بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 25 مارس 2015

موقف القرآن الكريم والكتاب المقدس من العلم

د. إبراهيم عوض

موقف القرآن الكريم والكتاب المقدس من العلم

١٩٨٧

بسم الله الرحمن الرحيم

الإهداء
إلى أسرتي الصغيرة التي لا أكف عن الدعاء إلى الله أن يبارك فيها : زوجتي، ويمنى "الفراشة الرقيقة"، وعلاء الدين "الأسد الصغير". جمعنا الله على الخير والسعادة في الدنيا، وفي رياض الخلد في الآخرة.


مقدمة
رشحني قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب (جامعة عين شمس) أنا والأستاذ الدكتور مصطفى الشكعة، للاشتراك في المؤتمر الدولي للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، الذي كان مقررا له أن ينعقد في أول أكتوبر الماضي (ثم تأجل إلى الثامن عشر من نفس الشهر) بإسلام أباد عاصمة باكستان، فكتبت البحث الذي بين يدي القارئ الكريم، وأرسلته إلى هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة (بمكة المكرمة) المشرفة على المؤتمر، فأحالته إلى لجنة التحكيم الخاصة بالنظر في مثل هذه البحوث فأجازته وأثنت مشكورة على ما بُذل فيه من "جهد علمي واضح" (وهذه عبارة الرسالة التي وصلتني لا عبارتي أنا، فأرجو أن يعذرني القارئ)، ودعت لي بالخير. ومع ذلك فإني للأسف لم أسافر لحضور المؤتمر، لأن تذاكر السفر التي وعدت بها لم تصلني، لتأخري في الرد على الرسالة المذكورة أعلاه، لظروف خارجة عن إرادتي، إذ كنت عند وصولها مسافرا إلى جمهورية جامبيا في غرب إفريقية، فلما عدت تسلمتها بعد فوات الأوان، وبالتالي تأخر ردي وإرسالي الملخصين المطلوبين (بالعربية والإنجليزية) عن الموعد المحدد.
وقد علمت من مقالة الأستاذ فهمي هويدي: "الإعجاز القرآني: المصالح والمفاسد!"، المنشورة بأهرام الثلاثاء ٣ / ١١ / ١٩٨٧ (ص/٧) أن عدد البحوث التي قدمت للمؤتمر قد بلغت خمسمائة بحث، وأن الذي أجيز منها هو ثمانية وسبعون بحثا فقط، فسرني هذا سرورا عوضني إلى حد كبير عن حضور المؤتمر والسفر إلى باكستان الشقيقة. والحمد لله. الذي هو أهل كل حمد.

حدائق القبة ٢٣ / ١١ / ١٩٨٧


بسم الله الرحمن الرحيم
إذا تتبعنا في كل من الكتاب المقدس والقرآن الكريم الآيات التي تتحدث عن العلم والمعرفة فسوف نجد الملاحظات الآتية:
أن كلا الكتابين يعد العلم والمعرفة هبة من عند الله سبحانه. يقول الكتاب المقدس: "وكلم الرب موسى قائلا: انظر. قد دعوت بصلئيل بن أوري بن حور من سبط يهوذا باسمه، وملأته من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة وكل صنعة ... وهأنا قد جعلت معه أهولياب بن أخيساماك من سبط دان، وفي قلب كل حكيم القلب جعلت حكمة ليصنعوا كل ما أمرتك". وفي موضع آخر نرى سليمان عليه السلام يدعو الله أن يمده بالحكمة والمعرفة: "فأعطني الآن حكمة ومعرفة لأخرج أمام هذا الشعب وأدخل". فيرد المولي جل وعلا عليه بقوله: "قد أعطيتك حكمة ومعرفة، وأعطيك غنى وأموالا وكرامة" . وها هو داود يرجو ربه أن "ذوقا صالحا ومعرفة علمني". وفي سفر "الأمثال": "لأن الرب يعطي حكمة. من فمه المعرفة والفهم" . وفي " دانيال " : "يعطي ( الله ) الحكماء حكمة ويعلم العارفين فهما " .
وفي القرآن الكريم نقرأ قوله عز من قائل : " علم الإنسان ما لم يعلم " ، وقوله سبحانه عن آدم : " وعلم آدم الأسماء كلها " ، وقوله تعالى عن يوسف : " وإنه لذو علم لما علمناه " ، وقوله سبحانه عن العبد الصالح ( في قصة موسى ) : " وعلمناه من لدنا علما " ، وقوله جل شأنه عن داود : " وعلمناه صنعة لبوس لكم " ، وقوله عن رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه : " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ، وعلمك ما لم تكن تعلم " ، وقوله عز شأنه في خطاب المؤمنين : " واتقوا الله ، ويعلمكم الله " .
فمن هذه النصوص يتبين لنا أن كلا الكتابين ينظر إلى المعرفة ، سواء كانت معرفة عقلية أو روحية أو صناعية تطبيقية ، على أنها عطية إلهية ؟ وهذا طبيعي ، فكلا الكتابين يدعو إلى الإيمان بالله سبحانه وأنه خالق كل شيء ، وإن شابت الإيمان بالله في الكتاب المقدس شوائب كثيرة تتفاوت بين السفاهة من جانب والشرك بالله من جانب آخر .
أما موقف الكتابين من المعرفة والعلم والحكمة فالكتاب المقدس يقول : "طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم . لأن تجارتها خير من تجارة الفضة ، وربحها خير من الذهب الخالص . هي أثمن من اللآليء وكل جواهرك لا تساويها" . وفي سفر "الأمثال" نقرأ أن "كون النفس بلا معرفة ليس حسنا" . وفي إشعياء : "سبي شعبي لعدم المعرفة" . وفي هوشع : "قد هلك شعبي من عدم المعرفة" .
وبالمثل يغبط القرآن الكريم من آتاه الله الحكمة ، ويعدها خيرا كثيرا : "يؤتي الحكمة من يشاء . ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" ، ولا يسوي بين العلماء والذين لا يعلمون : "قل : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ؟" . والله سبحانه يرفع المؤمنين الذين أوتوا العلم درجات عالية لا يرقى إليها غيرهم : "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" .
