختصر التفاصيل هنا، لكن التصرف الذي قامت به أمريكا هو بالفعل السبب في تضخيم عقدة الحروب الصليبية لدى المسلمين.
ألا وهو وطئ الجيش الأمريكي الأراضي السعودية والبقاء فيها. بالنسبة للمسلم لا توجد إهانة أكبر من ذلك.
وذلك لأن السعودية توجد بها الأماكن المقدسة للمسلمين مكة والمدينة.
السعودية هذه وطئها جيش غير إسلامي، لا بل هو جيش مسيحي.
هذه صدمة لهم أكبر من صدمة الحروب الصليبية.
في الماضي حتى الجيوش الصليبية لم تجرؤ على الإقتراب من مكة أو المدينة. حقاً القدس ثالثة المدن المقدسة، لكن حرمتها لا تقارن أبداً بهاتين المدينتين مكة والمدينة.
الويل لأمريكا.
الويل لكل مسيحي.
لا داعي للقول أن كل مسلم لديه قلب، إنتشر داخله الحقد على أمريكا.
بعد ذلك أعلنت المنظمات الإسلامية المتطرفة بدء الجهاد ضد أمريكا.

نظرية صدام الحضارات  لن تُفهمنا القضية في وضعها الصحيح:

توجد فجوة بين الإسلام والغرب.
وهي فجوة عميقة وواسعة.
العالم الإسلامي يعاني من عقدة الحروب الصليبية، ويحاول بكل جهده البحث عن طريق العلاج منها. يعاني في الاختيار بين التحديث وبين العودة إلى الأصول، ولم يعثر على حل حتى الآن.
في حين أن الغرب ليس لديه أي علم بمعاناة العالم الإسلامي، ولا يحاول حتى معرفة ذلك. طبعاً لا مجال للحديث عن التعاطف مع المسلمين.
يظهر ذلك جلياً في زلة اللسان المشهورة للرئيس جورج بوش (الإبن) وقوله إنها حرب صليبية (كورسيد).
إنه يصف إرسال الجنود إلى أفغانستان بإرسال الجيوش الصليبية في الماضي.
الضبط كما يقولون ألقى زيتاً على النار، لا بل هو كمن ألقى خزانات ضخمة من الوقود على النار.
بالإضافة إلى أن الرئيس بوش الذي زل هذه الزلة الكبرى، والده هو الرجل الذي قرر إرسال الجيش الأمريكي إلى المملكة العربية السعودية.
السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية هدفها القضاء نهائياً على المسلمين، مثلما كان هذا هو هدف الحروب الصليبية. لا حيلة لأمريكا في الدفاع إذا ما اعتقد المسلمون ذلك. عقدة الحروب الصليبية زادت أكثر وأكثر.
بَيْد أن الحكومة الأمريكية المعنية بالأمر، لا تعرف أي شئ عن ما يحمله المسلمون في قلوبهم من مشاعر كهذه.
وهذا ما يُعقد القضية.
ويبدو مظهرها أنها تعتقد أنه أمام قوتها العسكرية الضخمة لن تأخذ حفنة مثل المسلمين المتخلفين في يدها غلوة.
وهو ما ينتج عنه نتيجة عكسية تماماً تتمثل في زيادة إستفزاز عقدة الحروب الصليبية فقط. كلما تفعل أمريكا ذلك كلما تحول العالم الإسلامي إلى عداءها أكثر وأكثر.
ويمكننا القول أنه لا يوجد الشئ الذي يمنع هذه الدائرة المفرغة إلا أن يدخل الرئيس الأمريكي ذات نفسه في الإسلام.
كما دخل التتار سابقاً في الإسلام، يدخل الرئيس جورج بوش في الإسلام. إذا فعل ذلك فستزول عقدة الحروب الصليبية لدى المسلمين أو على الأقل ستقل إلى درجة بعيدة جداً.
لكن بالطبع الأمريكي الذي ليس لديه أي معرفة بالإسلام، لا يستطيع الوصول بتفكيره إلى مثل هذا الحل العبقري.
إذن.
كاتب هذه السطور يعلنها مدوية.
حتى لو تم القبض على بن لادن، حتى لو تم القضاء على القاعدة وعلى كل التنظيمات المتطرفة ، لن ينتهي الصراع بين الإسلام وأمريكا ومعها الغرب.
مهما أستخدمتم من قنابل، لن تستطيعوا أن تزيلوا عقدة الحروب الصليبية التي توجد في داخل كل مسلم. وبالطبع لن تستطيعوا أيضاً أن تساعدوا العالم الإسلامي في حل المشاكل التي يعانيها.
صراع المجتمعات الغربية مع المجتمعات الإسلامية ليس مجرد "صدام حضارات".
إنه صراع تاريخي يتواصل لأكثر من الف عام، وله جذور عميقة جداً.
وعلى فرض أن أمريكا إنتصرت هذه المرة في "الحرب على الإرهاب" ، فهو ليس إلا إنتصار لحظي. ويجب على السادة القراء وضع هذه الكلمات في وعيهم وعدم نسيانها.
إسلام يعاني.
أمريكا تتغطرس.