لكن على حين نجد أن نظرة القرآن إلى العلم مطردة على هذا النحو فإن في الكتاب المقدس آيات أخرى تناقض الآيات السابقة التي استشهدنا بها منه آنفا ، ففي سفر "الجامعة" أن معرفة الحكمة ، مثلها مثل معرفة الحماقة والجهل ، هي قبض الريح ، وأن "في كثرة الحكمة كثرة الغم . والذي يزيد علما يزيد حزنا" ، ومن هنا فإن "الدرس الكثير تعب للجسد" ، بمعنى أنه تعب لا يجدي على صاحبه شيئا، كذلك يؤكد بولس أن الله "مرجع الحكماء إلى الوراء ومجهل معرفتهم" ، وأنه قد جهل "حكمة هذا العالم"، وأنه قد "اختار ... جهال العالم ليخزي الحكماء" ، وأن "حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله" ، "وأيضا الرب يعلم أفكار الحكماء باطلة" . وعلى هذا فـ "إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلا لكي يصير حكيما" .
إن كاتب مادة Science في Dictionary of the Bible يدافع عن موقف بولس تجاه العلم كما تعكسه الآيتان ١ ، ٧ من الأصحاح الثامن من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس ( ونص كلامه هو : "وأما من جهة ما ذبح للأوثان فنعلم أن لجميعنا علما . العلم ينفخ ، ولكن المحبة تبني . فإن كان أحد يظن أنه يعرف شيئا فإنه لم يعرف شيئا بعد كما يجي أن يعرف ... ولكن ليس العلم في الجميع ، بل أناس بالضمير نحو الوثن إلى الآن يأكلون كأنه مما ذبح لوثن . فضميرهم إذ هو ضعيف يتنجس") ، فيزعم أنه لا يقصد به دراسة مخلوقات الله ( أو كما سماها هو "أعمال الله : The work of God" ) بل كان هجومه منصبا على المعرفة التي تفتخر بها الفرق المتهودة والباطنية في عصره ، على عكس المعرفة الحقيقية التي كان يشيد بها أيما إشادة . والحقيقة أن مثل هذا الدفاع لا يصمد للنظر ، فإن هجوم بولس على الحكماء وعلمهم غير مقصور ، كما رأينا ، على الآيتين السابقتين . ثم إن جميع المعارف أيا كانت إنما هي ، على نحو أو على آخر ، دراسات لمخلوقات الله . وقد كان الأحرى ببولس ، لو كان فعلا يقصد ما يقوله الكاتب المذكور ، أن يهاجم غرور العلماء فقط لا العلم نفسه والحكمة ، فإن العلم والحكمة لا يمكن أن يكونا إلا خيرا ، وخيرا كثيرا .
وليس بولس هو وحده الذي ينظر إلى المعرفة والعلم هذه النظرة ، فها هو يوحنا الرسول يقول في رسالته الأولى إن مسحة التعميد للذين لم يعاصروا المسيح كفيلة بعدم احتياج الممسوح إلى أن يعلمه أحد لأن هذه المسحة تعلمه كل شيء .
إن هذا الاضطراب في موقف الكتاب المقدس نحو العلم والمعرفة يعسر فهمه وتفسيره إلا على أساس واحد هو أنه ، على وضعه الحالي ، صناعة بشرية . ولست أوافق الدكتور موريس بوكاي على قوله إن "الأمر الذي لا جدال فيه هو أنه ليست هناك أية إدانة للعلم في أي كتاب مقدس من كتب أديان التوحيد" ، فها هي نصوص من الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى تفند هذا الادعاء ، ولعل تفسير ذلك هو أن هذا الكتاب قد خضع لكثير من الحذف والإضافة وإعادة الصياغة والنحل مما باعد بينه وبين أصله الإلهي ، وجعل من الصعب في بعض الأحيان ، ومن المستحيل في أحيان أخرى أن نقول إن الدينين اللذين يقدسه أتباعهما قد بقيا ديني توحيد.
ومع ذلك فقد بقيت في الكتاب المقدس قبسات من نور الوحي الإلهي . ولعل من هذه الأقباس الإلهية ما جاء في "الأمثال" من أن "مخافة الرب رأس الحكمة" ، وهو ما يذكرنا بقول الله سبحانه في القرآن الكريم : "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ" .
وقد يكون من هذه الأقباس أيضا ما يفهم من المثل الآتي الذي أورده لوقا في إنجليه على لسان سيدنا عيسى من أنه لا مسؤولية بدون علم ، وعلى قدر العلم تكون المسؤولية ، إذ مع العلم ينتفي العذر ويحق على المذنب العقاب . أما من لم يبلغه العلم فهو معذور : "فقال الرب : فمن هو الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيده على خدمه ليعطيهم العلوفة في حينها ؟ طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا . بالحق أقول لكم إنه يقيمه على جميع أمواله . لكن إن قال ذلك العبد في قلبه : سيدي يبطئ قدومه . فيبتدئ يضرب الغلمان والجواري ويأكل ويشرب ويسكر . يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره وفي ساعة لا يعرفها فيقطعه ويجعل نصيبه مع الخائنين . وأما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيضرب كثيرا . ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يضرب قليلا . فكل من أعطى كثيرا يطلب منه كثير ، ومن يودعونه كثيرا يطالبونه بأكثر" . وفي مثل هذا المعنى ما جاء في إنجيل يوحنا على لسان سيدنا عيسى أيضا : "قال لهم ( للفريسيين ) يسوع : لو كنتم عميانا لما كانت لكم خطية . ولكن الآن تقولون : إننا نبصر . فخطيتكم باقية" . فالعمي هنا هو عدم المعرفة ، أما الإبصار فهو العلم بالواجبات والمسؤوليات . ويشبه هذا في خطوطه العامة قول بولس في رسالته إلى العبرانيين : << فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعد ما أخذنا معرفة الحق لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا بل قبول دينونة مخيف وغيرة نار عتيدة" ، إذ مع معرفة الحق والباطل والصواب والخطإ ينتفي العذر ، وعلى هذا فلابد من العقاب ما دام الآثم قد اجترح الإثم عن اختيار .
فإذا انتقلنا إلى القرآن فإننا نجده يذم اليهود ذما شديدا لإقدامهم على تحريف الوحي مع علمهم أن هذا إثم فاحش : "كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون" ، وينذرهم قائلا : "لا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون" . كما نجده يحذر المؤمنين من الإشراك بالله بعدما علموا أن التوحيد حق : "فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون" ، ويوجه نظر الرسول عليه الصلاة والسلام على سبيل ضرب المثل إلى أنه "لئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير " و " لئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين " .
وقد فهم المرحوم الشيخ شلتوت من قوله تعالى : "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيت له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم . وساءت مصيرا" أن من لن يعلم بالحق بمعنى أنه لم يبلغه أو بلغه وعلم به ولكن على نحو محرف ، أو علم به على وجهه الصحيح ولكنه لم يستطع الاقتناع به رغم أنه لم يقصر في ذلك على مدى عمره فهذا لا يناله الوعيد الإلهي بالإصلاء في جنهم" . ومثله قول الشيخ محمد عبده إن الإسلام يجعل من النظر العقلي وسيلة الإيمان الصحيح ، حتى لقد قال قائلون من أهل السنة : "إن الذي يستقصى جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالباً غير واقف عند الظن فهو ناج" .
من هذا كله نرى أن العلم هو أساس المسؤولية ، وأنه لا مسؤولية بلا علم ، على أن يكون مفهوما طبعا أن العلم والسعي إليه هو واجب على كل مسلم ومسلمة . أما في الكتاب المقدس فإن معرفة الشريعة إنما تستمد من الكاهن ، "لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة ، ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود" . وهو فرق جد هام بين القرآن والكتاب المقدس فيما يختص بهذه المسألة .
والآن بعد أن اتضح لنا موقف كل من الكتاب المقدس والقرآن الكريم من العلم ورأينا أنه على حين يطرد تمجيد القرآن للعلم نجد أن هذا الاطراد معدوما في الكتاب المقدس ، ننتقل إلى موقف الكتابين من منهج البحث في العلوم ، إذ قد يقول قائل إن مجرد الحث على طلب العلم وتفضيله على غيره من النعم هو كلام عام ، فنحب أن نرى هل يمكن أن نعثر في كل من الكتابين على توجيهات وأفكار محددة من شأنها أن تنزل بنا من أفق التعميم إلى أرض المنهج الصلبة .
وقبل أن نبحث عن الآيات المتصلة بهذا الموضوع علينا أن نعرف معنى "التفكير العلمي" ونلم بخصائصه إلماما سريعا.
يقول د. توفيق الطويل : " ينسب التفكير العلمي إلى المشتغلين بالعلم الطبيعي . ويراد اليوم بالعلم الطبيعي كل دراسة تصطنع منهج الملاحظة الحسية ، والتجربة العلمية إن كانت ممكنة ، وتتناول الظواهر الجزئية في عالم الحس ، وتستهدف وضع قوانين لتفسيرها ، بالكشف عن العلاقات التي تربط بينها وبين غيرها من الظواهر وصياغة هذه القوانين في رموز رياضية ، وذلك للسيطرة على الطبيعة والإفادة من مواردها وتسخيرها ظواهرها لخدمة الإنسان في حياته الدنيا" .
ويفصل د. توفيق الطويل القول في خصائص التفكير العلمي ، التي يمكن تلخيصها على النحو التالي :
١ - البدء بتطهير العقل من معلوماته السابقة .
٢ - الملاحظة الحسية كمصدر وحيد للحقائق .
٣ - نزوع العلم الحديث إلى التكميم .
٤ ، ٥ - موضوعية البحث ونزاهة الباحث .
٦ - الاعتقاد في مبدأ الحتمية .
٧ - توافر الثقافة الواسعة للعلماء .
ولا يخرج عن ذلك ما قاله د. أحمد زكي من أن "العلم مؤسس على التجربة يجريها العالم ويرقم نتائجها ، وعلى الملاحظة يأتيها ، ويرصد نتائجها ، ثم هو يعمل عقله في هذه النتائج من بعد ذلك" . ويشير همايون كبير إلى أهمية الإيمان باتساق الطبيعة واطراد قوانينها والإيمان بقيمة الوحدات الفردية وأهمية ملاحظتها في مجال العلم وتطوره .
مما سبق يتبين لنا أن المنهج العلمي يقوم على الإيمان بأن العلم محيط لا ساحل له ، وأن وسائل الإنسان إلى تحصيل العلم هي حواسه وعقله ، التي ينبغي أن تكون مفتوحة ويقظة دائما للطبيعة وظواهرها من حوله كي يتسنى له استخلاص القوانين التي تحكمها بعد التثبت من كل ما يلاحظه ويستنبطه .
فأما في الكتاب المقدس فقد بحثت فيه تحت نفس العناوين التي بحثت تحتها في القرآن فلم أجد فيه ما وجدته في القرآن من آيات تتصل بمبادئ المنهج العلمي اتصالا وثيقا . وأما القرآن ففيه آيات كثيرة تبرز سعة آفاق العلم وعدم انتهائها عند حد ، كقوله تعالى : "سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون" . "والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ، ويخلق ما لا تعلمون" . "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" . "وفوق كل ذي علم عليم" . ثم هذه الآية التي يأمر فيها العليم الحكيم رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام أن "قل : رب ، زدني علما" . إن هذه هي المرة الوحيدة في القرآن التي يأمر فيها الله رسوله أن يستزيد من شيء . ولنلاحظ أن المأمور بذلك هو محمد ، الذي كان يتنزل عليه الوحي صباح مساء . وكذلك هذه الآية التي يسوي فيها القرآن بين الجهاد في سبيل الله وطلب العلم ، إذ يسمي كلا منهما "نفرا" ، والتي يحض فيها المؤمنين أن يبقى مع الرسول في المدينة ، حين لا يخرج للغزو مع الجيش ، من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين : "وما كان المؤمنون لينفروا كافة . فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون" . صحيح أن العلم هنا هو العلم الديني ، بيد أنه ينبغي ألا يفوتنا أن هذا هو المجال العلمي الوحيد الذي كان يتتابع فيه ظهور الجديد كل يوم ، وأحيانا كثيرة في مدى زمني أقصر من ذلك ، على عكس ما يسمى الآن بالعلوم التجريبية ، التي كانت معارف العرب فيها في ذلك الحين مجرد شظايا بدائية ساكنة لا يلحقها تطور أو تجديد . والعبرة على كل حال بمبدإ التخصص وتهيئة الدولة المناخ المناسب لعكوف العالم على علمه وتشجيعه بل حثه على ذلك .
كذلك ما أكثر الآيات القرآنية التي تتحدث عن نعم السمع والبصر والعقل وتمن بها على العباد بما يدل على جلالة وظيفتها : "وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" . "وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة" . "وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة . قليلا ما تشكرون" . "وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة" .
وأيضا ما أكثر الآيات التي تحض على النظر والتأمل في الملكوت ووقائع التاريخ : "فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا * متاعا لكم ولأنعامكم" . "فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب * إنه على رجعه لقادر" . "أفلم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ؟" . "أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ كانوا أشد منهم قوة" . "أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم : كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من زوج بهيج ؟" . "أفلا ينظرون إلى الإبل : كيف خلقت ؟ * وإلى السماء : كيف رفعت ؟ * وإلى الجبال كيف نصبت ؟ * وإلى الأرض : كيف سطحت ؟" . "قل : سيروا في الأرض فانظروا : كيف بدأ الخلق ؟ ثم الله ينشيء النشأة الآخرة" .
وإلى جانب هذه الآيات هناك مواضع أخرى يعنف فيها القرآن من لا يستخدمون حواسهم وعقولهم تعنيفا شديدا لدرجة أنه يهبط بهم إلى ما دون مرتبة العجماوات . قال تعالي : "لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها . أولئك كالأنعام ، بل هم أضل" . "إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون" . "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ؟ فإنها لا تعمي الأبصار ، ولكن تعمي القلوب التي في الصدور" .
والإنسان في القرآن مطالب بالتفكير قبل أن يؤمن أو يكفر ، حتى يكون إيمانه أو كفره عن بينة : "قل إنما أعظكم بواحدة : أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا" . "أو لم تتفكروا ؟ ما بصاحبهم من جنة" . "أو لم يتفكروا في أنفسهم ؟" . ومطالب كذلك بالتفكير بعد الإيمان ، إذ من صفات المؤمنين أنهم هم "الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض" .
وفي مجال التثبت نجد القرآن يحذر دائما من الوقوف عند الظن ، إذ لابد من العلم اليقيني : "وما لهم بذلك من علم . إن هم إلا يظنون" . "إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس" . "إن يتبعون إلا الظن . وإن الظن لا يغني من الحق شيئا" . بل يبلغ موقف القرآن من الظن وعدم الاعتداد به الحد الذي يدعو عنده إلى اجتناب الكثير من الظن لأن بعضه إثم ، فهو حذر الوقوع في القليل غير المتعين ينبذ الكثير: "يا أيها الذين آمنوا ، اجتنبوا كثيرا من الظن . إن بعض الظن إثم" .
ولا يقف التثبت في القرآن عند اطراح الظن ، بل لابد من البرهان : "فقلنا ( أي قال المولى سبحانه ): هاتوا برهانكم" . "إن عندكم من سلطان ( أي برهان قاطع ) بهذا" . "قل : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ؟" . "إيتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين" .
وعلى الإنسان أن يرجع فيما يجهله إلى أهل الاختصاص : "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" . "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" . ولا يصح في مجال العلم الاعتداد بالآراء المتوارثة لمجرد شيوعها وترديد الأجيال لها . ومن هنا كانت حملة القرآن شعواء على المقلدين لأسلافهم: "قالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا" . "قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا" . "وإذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباؤنا" . "قالوا : أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ؟" . "قالوا : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا" . "قالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مهتدون" . قالوا : إن وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مقتدون" .
بالنسبة للنظام الكوني وما يجري عليه من قوانين مطردة هناك هذه الأيات التي تتحدث عن السنة والتقدير والقدر والوزن والميزان ، وهي كلها ألفاظ تعني ما يعنيه مصطلح "قوانين الطبيعة" أو "القوانين الكونية" . ففي مجال التاريخ والحضارة وطباع البشر وانهيار الأمم نقرأ هذه الآيات : "وإن يعودوا (أي الكفار لكفرهم وإجرامهم) فقد مضت سنة الأولين" . "سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا. ولا تجد لسنتنا تحويلا" . "سنة الله في الذين خلوا من قبل. وكان أمر الله قدرا مقدورا" . "ولن تجد لسنتنا تبديلا" . "فلن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا" . "قد خلت من قبلكم سنن" . "يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم" .
أما الآيات التالية فهي تتحدث عن القانون في مجال الظواهر الطبيعية : "والقمر قدرناه منازل" . "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل" . "وخلق كل شيء فقدره تقديرا" . "وكل شيء عنده بمقدار" . "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه . وما ننزله إلا بقدر معلوم" . "وأنزلنا من السماء ماء بقدر" . "فجعلناه ( أي ماء الإنسان ) في قرار مكين * إلى قدر معلوم" . "وجعلنا فيها رواسي ، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون" . "والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان" .
بعد استعراض هذه الآيات ، وهي مجرد أمثلة ، يستغرب الإنسان كيف يجرؤ مؤلف Promotion de l’Islam على زعم بأن الحضارة الإسلامية هي نتاج غير طبيعي لشخصية محمد وطبيعة الإسلام ، لأن الرسول ( كما يقول ) كان أميا ، والإسلام ( في نظره ) لا يهتم إلا بالحياة الآخرة ، فكيف تكون النتيجة إذن هي هذه الحضارة الإسلامية المزدهرة التي تعلمت منها أوربا ؟ والإجابة عنده هي أن الإسلام قد ورث ثقافة الإغريق والبيزانطيين والفرس . وهو يتهم الإسلام بفقدان قوى الأصالة والإبداع التي يتطلبها قيام الحضارة ، ويؤكد أن من بين ما يحتاجه الإسلام من الغرب اقتباس المنهج التجريبي والروح التحليلية والعقلية الناقدة . ولكن سرعان ما يزول استغراب الإنسان لهذه المزاعم حين يعرف أن صاحبها رجل دين ، فرجال الدين من المستشرقين هم أسخفهم عقلا وأعماهم تعصبا وأضيقهم أفقا وأجرؤهم على الكذب إلا قليلا منهم . والسؤال هو : ترى لو أن القرآن والرسول لم يحضا على المجد والتفوق في الدنيا وطلب العلم واتباع مبادئ المنهج العلمي المؤسسة على اليقين والتثبت والتساؤل وتقليب النظر والملاحظة واستقراء القانون أكانت هذه الثقافات التي ورثها المسلمون تؤدي في أيديهم إلى شيء ؟ لقد كان هذا التراث بين أيدي الأوربيين في ذات الوقت فكيف لم يستفيدوا منه مجرد استفادة ، ولا أقول : ينتقدوه ويضيفوا إليه ويطوروه ويصبغوه بشخصيتهم وعبقريتهم كما فعل المسلمون ؟ الجواب هو أن كتابهم المقدس ، وإن مجد العلم في بعض آياته ، فإنه في آيات أخرى يحتقره وينفر منه . وهو على أية حال لا يدعو إلى التفكير واستخدام العقل والتأمل في أحوال الأمم ومظاهر الطبيعة والتثبت من كل رأي أو فكرة قبل اعتناقها ، وذلك على عكس الإسلام ، الذي يذكر مؤلف كتاب Christ et Bahá’u’llah أن من بين خصائصه التي تميزه "حرية الفكر والتوافق بين الدين والعلم" .