متي ياترى يأتي اليوم الذي يتفاهمان.

الأحد، 2 يونيو 2013

أحدث روايات هاروكي موراكامي "تسوكورو تازاكي عديم اللون، وسنوات حجه"

أحدث روايات هاروكي موراكامي
"تسوكورو تازاكي عديم اللون، وسنوات حجه"


بقلم: ميسرة عفيفي
يعتبر هاروكي موراكامي أشهر أديب ياباني على قيد الحياة ومن أوسع أدباء العالم انتشارا، ويقال إنه أكثر الأدباء قربا من الحصول على جائزة نوبل التي يرشح لها كل عام تقريبا في السنوات الأخيرة. ولد موراكامي عام 1949 في مدينة كيوتو العتيقة التي تعتبر أكثر المدن اليابانية احتفاظا بطابعها التقليدي القديم، ولكنه انتقل مبكرا للعيش في مدنية كوبيه القريبة منها مع والديه اللذين كانا يعملان في تدريس اللغة اليابانية في مدرسة أهلية متوسطة. وبتأثير منهما أصبح موراكامي محبا للقراءة يقضي أغلب وقته في التهام الكتب. دخل موراكامي في عام 1968 جامعة واسيدا الشهيرة التي تعتبر من أفضل الجامعات في اليابان، لدراسة الأدب ولكنه عمل أثناء دراسته في الجامعة كعامل بار في أحد نوادي موسيقى الجاز الليلية في طوكيو. ثم تزوج في عام 1971 من زميلة له في الدراسة وشاركها في امتلاك بار متخصص في موسيقى الجاز وهما مازالا يدرسان في الجامعة مما جعله لا يتخرج من الجامعة إلا في عام 1975 بعد قضاء سبع سنوات فيها، وهو أمر نادر في اليابان. يشتهر موراكامي في اليابان بكرهه للظهور في وسائل الإعلام وعدم حبه للحديث عن نفسه أو كشف حياته الشخصية للعامة من خلال وسائل الإعلام المختلفة. ويفسر موراكامي ذلك بقوله إنه أثناء عمله في البار، تحدث مع بشر عديدين أحاديث كثيرة للغاية تكفيه لبقية حياته. ولكن في مقابل ذلك يسهب موراكامي في الحديث لوسائل الإعلام الأجنبية، وينشط في تسويق نفسه عالميا.
بدأ موراكامي الكتابة الأدبية متأخرا نوعا ما، إذ أنه كان في الثلاثين من العمر عندما نُشر له أول عمل روائي وهو "استمع لأغنية الريح". ويقول موراكامي إنه فكر صدفة في كتابة الروايات أثناء مشاهدته لمباراة في لعبة البيسبول بملعب جينغوو القريب من البار الذي كان يملكه.
حقق موراكامي شهرته المدوية من خلال رواية "الغابة النرويجية" التي باعت في اليابان فقط ما يقرب من خمسة ملايين نسخة. ثم توالت أعماله الروائية التي ما أن تصدر حتى تتصدر قائمة المبيعات وتترجم للغات عدة من لغات العالم الحية ومنها اللغة العربية التي تُرجم لها خمسة أعمال لموراكامي هي "الغابة النرويجية"، و"رقص رقص رقص"، و"جنوب الحدود غرب الشمس"، و"سبوتنيك الحبيبة"، وأخيرا "كافكا على الشاطئ"، ولكن للأسف كلها تم ترجمتها عن طريق لغة وسيطة هي اللغة الإنجليزية ولم يسبق على حد علمي أن تُرجمت له أية أعمال مباشرة من اللغة اليابانية حتى كتابة هذه السطور.
يشتهر موراكامي كذلك كمترجم للأدب الأمريكي المعاصر، فترجم عددا كبيرا من الأعمال الأدبية لجون وينسلو إيرفينغ، وكريس فان أولسبرغ، وتيم أوبرين، وريموند كليف كارفر، وريموند ثورنتون تشاندلر وغيرهم العديد من الأدباء.

أحدث روايات هاوركي موراكامي وهي محور هذا الحديث، صدرت في 15 أبريل من هذا العام، حسب ما هو منشور في الصفحة الداخلية لها، ولكن في الواقع بدء بيعها فعليا يوم 12 أبريل وحصل كاتب هذه السطور على نسخة منها في ذلك اليوم.
وقد سجلت الرواية حدثا هاما في تاريخ بيع الكتب في اليابان، وهي أنها أصبحت أول كتاب في تاريخ اليابان يصدر منه الطبعة الثانية في اليوم الأول من بدء بيع الطبعة الأولى في الأسواق بسبب نفاذ الكمية المطبوعة قبل نهاية ذلك اليوم. وقيل إنها باعت مليون نسخة في الأسبوع الأول من طرحها للبيع. الرواية أعادت موراكامي لعشاق أدبه بعد غياب ثلاثة سنوات منذ أن أصدر الجزء الثالث والأخير من ثلاثيته 1Q84 التي بدورها كانت تتصدر قائمة المبيعات كلما نزل للأسواق جزء منها.
يقول موراكامي عن روايته الجديدة إنه لأول مرة يترك لقلمه العنان لكتابة أحداثها دون أن تكون فكرتها مكتملة ومختمرة في رأسه، وإنه كان يستمتع بالتفكير في تطور أحداث الرواية يوما بيوم طوال الستة أشهر التي قضاها في كتابتها. تقع الرواية في 19 فصلا بما إجماله  370 صفحة من القطع المتوسط. اسم الرواية كما في عنوان هذا المقال  يعتبر من أطول أسماء روايات هاروكي موراكامي وهو في اللغة اليابانية يعتبر جملة اسمية كاملة: "تسوكورو تازاكي عديم اللون، وسنوات حجه". وتسوكورو تازاكي هذا هو بطل الرواية الذي تتمحور حوله كل الأحداث والشخصيات.
وتتركز أحداث الرواية في عقدين منذ كان البطل في العام الأول من المدرسة الثانوية وحتى العصر الحالي ويبلغ فيه البطل 36 عاما، أي من فترة مراهقته إلي فترة الكهولة حيث تنتهي الرواية. تبدأ أحداث الرواية من فترة النهاية حيث يعيش تسوكورو (والاسم عبارة عن صيغة المصدر من فعل "يصنع أو يُنشئ")، في طوكيو ويعمل بعد تخرجه من كلية الهندسة في تصميم وإنشاء محطات القطارات، وهو ما كان يحلم به منذ طفولته. كان تسوكورو في مرحلة الدراسة الثانوية في مدينة ناغويا التي ولد وتربي بها يكوّن مع أربعة من أصدقائه (بنتين وولدين) صداقة قوية وكانوا الخمسة عبارة عن كتلة واحدة يتحركون معا ويلعبون معا ويستذكرون دروسهم معا ولا يفترقون إلا عند النوم. ويصادف أن يحتوي اسم الأربعة الآخرين فيما عدا تسوكورو على لون ما، فالولدين الأول اسمه كيي أكاماتسو، "أكا" بمعنى أحمر والثاني اسمه يوشيو أومي، "أو" بمعنى أزرق، والبنتين الأولى اسمها يوزوكي شيرانه، "شيرو" تعني أبيض والثانية اسمها إري كورونو، "كورو" يعني أسود، وبالتالي أصبحت أسماء النداء بينهم هي أكا (أحمر)، أو (أزرق)، وشيرو (أبيض)، وكورو (أسود)، ثم تسوكورو هو الوحيد الذي لا يحتوي اسمه على لون فيظل كما هو تسوكورو، وهذا سبب عنوان الرواية "تسوكورو تازاكي عديم اللون ...".
وكذلك كان تسوكورو هو الوحيد بينهم الذي اختار جامعة في طوكيو، ويغادر ناغويا بعد انتهاء المرحلة الثانوية ليدرس ويعيش في طوكيو.
في العام الثاني له في الجامعة، وعند عودته في إجازة لناغويا، يفاجئ تسوكورو أن الأصدقاء قد قرروا قطع صلتهم به وإنهاء علاقتهم جميعا معه. وقد أخبره "أو" بذلك وطلب منه عدم الاتصال بأي منهم أبدا، ولم يخبره عن سبب هذا القرار.
قضى تسوكورو بعد عودته لطوكيو فترة ستة أشهر بين الحياة والموت، حيث انعدمت لديه أي رغبة في الحياة أو الأكل أو فعل أي شيء بعد صدمة فقدانه لأصدقائه الحميمين بدون سباق إنذار وبدون معرفة السبب في ذلك. وبعد معاناة شديدة نفسية وجسدية يتعافى تسوكورو جسديا فقط ويواصل حياته في الدراسة وكأنه شبح بلا روح. وأثناء الدراسة يتعرف على شاب أصغر منه بعامين اسمه أكيفومي هايدا (هذا الصديق أيضا يحتوي اسمه على لون وهو "هاي" بمعنى رمادي). يتعرف عليه في مسبح الجامعة حيث الاثنين هوايتهما هي السباحة. ويصبح هايدا هو صديق تسوكورو الوحيد وتتعمق العلاقة بينهما، ويحكي له هايدا عن والده الذي يعمل أستاذا للفلسفة في الجامعة ولكنه عندما كان طالبا في الجامعة وأثناء الاضطرابات التي قام بها طلبة الجامعات اليابانية في الستينيات، ترك والد هايدا الجامعة ورحل في رحلة تسكع لمدة عام داخل أقاليم اليابان، ليقابل أثناء عمله في نُزل ياباني تقليدي، نزيلا غريب الأطوار يبدو أنه كان يعمل كعازف بيانو، اسمه ميدوريكاوا (ميدوري تعني أخضر)، يحكي له قصة غريبة عن الموت وأنه سيموت بعد أيام قليلة، ثم يختفى ذلك النزيل فجأة ويعود والد هايدا لدراسته ويمارس حياته العادية حتى يصبح أستاذا للفلسفة في الجامعة.
وكما اختفى نزيل الفندق فجأة كذلك يختفى هايدا صديق تسوكورو من حياته فجأة دون سابق إنذار.
يتذكر تسوكورو كل ذلك أثناء الوقت الحالي بعد أن تعرف على سارا كيموتو التي تكبره بعامين والتي يعجب بها ويحاول إقامة علاقة جدية معها ولكنه يفشل في ذلك. فتقول له سارا إنه يواجه مشكلة مع ماضيه، ويجب عليه حل هذه المشكلة بمواجهتها وليس بالهرب منها كما فعل في الستة عشر عاما الماضية. وتطلب منه أن يذهب بنفسه ليقابل أصدقائه الأربعة واحدا بعد الآخر ليعرف منهم سبب إبعاده عن المجموعة بشكل مفاجئ ودون إبلاغه بالسبب. وتبحث له عن محل إقامة كل منهم الحالية وتخبره، وكذلك تخبره أن "شيرو" قد ماتت منذ ستة سنوات، ولكنها لا تخبره بالتفاصيل. فيذهب تسوكورو في رحلة بحثه هذه أو رحلة حجه، إلى ناغويا لمقابلة "أو" و"أكا"، ثم إلى فنلندا لمقابلة "كورو" التي تزوجت من فنلندي جاء طالبا إلى اليابان للدراسة وعادت معه إلى فنلندا وتعيش معه بعد أنجبت منه بنتين.
بعد أن يتحدث تسوكورو مع الثلاثة الباقين على قيد الحياة يعرف أن "شيرو" قد قتلت في شقتها التي انتقلت للعيش فيها بمفردها في مدينة هاماماتسو التي تقع بين طوكيو وناغويا. وكذلك يعرف لماذا حدث بينهم ما حدث. وملخص الأمر أن "شيرو" قالت لهم إنها عند ذهابها لحضور حفل غنائي في طوكيو، قابلت تسوكورو الذي اغتصبها وأفقدها عذريتها بعد أن اعتدى عليها. واضطر الجميع إلى موافقتها على ما قررت بقطع صلتهم تماما بتسوكورو، رغم شكهم جميعا في أن يكون تسوكورو قد فعل ذلك. وتخبره "كورو" أن "شيرو" كانت حاملا بالفعل وقد قررت أن تلد الجنين ولكنه سقط رغما عنها، وتخبره كذلك أنها كانت تعلم أنه برئ، ولكنها لعلمها أن "شيرو" قد أصاب عقلها خلل ما، قررت أن تكون بجانبها وتساندها هي وتتخلى عن تسوكورو التي كانت تضمر داخلها شعورا بالحب تجاهه، لأنها رأت أنه قادر على تخطى تلك المحنة، بينما "شيرو" لا تستطيع ذلك بمفردها لضعفها.
هذا هو ملخص أحداث الرواية التي أرى أن بها بعض التشتت وبعض الغموض الذي ربما كان مقصودا.