هذا فيما يتعلق بموقف كل من الكتاب المقدس والقرآن من العلم ومن التفكير القائم على مبادئ المنهج العلمي من ملاحظة يقظة وتفكير متثبت مدعوم بالبراهين وبعد عن الظن وتأمل في نظام الكون وسننه ومقاديره . والآن إلى النقطة الأخيرة الخاصة بما ورد في كل من الكتابين من معارف علمية : تاريخية أو طبيعية ، لنرى مدى موافقة هذه المعارف لما هو مقطوع بصحته من العلم أو مخالفته لها مخالفة لا تقبل تأويلا كائنا ما كان .
لقد أثبتت الدراسات العلمية الموضوعية أن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد مفعم بأخطاء تاريخية وحسابية وعلمية فادحة يستحيل أن يجد المؤول لها مخرجا على وجه من الوجوه . ومن هذه الدراسات ما نهض به ابن حزم بصبر ودقة عجيبين ويقظة عين وعقل قل أن يوجد لها بين الباحثين نظير ، وذلك في العشرات بعد العشرات من الصفحات ذات القطع الكبير .
ولست أنوي أن أعرض بل ولا حتى أن أشير مجرد إشارة إلى كل ما درسه ابن حزم من أخطاء فاحشة يعج بها الكتاب المقدس ، فكتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" ، الذي يتضمن هذه الدراسة مطبوع في الأسواق ، ويستطيع القارئ أن يرجع إليه بنفسه ، وأنا ضمين له بأنه سيجد فيه ألوانا رفيعة من الفوائد العلمية والمتع العقلية . ولكني سأجتزئ ببعض أمثلة أرجو أن تغري القارئ بقراءة الأصل كله .
قال ابن حزم : "وبعد ذلك قال : ونهر يخرج من عدن فيسقي الجنان . ومن ثم يفترق فيصير أربعة أرؤس . اسم أحدها النيل ، وهو محيط بجميع بلاد زويلة الذي به الذهب . وذهب ذلك البلد جيد . وبها اللؤلؤ وحجارة البلور . واسم الثاني جيحان ، وهو محيط بجميع بلاد الحبشة . واسم الثالث الدجلة ، وهو السائر شرق الموصل . واسم الرابع الفرات . وأخذ الله آدم ووضعه في جنات عدن" . ولا أظنني بحاجة إلى أورد تفنيد ابن جزم لهذا الكلام ، فسخفه ظاهر لكل ذي عينين . وقال ابن حزم في موضع آخر : "وبعد ذلك قال : وأولاد يعقوب اثنا عشر . فأولاد ليئة : رؤابين بكر يعقوب وشمعون ولاوي ويهوذا ويساخر وزبولون . وأبناء راحيل : يوسف وبنامين . وابنا بلهة : راحيل دان ونفثالي . وابنا زلفة أمة ليئة : جادا وأشير . هؤلاء بنو يعقوب الذين ولودوا له بفدان أرام . قال أبو محمد ( أي ابن حزم ) : هذا كذب ظاهر ، لأنه ذكر قبل أن بنيامين لم يولد ليعقوب إلا بأقراشا بقرب بيت لحم على أربعة أميال من بيت المقدس بعد رحليه من فدان أرام بدهر . والله تعالي لا يتعمد الكذب ولا ينسى هذا النسيان" . ويقول ابن جزم أيضا : "وفي الباب المذكور أن المسيح قال لهم : أتاكم يحيى وهو لا يأكل ولا يشرب ، فقلتم : هو مجنون . ثم أتاكم ابن الإنسان ( يقصد نفسه ) يأكل ويشرب ، فقلتم : هذا صاحب خوان شروب للخمر خليع صديق للمستخرجين والمذنبين . قال أبو محمد : في هذا الفصل كذب ... فإنه قال هاهنا إن يحيى كان لا يأكل ولا يشرب حتى قيل فيه إنه مجنون من أجل ذلك . وفي الباب الأول من إنجيل مارقش أن يحيى بن زكريا هذا كان طعامه الجراد والعسل الصحراوي . وهذا تناقض ، وأحد الخبرين كذب بلا شك" . "وفي الباب السابع والعشرين من إنجيل متى أنه صلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره . وكانا يشتمانه ويتناولانه محركين رؤوسهما ، ويقولان : يا من يهدم البيت ويبنيه في ثلاث ، سلم نفسك . إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب . وفي الباب الخامس عشر من إنجيل مارقش أنه صلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله . واللذان صلبا معه كانا يستعجزانه . وفي الباب الموفي عشرين من إنجيل لوقا ( هو في الأصحاح الثالث والعشرين في الإنجيل الذي في أيدينا الآن ) : وكان أحد اللصين المصلوبين معه يسبه ويقول : إن كنت أنت المسيح فسلم نفسك وسلمنا . فأجابه الآخر وكشر عليه وقال : أما تخاف الله وأنت في آخر عمرك وفي هذه العقوبة ؟ أما نحن فكوفئنا بما استوجبنا ، وهذا لا ذنب له . ثم قال ليسوع : يا سيدي ، اذكرني إذا نلت ملكوتك . فقال له يسوع : آمين . أقول لك اليوم تكون معي في الجنة" . قال أبو محمد : إحدى القضيتين كذب بلا شك ، لأن متى ومارقش أخبرا بأن اللصين جميعا كانا يسبانه . ولوقا يخبر بأن أحدهما كان يسبه والأخر كان ينكر على الذي يسبه ، ويؤمن به . والصادق لا يكذب في مثل هذا . وليس يمكن هاهنا أن يدعى أن أحد اللصين سبه في وقت وآمن به في آخر ، لأن سياق خبر لوقا يمنع من ذلك ويخبر أنه أنكر على صاحبه سبه من لم يساعده قط على ذلك . وكلهم متفق على أن كلان اللصين وهم ثلاثتهم مصلوبون على الخشب ، فوجب ضرورة أن لوقا كذب أو كذب من أخبره ، أو أن متى كذب وكذب مارقش أو الذي أخبره ولابد" .
ولا يظن ظان أن المسلمين وحدهم هم الذين يرون في الكتاب المقدس هذا الرأي فإن العلماء الغربيين يقولونه ، بل يشاركهم فيه كثير من رجال الدين . فكاتب مادة Christianity في دائرة المعارف البريطانية يؤكد أن منطق النصرانية وفلسفتها ومعارفها العلمية هي نتاج ينتمي إلى عصور تاريخية مضت ، وأن ذلك كان خطوة في طريق التطور العلمي ، وأن الزعم بأنه يمثل الحقيقة المطلقة هو زعم لا يساوي عناء الرد عليه .