انطباعي عن الرواية أنها تعتبر من النوع السهل الممتنع، فالجمل سلسة والحوار سهل، تأخذك الرواية معها حتى نهايتها في وقت قصير (هناك من قال إنه قرأها في ثلاث ساعات فقط)، وأرى أنها من أخف أعمال موراكامي، وأسهلها من حيث القراءة والفهم، فهي لا تناقش كما في أعماله الكبرى همّا اجتماعيا وقضية حيوية تهم الجميع، ولكنها تناقش مشكلة فردية ربما واجهت عددا ما من الأشخاص ولكنها لا ترقى إلى مصاف القضايا الإنسانية الكبرى.
وكذلك هناك انطباع عام عن اقتراب موراكامي في هذه الرواية من أدب الروايات البوليسية المثيرة التي لها عشاق كثر هنا في اليابان وتعتبر أكثر أنواع الروايات انتشارا، فأحداث الرواية يشوبها بعض الغموض والتشويق، ويتم الكشف عنها تدريجيا مع التقدم في قراءة الرواية، إلا أن الاختلاف بين الروايات البوليسية المعتادة وبين رواية موراكامي هذه، أن موراكامي تعمد ترك مصير كل الأحداث غامضا، فلم نصل إلى معرفة ما هو مصير هايدا ولا كل ما يتعلق به وما حكاه من أحداث تخص عازف البيانو ميدوريكاوا، وكذلك لم نعرف حقيقة ما حدث مع "شيرو" ومن الذي اغتصبها ومن الذي قتلها ولماذا؟ حتى مصير بطل الرواية تسوكورو مع حبيبته سارا، هل سيرتبطا أم ينفصلا، لقد طلبت سارا منه مهلة ثلاثة أيام للرد على ذلك ولكن موراكامي ينهي الرواية قبل مرور الثلاثة أيام تلك. فهل سيفعلها موراكامي ويكتب الجزء الثاني من حكاية تسوكورو تازاكي؟
هناك العديد والعديد من الآراء التي ملأت الجو الأدبي الياباني تعليقا على هذه الرواية. ربما كان أشدها لاذعة في النقد، هو من قال إن تلك الرواية ربما تكون بداية النهاية لظاهرة هاروكي مواركامي وأن الرجل لم يعد لديه ما يقوله بعد هذه المسيرة العظيمة في مجال الأدب. فهل يصدق ذلك التنبأ يا ترى؟ ليس أمامنا إلا أن ننتظر لنرى.
تبقى كلمة لا يمكن ترك الرواية دون الحديث عنها وهي أن موراكامي كما هي عادته دائما، يضع الموسيقى عنصرا أساسيا من عناصر الرواية، وقد اختار هذه المرة الموسيقى الكلاسيكية، ممثلة في مجموعة فرانز ليست للبيانو "سنوات الحج" (لاحظ عنوان الرواية المأخوذ من عنوان المجموعة) خاصة بعزف العبقري الروسي لازار بِرمان. كانت "شيرو" التي تهوى الموسيقى حتى أنها درستها وبعد تخرجها من الجامعة عملت كمدرسة بيانو للأطفال، تعزف للأصدقاء الأربعة مجموعة ليست سنوات الحج. وطوال أحداث الرواية يستمع تسوكورو إلى عزف لازار برمان خاصة في الوقت الذي كان يقضيه في شقته مع صديقه هايدا.
بعد صدور الرواية زاد الإقبال على سماع مقطوعات "سنوات الحج" لفرانز ليست وخاصة من عزف لازار، ولكنها كأسطوانة كانت غير موجودة في الأسواق اليابانية ولكن نظرا لزيادة الطلب عليها قررت شركة يونيفرسال إصدار سي دي جديد بعد شهر من صدور رواية موراكامي.