وفي أحد تفاسير الكتاب المقدس ( وعنوانه A New Commentary on Holy Scripture, Including the Apocrypha ) أن سفر "التكوين" لا يشتمل على المعلومات الصحيحة الخاصة بالبدايات الحقيقية للأرض نفسها أو تلك الخاصة بالإنسان والحضارة الإنسانية عليها . ومثال ذلك أن بدايات العالم والبشرية ترجع إلى زمن أبعد من التاريخ الذي ورد في سفر "التكوين" بمدى لا يمكن قياسه ، وأن ترتيب ظهور المخلوقات على مسرح الوجود كما هو مذكور في الأصحاح الأول من سفر "التكوين" لا يتفق مع الحقائق الجيولوجية . بل إن هذا التفسير يضع سفر "التكوين" في مرتبة أدنى من الوثائق البابلية والمصرية القديمة التي تتضمن نفس الأحداث والشخصيات التاريخية .
وفي تفسير آخر للكتاب المقدس William Neil’s One Volume Bible Commentary أن مقاسات الفلك الذي صنعه نوح ، كما وردت في الكتاب المقدس ، وسعته من الداخل لا تتناسب أبدا مع الأعداد الغفيرة والمتنوعة لركابه ، الذين كان عليهم أن يعيشوا فيه ويأكلوا ، وأننا لو أخذنا ما جاء في سفر " التكوين " عن الفيضان على حرفيته لكان علينا أن نصدق أن هذا الفيضان قد غمر وجه البسيطة كلها بعمق خمسة أمتار ، وهو ما لا علاقة له بالتاريخ البتة . ويرجع التفسير المذكورذلك إلى أنه لم تصلنا أية سجلات مكتوبة لتاريخ بني إسرائيل إلا بعد إبراهيم بألف عام ، وأن ما هو مكتوب في سفر "التكوين" إنما كتب بعد ذلك بعدة قرون ، ولذلك لا ينبغي أن نتوقع الدقة التاريخية بمعناها الحالي في هذه الأصحاحات لا في الأحداث ولا في الحوار . كذلك يذكر أن الصيغة الحالية للعهد القديم لا ترجع إلى أبعد من ثلاثمائة سنة قبل عيسى على أبكر تقدير ، أي بعد تسعة قرون من حدوث من حدوث الوقائع التي يحكيها سفر "العدد" . وهو ما يقوله تقريبا التفسير الذي سلفت الإشارة إليه ، إذ يؤكد أنه لا يوجد حاليا أي عالم له أي حظ من الشهرة يعتقد أن التوراة ، على ما هي عليه الآن ، قد كتبها موسى .
أما إدوارد كلد فإنه يشير في كتابه Childhood of Religions إلى أنه حتى في ترجمة الكتاب المقدس إلى الإنجليزية توجد أخطاء بعضها متعمد ، وبعض هذه كانت بأمر الملك نفسه ، وأن هذه الأخطاء يجري تصحيحها من قبل العلماء الأثبات ، وأن هناك إضافات ( بالحروف المائلة ) في الترجمة لم تكن في الأصل ، وأن هذه الإضافات تجعل المعنى في بعض الأحيان غامضا .
وبعد فهذه مجرد أمثلة سريعة . ويمكن للقارئ الذي يريد الاستزادة أن يرجع بنفسه إلى الكتب المذكورة هنا وما أشارت إليه من مراجع ، وكذلك إلى الكتاب القيم الذي ألفه د. موريس بوكاي ونشرته دار المعارف مترجما إلى العربية بعنوان " القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم – دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف العلمية الحديثة " .
والآن يثور السؤال الآتي : ماذا كان رد الفعل لدى المؤمنين بالكتاب المقدس بعد تعرية ما يتضمنه من أخطاء تاريخية وعلمية فادحة ؟ إن عقيدة الكتاب المقدس تقوم على أن الوحي هو كلام الله لفظا ومعنى . ولكن المحدثين أصبحوا يعترفون بدور لكاتب الوحي في عملية التدوين . إنهم يفرقون بين الوحي من ناحية الشكل وبينه من ناحية المضمون . فمن الناحية الأولي يرون أنه خلق أدبي للكاتب . ومن الناحية الثانية يقولون إنه صادر عن الله . إن الوحي ، في نظرهم ، لا يلغي شخصية الكاتب ، بل إن ظروفه تتدخل في الصياغة ، ويمكن أن يقع تحريف في النص ، ومن ثم فلابد ، كما يقولون ، من عملية النقد والتمحيص . وهو نفس ما قاله من قبل معجم Hook’s Church Dictionary الذي يرى أن الأنبياء وكتبة الكتاب المقدس قد أدوا ما تلقوه من الوحي كما هو بدون أدنى خطإ (من الناحية اللاهوتية)، ولكن هذا لا يصدق على الأخطاء النحوية والعلمية .
إذن فقد تم الاعتراف بما في الكتاب المقدس من أخطاء تاريخية وعلمية ، بيد أن المؤمنين به ، كما رأينا ، لا يسلمون بسهولة ، إذ اخترعوا نظرية لتسويغ استمرار إيمانهم به رغم هذه الأخطاء . وهذه النظرية تتلخص في أن ما فيه من أفكار ومعتقدات لاهوتية ومبادئ أخلاقية مصدره الله ، أما المعلومات العلمية فهي بشرية تفسرها ثقافة كاتب الوحي ومزاجه ودرجة التقدم العلمي في عصره . والقائلون بهذا يرددون أن خلاص البشر لا يتوقف على دقة المعلومات التاريخية والعلمية ، فهذه المعلومات نتاج بشري ، وهي تخضع لسنة التطور ، وأنه لا يمكن من ثمة مطالبة كاتب الوحي بسبق زمانه ، وأن الكتاب المقدس ليس كتابا مدرسيا ، أي أن وظيفته ليست تقديم معلومات علمية دقيقة .
لقد تحطمت النظرية القديمة حول عصمة الكتاب المقدس إذن على أيدي البحوث العلمية والتاريخية . والحق أنه لولا أننا مقيدون بعنوان هذا البحث لبينا كيف أن الجانب اللاهوتي والأخلاقي هو أيضا لم يسلم من الأخطاء والتحريفات . وصدق الله العظيم ، الذي يقول في قرآنه في أهل الكتاب : "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون : هذا من عند الله ، ليشتروا به ثمنا قليلا . فويل لهم من كتبت ايديهم ، وويل لهم مما يكسبون" .