الخميس، 23 مايو 2013

اليابان والحداثة


اليابان والحداثة
بقلم ميسرة عفيفي
أتذكر أنني أصيبت بصدمة عندما قرأت كلمة لروجيه جارودي عن الحداثة يقول فيها ما معناه إن الحداثة هي الخطر الأعظم على البشرية. وسبب صدمتي هو أنني كنت وقتها لا زلتُ أسيراً للإضلال الثقافي الذي قام ويقوم به إلى الآن "مثقفونا العظام" الذي يروجون للحداثة على أنها السبيل إلى التقدم والتطور خالطين عن عمد بين "التحديث" المطلوب دوماً وبين "الحداثة" المذمومة أبداً. وكنتُ استعجب أن فليسوفاً فرنسياً مثل جارودي، يعيش في عاصمة النور كما يسمونها وارتبط فترة طويلة بالفكر الماركسي "التقدمي"، يعتبر الحداثة خطراً ليس فقط على الإسلام بل على الإنسانية جمعاء. ولكن بعد أن علمت أن الحداثة في معناها الاصطلاحي هي القطعية المعرفية مع الماضي ومع التراث، بدأت أفهم قليلاً ما يعنيه جارودي، وبدأت أفهم حرصه على التنبيه من مخاطر الحداثة.
هذه مقدمة أردت إثباتها قبل التطرق إلى الكلام عن اليابان وطريقة تعاملها مع الحداثة والتحديث، ربما نجد فيه ما يفيد.

اليابان الآن هي ثاني أكبر قوة اقتصادية وصناعية في العالم. في مجال التحديث والتكنولوجيا وصلت اليابان إلى القمة التي لا يطاولها قمة أخرى. ومن زار اليابان وتعرف عليها يتأكد بما لا يدع مجالاً للشك أنها الدولة الأولى في مجال العلم التكنولوجي والصناعي. ووصلت في مجال الإلكترونيات والإنسان الألي "الروبوت" إلى درجة يندهش لها حتى العالم الغربي. ولقد شاهدت بنفسي انبهار أحد الأمريكيين من ذلك، وحرصه على التقاط الصور الفوتوغرافية للعجائب التي يراها. أما عن العرب فحدث ولا حرج. صحافي سوري كنت أرافقه في جولة له داخل اليابان مدعواً من الحكومة اليابان، قال لي كلمة تعبر إلى حد بعيد عن ذلك هي: "اليابان كوكب آخر لا ينتمي لكوكبنا". أما عن الناحية الحضارية في التعاملات البشرية، فاليابانيون يتعاملون مع بعضهم البعض، ومع الآخرين بطريقة إنسانية حضارية قل أن تجد لها مثيلاً في العالم كله.
هذه الدولة التي وصلت إلى تلك القمة في العلم والتكنولوجيا والحضارة، هل وصلت لها عن طريق الحداثة التي تعني القطيعة التامة مع الماضي. أبداً فالجميع يعلم أن اليابان لا زالت متمسكة بالعديد من خصائصها الثقافية التي تجعلها متميزة عن ثقافة الدول الصناعية الكبرى، ونحن نعلم أن هناك طريقة في علم الإدارة تسمي الطريقة اليابانية في الإدارة وبها اختلافات عديدة عن طرق الإدارة الغربية. ونحن نعلم أن السبع الكبار هم ست دول غربية واليابان هي الوحيدة التي لا تنتمي ثقافياً إلى الغرب.

اليابان تلك الدولة التي وصلت إلى قمة التحديث، لا زال بها العديد من الأشياء التي من الممكن أن تُصنّف على أنها أشياء لا تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين، بل وتعتبر "بدائية" تنتمي إلى "العصر الحجري".
من ضمن الأشياء هي اللغة، اللغة اليابانية في أصلها كانت لغة منطوقة ليس لها حروف تكتب بها. وعندما احتاج اليابانيون في قديم الزمن إلى الكتابة اضطروا إلى استعارة طريقة الكتابة من اللغة الصينية التي ليس لها أي علاقة باللغة اليابانية من حيث الأصل أو الانتماء. الكتابة الصينية هي كتابة بدائية بطريقة الرموز التصويرية تسمى "الكانجي". وهي ما يمكن أن يعتبر شيء بدائي، أي أن الإنسان البدائي في الغابة عندما يريد التعبير عن شيء يرسمه، فكلمة شجرة هي رسم لها وكلمة جبل هي رسم للجبل ونهر كذلك يرسم ثلاثة خطوط متموجة تعبر عن جريان الماء .. وهكذا. أخذت اليابان طريقة الكتابة تلك من الصين في القرنين الخامس والسادس ميلادياً ولا زالت هي المستخدمة إلى اليوم، ولكن اليابان طورت من هذه الرموز حروف هجائية مبسطة لتعبر عن الصوتيات في اللغة اليابانية ولتستخدم في الربط بين الكلمات والجمل. وهذه الحروف نوعان "هيراغانا" لكتابة أدوات الربط وبواقي الأفعال و"كاتاكانا" لكتابة الكلمات الأجنبية الدخيلة على اللغة اليابانية (فيما عدا بالطبع الكلمات الصينية). وأصحبت الجملة اليابانية اليوم تتكون من ثلاثة أنواع من الحروف هي رموز الكانجي وحروف الهيراغانا وحروف الكاتاكانا. وبالطبع لا يخفى على أحد الصعوبة البالغة في تعليم لغة مثل هذه اللغة لأن رموز الكانجي هي بلا عدد، ويقال أن رموز الكانجي في اللغة الصينية يصل إلى عشرات الآلاف، بل ويصل بها البعض إلى مئات الآلاف. ولذلك اضطرت اليابان إلى إصدار قانون يحد من الرموز الصينية التي تستخدم في وسائل الإعلام من صحافة ومجلات وفي مجال التعليم الإجباري، ويتغير عدد تلك الرموز كل فترة بالحذف والزيادة، والقانون الآن ينص على 1945 رمز (ألف وتسعمئة وخمسة وأربعين رمز). ولهذا أثناء الاحتلال الأمريكي لليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وبحجة الصعوبة وانعدام العملية حاول الأمريكيون بطيشهم المعروف إلغاء استخدام الكانجي واستبداله بالحروف اللاتينية كما فعل المستعمرون وعملاءهم في عدة دول. لكن هيهات، وقف اليابانيون بحزم ضد ذلك لمعرفتهم أن العكس هو الصحيح، وأن تغيير طريقة الكتابة ليس عملياً على الإطلاق. ولإعطاء مثال على ذلك هناك كلمة تنطق هكذا "KOUSHOU"، هذه الكلمة لها 22 طريقة كتابة بالكانجي ويختلف المعني باختلاف الكتابة، على سبيل المثال تعني مفاوضات وتعني وزير الصحة وتعني التبليغ الشفهي وتعني القائد المنهزم .. إلخ، ولكن النطق سيصبح بالحروف اللاتينية واحد هو "KOUSHOU"
ولذا ستتعقد المساءلة. بالإضافة إلى الكوارث العديدة الأخرى التي ستنتج عن ذلك منها القطيعة المعرفية للأجيال التي ستنشأ على المنهج الجديد بكل ماضيها وتراثها المكتوب باللغة القديمة. وقف اليابانيون رغم وقوعهم تحت الاحتلال ضد رغبة المحتل الغاشم في نزعهم من أصولهم وماضيهم وتراثهم اللغوي، وذلك على الرغم من أن الكتابة في الأصل مستعارة وليست أصيلة لهم، إلا أن توالي هذه القرون الطويلة جعلتها جزءًا لا يتجزء من تراثهم وثقافتهم.