ومع ذلك فإن النظرية الجديدة لا تحل المشكلة ، بل تعكس تهربا من الحقيقة الساطعة ، حقيقة أن الكتاب المقدس ، كما هو الآن ، ليس وحيا إلهيا ، وأن لم يخل كما سبق القول من قبسات من النور الإلهي . لقد نسي أصحاب هذه النظرية أن صياغة الوحي الإلهي في عبارات تتضمن معلومات علمية خاطئة لابد أن يكون لها تأثير ضار على هذا الوحي ، إذ يفقده قداسته . وإن الإنسان ليتساءل : لماذا ترك الله سبحانه المضمون العقيدي والأخلاقي يكتسي ثوبا لا يليق به ، ثوبا مهلهلا على النحو الذي رأينا ؟ كيف لم يوح سبحانه المضمون والشكل دفعة واحدة ؟ لقد قيل في تسويغ هذا إن الله سبحانه لا يتكلم بأصوات وكلمات ، ولذا فهو قد اكتفى بالإيحاء بالفكرة . ولكن قائلي هذا قد نسوا أيضا أن الله سبحانه لا يفكر كما نفكر ، فكيف يقال إنه أوحى بالفكرة ولم يوح باللفظ ما دام الأمر في الحالين واحدا ؟ أو على الأقل لم كان لابد أن يصوغ متلقي الوحي المضمون الإلهي في عبارات تتضمن معلومات خاطئة ؟ ولم لم يجنبه الله الأخطاء التي وقع فيها ؟ وهذا طبعا إن سلمنا بصحة المضمون العقيدي والأخلاقي ، وهو ما لا نسلم به .
والآن جاء دور القرآن . ولست أنوي أن أناقش كل الآيات المتعلقة بالعلم في القرآن المجيد ، فما أكثر الكتب التي قامت بهذه المهمة ، وإن غالى بعضها في الربط بين حقائق العلم الحديث ونظرياته وبين بعض الآيات التي يصعب على الدارس الموضوعي أن يرى فيها شيئا قاطعا أو على الأقل واضحا يربطها بالحقائق العلمية الثابتة ، دعك من أولئك الذين يرون في بعض الآيات أشياء لا وجود لها ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وإنما سأكتفي بإيراد عدد من الآيات التي بهذا الشكل ، وسأقف عند بعضها مستأنيا بعض الشيء . اقرأ مثلا هذه الآيات الكريمة ، وراجع بنفسك تفسيرها في ضوء العلم الحديث : "ويسألونك عن المحيض . قل : هو أذى . فاعتزلوا النساء في المحيض ، ولا تقربوهن حتى يطهرن ... " . "وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ، حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت ، فأنزلنا به الماء ، فأخرجنا به من كل الثمرات" . "وينزل من السماء من جبال فيها من برد" . "وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين" . "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين . ثم جعلناه في قرار مكين . ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة ، فخلقنا المضغة عظاما ، فكسونا العظام لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين" . "وجعلنا من الماء كل شيء حي... " . "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث" . "والشمس تجري لمستقر لها . ذلك تقدير العزيز العليم . والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم . لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار . وكل في فلك يسبحون" . "فلينظر الإنسان مم خلق . خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب" .
ولنعد مرة ثانية إلى الدكتور بوكاي ، الذي يقول : "ومن الثابت فعلا أنه في فترة تنزيل القرآن ... كانت المعارف العلمية في مرحلة ركود منذ قرون ، كما أن عصر الحضارة الإسلامية النشط مع الازدهار العلمي الذي واكبها كان لاحقا لنهاية تنزيل القرآن . إن الجهل وحده بهذه المعطيات الدينية والدينوية هو الذي يسمح بتقديم الاقتراح الغريب الذي سمعت بعضهم يصوغونه أحيانا ، والذي يقول إنه إذا كان القرآن فيه دعاوى ذات صفة علمية مثيرة للدهشة فسبب هو تقدم العلماء العرب على عصرهم ، وإن محمدا بالتالي قد استلهم دراساتهم . إن من يعرف، ولو يسيرا ، تاريخ الإسلام ، ويعرف أيضا أن عصر الازدهار الثقافي والعلمي في العالم العربي في القرون الوسطى لاحق لمحمد ، لن يسمح لنفسه بإقامة مثل هذه الدعاوى الوهمية . فلا محل لأفكار من هذا النوع ، وخاصة أن معظم الأمور العلمية الموحى بها أو المصوغة بشكل بين تماما في القرآن لم تتلق التأييد إلا في العصر الحديث . من هنا ندرك كيف أم مفسري القرآن ( بما في ذلك مفسرو عصر الحضارة الإسلامية العظيم ) ، قد أخطأوا حتما وطيلة قرون ، في تفسير بعض الآيات التي لم يكن باستطاعتهم أن يفطنوا إلى معناها الدقيق" .
وهنا نصل إلى الآيات التي ذكرت آنفا أنني أحب أن أستأنى عندها قليلا ، فقد وجدت في التفاسير القديمة ما يؤكد هذا الذي يقوله الدكتور بوكاي ، ففي تفسير قوله تعالي : "وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون . ثم كلي من كل الثمرات ، فاسلكي سبل ربك ذللا ، يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس ... " ، إذ يقول الشريف الرضي : " والعسل عند المحققين من العلماء غير خارج من بطون النحل ، وإنما تنقله بأفواهها من مساقطه ومواقعه من أوراق الأشجار وأضغاث النبات ، لأنه يسقط كسقوط الندى في أماكن مخصوصة وعلى أوصاف معلومة . والنحل تتبع تلك المساقط ، وتعهد تلك المواقع فتنقل العسل بأفواهها إلى كوراتها ، والمواضع المعدة لها ، فقال سبحانه : "يخرج من بطونها" والمراد "من جهة بطونها" ، وجهة بطونها أفواهها . وهذا من غوامض هذا البيان وشرائف هذا الكلام" . فانظر كيف أن العلماء المحققين حتى عصر الشريف الرضي ( القرن الخامس الهجري ) يقررون أن العسل لا يخرج من بطون النحل ، ومن ثم عد هو قوله تعالى : "يخرج من بطونها شراب ..." مجازا من مجازات القرآن ، التي أدار عليها كتابه الذي اقتبسنا منه النص السابق . والصواب هو ما قاله القرآن من أن العسل يخرج فعلا من بطون النحل ، التي تجمع الرحيق ، ويتحول في معدتها إلى عسل تقوم بإفرازه بعد ذلك .