الشيء الثاني وإن كان يبدو بسيطاً إلا أن عميق في معناه، وهو عصتي الأكل. شعوب شرق وجنوب شرق أسيا كلها تستخدم عصتي الأكل في تناول الطعام، ويقال إن الصين هي أول من بدأ استخدام عصتين من الخشب في تناول الطعام وذلك منذ خمسة آلاف سنة، ومنها انتشرت هذه العادة إلى الدول المجاورة ويقال أيضاً أن ثلث سكان العالم يستخدمون العصي بدلاً من الملاعق أو الشوك والسكاكين. ويعتقد أن الإنسان البدائي (في الصين) استخدم أفرع الشجر الرفيعة في تقليب الطعام الساخن على النار ثم تطور الاستخدام إلى تناول الطعام بها. وهي طريقة تعتبر بدائية مقارنة بأدوات المائدة الغربية، أو الإيتيكت الغربي. إلا أن اليابانيين لا زالوا مصرين على استخدام هذه العصيان التي يعتبر التحكم بها في الطعام من المعضلات. رغم أنها هي الأخرى ثقافة مستعارة وليست أصيلة. إلا أن من يتعرف على الأكل الياباني يعلم تمام العلم أن العصيان هي الوسيلة الوحيدة المناسبة لتناوله بأفضل طريقة عملية مريحة. عندما كنت في زيارة إلى الوطن لاحظ أخي أن الأطفال يأكلون بالملاعق وليس بالعصيان، فسألني لماذا؟ قلت له الأطفال في اليابان يأكلون بالملاعق لصعوبة استخدام العصيان، وتدريجياً يتعلمون استخدام عصي الأكل. فقال أخي ولِمَ لا يستمرون؟ أي لماذا لا يستمرون في استخدام الملاعق والشوك وبالتالي يتخلصون من مشاكل صعوبة العصي "ويصبحون حضاريين". كان السؤال مفاجئاً لي فقلت له لا أعرف.
ولكني بعد التفكير عرفت السبب، السبب أنه حتى الأجنبي التي يعيش في اليابان لا يستطيع الحياة دون تعلم استخدام عصي الأكل فما بالك بابن البلد. فكما قلت الطعام الياباني لا يناسبه إلا عصيان الأكل وأغلب المطاعم اليابانية التقليدية لا تقدم من أدوات المائدة إلا "الهاشي" وهو اسم عصيان الأكل باللغة اليابانية. ورغم أن انتشار المطاعم غير اليابانية من أوروبية وأمريكية وغيرها بكثرة مهولة تعاد تطغى على المطاعم اليابانية إلا أن الياباني لا زال يفضل الطعام الياباني على غيره ولا زال يتناوله مرة أو مرتين على الأقل يومياً لذلك لا يستغنى عن "الهاشي".

العادة "البدائية" الثالثة في اليابان هي النوم. منذ قديم الأزل والياباني ينام على الأرض فوق ما يسمى "التاتامي" وهو لوح من الحصير المصنوع بطريقة خاصة. تغير البيت الياباني كثيراً واتخذ الطراز الغربي في الديكور والأثاث. إلا أنه لا زال يوجد داخل كل بيت ياباني غرفة واحدة على الأقل يابانية الطراز مفروشة بحصير التاتامي. وفي الأغلب تكون هي غرفة النوم. تنصب فوق حصير التاتامي مرتبة نحيفة على الأرض ينام عليها المرء. رغم كل الغنى والرفاهية التي وصل إليها الياباني إلا أنه لا زال ينام على الأرض. وأيضاً الفنادق اليابانية ذات الطراز الياباني العريق والتي تُسمّى "ريوكان"، لا يوجد بها أسرّة، ولكن كل غرفها مفروشة بالتاتامي، وينام نزلاءها حتى ولو كان الامبراطور، على الأرض فوق التاتامي.

آخر ما سأتكلم عنه في هذا المجال هو الدين، وهو أهم ما في الموضوع. إذ أن اليابان التي وصلت كما سبق القول إلى قمة عالية في التقدم التكنولوجي والعلم الحديث، بل وقمة عالية من الأخلاق الحضارية الإنسانية في تعاملات البشر بعضهم البعض، لا زالت دينياً في مرحلة الديانة "البدائية". ديانة عبادة الأرواح والأسلاف وتعدد الآلهة التي تصل إلى أرقام فلكية، إذ تُسمّى ديانة الشنتو، الديانة الأصيلة لليابان منذ قديم الزمن وحتى الآن بديانة "الثمانية ملايين إله" ثمانية ملايين ليس هو العدد الفعلي ولكنه يطلق للدلالة على الكثرة. العلماء اليابانيون يرون أن ترجمة كلمة "كامي" اليابانية إلى إله "GOD" ترجمة خاطئة والأصح هو ترجمتها إلى روح "SPIRIT". أما المقابل للإله أو الرب "GOD" في اليابانية فلا يوجد، لأنهم ليس لديهم فكرة الربوبية التي توجد في الأديان السماوية. لذلك عندما جاء المبشرون النصارى إلى اليابان في القرن السادس عشر لم يكن لديهم بُد من ترجمة "GOD" إلى كلمة "كامي" اليابانية التي تعني روح وتستعمل بمعنى مقارب من الرب أو الإله. ديانة الشنتو هي ديانة بدائية تعبد الطبيعة وتعتمد على أن لكل شيء في الطبيعة روح مقدسة لابد للتقرب إليها حتى لا تضر الإنسان. للجبل روح، للغابة روح، للنهر روح، للبحر روح، للأرض روح، للسماء روح، للمطر روح، للسحب روح .. وهكذا. وهي ديانة دهرية، أي أن الإنسان يعيش في هذه الدنيا فقط ولا يهلكه إلا الدهر، وبعد الموت لا يوجد إلا العدم، لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار. هذه هي الديانة الأصيلة لليابان ويقدر عدد معتنقيها في اليابان بثمانين في المئة من الشعب الياباني، أما باقي الديانات فهي واردة من الخارج. ثاني أكبر ديانة هي البوذية، وهي كما نعلم جاءت من الهند عن طريق الصين في القرن السادس الميلادي، ويقدر عدد معتنقيها في اليابان بسبعين في المئة من الشعب. ليس هناك خطأ في الأرقام. أي نعم المجموع هو 150% ولكن ذلك سببه أن الياباني يعتنق أكثر من دين في وقت واحد. وهم قد خصّصوا الشنتو للمناسبات السعيدة، مثل الزواج والميلاد واحتفالات العام الجديد، وخصّصوا البوذية للمناسبات الحزينة مثل الموت والمرض. أكبر ديانة سماوية هي النصرانية لا يزيد عدد معتنقيها من اليابانيين عن الواحد في المئة. لا زال أغلب النشاط الاجتماعي في اليابان يدور في فلك الديانات اليابانية العتيقة التي من ممكن وصفها "بالبدائية"، سواء الشنتو أو البوذية أو إذا أضفنا لها الكونفوشية التي أثرت تأثيراً كبيراً على اليابانيين في نمط حياتهم المعيشية، وإن كان لا يوجد لها تأثير كبير في مجال العقيدة أو الشعائر الدينية إلا فيما ندر.
إذاً اليابانيون "بدائيون" في ديانتهم، يعتقدون أن هناك أرواحا في الطبيعة يجب تقديم الشكر والتقديس لها لكي تجلب الخير ويجب اتقاء غضبها لكي لا ينالهم شرورها. ولم يمنع تمسّك اليابانيون بذلك من الوصول إلى أقصى درجات العلم والتكنولوجيا وتفوقهم على الغرب في العديد من المجالات سواء الصناعية أو التكنولوجية. بل أنه يقال أن سبب تراجع اليابان النسبي في الفترة الأخيرة، هو ابتعاد الجيل الجديد من الشباب الذي نشأ في ظل التقدم والرفاهية والتواصل مع الغرب عن ثقافته وحضارته الأصيلة التي تختلف تمام الاختلاف عن ثقافة الغرب وحضارته المادية.

أرى أن الحداثة بمعناها الذي يهدف إلى القطيعة مع الماضي والتراث (وخاصة التراث الديني أو الغيبيات كما يطلقون عليه) ليست هي الوصفة السحرية للتقدم كما يحاول البعض أن يوهمنا. خاصة وأن تراثنا العربي الإسلامي لا يمكن وصفه بأي حال بالبدائية بل هو قمة لا تعلو عليها قمة أخرى خاصة في مجالات الدين والفكر والأدب والأخلاق ..إلخ.
بدأ دعاة الحداثة (وليس التحديث) بعد أن ظهر عوار نظريتهم، في الدعوة إلى ما بعد الحداثة كاستمرار لتيار الحداثة، وذلك لأن رواد "الحداثة" أنفسهم أصبحوا من الماضي وأصبحوا هم أيضاً تراث يجب التخلص منه. أمّا إذا كان المقصود من الحداثة هو التحديث فأعتقد أن التحديث يستمر إلى ما شاء الله دون الحاجة للكلام عن ما بعد التحديث، إذا أنه فعل متواصل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.