وفي خطأ مشابه يقع الإمام الباقلاني، إذ يعد قوله تعالى: "والله خلق كل دابة من ماء... " نوعا من التعميم في التعبير ، فقد ظن أن القرآن ، حينما قال إن كل الدواب مخلوقة من ماء ، لم يقصد أن القرآن أنها كلها كذلك بل بعضها فقط ، ولكنه عمم القول . فماذا يقول علماء العصر الحديث ، الذين قتلوا هذا المسألة بحثا ؟ " الثابت بالتحديد أن أصل الحياة مائي ، وأن الماء هو العنصر الأول المكون لكل خلية حية ، فلا حياة ممكنة بلا ماء . وإذا ما نوقشت إمكانية الحياة على كوكب ما فإن أول سؤال يطرح هو : أيحتوي هذا الكوكب على كمية من الماء للحياة عليه ؟" والطريف أن الباقلاني قال قوله ذاك دفاعا عما ظنه الملحدون في عصره مطعنا في القرآن الكريم . وهذا نص كلامه : " وأما قوله عز وجل: "والله خلق كل دابة من ماء ..." قال الملحدون : وفي هذه الآية إحالة من وجوه ، أحدها أنه خلق كل دابة من ماء وليس الأمر كذلك ، لأن منها ما يخلق من بيض وتراب ونطف ... والجواب أن قوله "كل" لا يقتضي استغراق الجنس ، بل هو صالح للتعميم والتخصيص . ولو ثبت العموم لجاز تخصيصه إذا علمنا أن من الدواب ما لم يخلق من ماء . على أن من الناس من يقول : أصل الأشياء كلها أربع : الماء والهواء والنار والأرض ، وكل دابة مركبة من بلة ورطوبة" . والآياتان السابقتان وتعليق الشريف الرضي والباقلاني عليهما لا يحتاجان إلى تعقيب ، اللهم إلا القول بأن هذين العالمين قد أتيا بعد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بعدة قرون أحرز المسلمون أثناءها تقدما علميا كبيرا جدا بالقياس إلى معارف العرب بل والعالم كله في عصر الرسول ، ومع ذلك فالقرآن على صواب وهذان العالمان ، وهما يعكسان معارف عصريهما ، هما المخطئان .
ويمكن أن نلحق بهاتين الآيتين قوله تعالى : "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ... " ، فقد فسر البيضاوي ، وهو متأخر نسبيا (عاش في القرن الثامن الهجري) ، عبارة "كأنما يصعد في السماء" على النحو التالي : "شبهه (أي شبه الله من يريد أن يضله) ، مبالغة في ضيق صدره ، بمن يزاول ما لا يقدر عليه ، فإن صعود السماء ، مثل فيما يبعد عن الاستطاعة . ونبه على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع الصعود . وقيل : معناه : كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق وتباعدا في الهرب منه" . أما تفسير الآية في ضوء مكتشفات العلم التجريبي فهو أن الذي يضله الله يشعر بنفس ضيق الصدر الذي يحسه الصاعد في طبقات الجو العليا حيث الهواء مخلخل فلا تجد الرئتان كفايتهما من الهواء والأكسجين . وأنا ، وإن لم أكن متخصصا في أي فرع من العلوم الطبيعية ، يصعب على أن أوافق الدكتور موريس بوكاي ، الذي يؤكد أن هذه الآية تعبر عن فكرة عادية تماما ، والذي يخالف من يقولون إن فكرة ضيق التنفس كانت مجهولة عند العرب في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام ، لأن وجود مرتفعات عالية تربو على ٣٥٠٠ متر في شبه الجزيرة العربية يجعل من غير المنطقي ، في رأيه ، القول بجهل صعوبة التنفس الناشئة عن الارتفاع . وتنهض مخالفتي للدكتور بوكاي على أساس أن الآية تتحدث عن "التصعد في السماء" وهو ما لم يكن متاحا لأي إنسان في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام (بغض النظر عن حادث المعراج) ولا فيما بعده ببضعة عشر قرنا ، لا "التصعيد في الجبال" كما يفيد كلامه . كذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام ، كما نعرف من سيرته الشريفة ، لم يصعد غير جبلي حراء وثور ، أولهما في فترة التحنث السابقة على البعثة ، والثاني في طريقه هو وأبي بكر إلى يثرب . ولم ترد في السيرة أية إشارة ، ولو من بعيد ، إلى أي أثر لهذا الصعود على جهازه التنفسي عليه الصلاة والسلام . بل إني لا أذكر أن أحدا من كتاب السيرة في العصر الحديث ممن صعد هذين الجبلين قد ألمح إلى مثل هذا الأثر ، على رغم حرصهم الشديد على تسجيل كل ما يعتريهم أثناء ذلك من تأثرات عضوية أو نفسية . ولم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد زار صنعاء ، التي يشير إليها الدكتور بوكاي . بل إني أستبعد أن يكون سكان مثل هذه المدن العالية في ذاك العصر ، حتى لو كانوا أحسوا بشيء من هذا ، قد تنبهوا إلى السبب الحقيقي لذلك . وأحب أن أكرر القول ، كيلا ننسى ، أن القرآن يتحدث عن "التصعد في السماء" لا "التصعيد في الجبال" . ثم ها هي كتب التفسير القديمة ، لا تجدها حين تبلغ هذه الآية إلا تقول إن المقصود هو أن الكافر الذي أغلق قلبه يستحيل عليه الإيمان كما يستحيل على بشر أن يصعد في السماء ، وهو ما يدل دلالة قاطعة على أن فكرة ضيق التنفس المشار إليها كانت مجهولة لدى هؤلاء المفسرين ، الذين كانوا بلا شك يعيشون في ظل حضارة متقدمة أعظم التقدم بالقياس إلى الحياة البدائية التي كان يحياها عرب الجاهلية وعصر المبعث.
وثمة آية أخرى أراني ، رغم عدم تخصصي كما سلف القول في أي من العلوم الطبيعية ، مضطرا إلى أن أخالف ، في تفسيرها ، الدكتور بوكاي ، الذي يكرر كلام المفسرين القدامى . وهذه الآية هي : "وهو الذي مرج البحرين : هذا عذب فرات ، وهذا ملح أجاج ، وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا" . وفي تفسيرها يقول د.بوكاي : "معروفة تلك الظاهرة التي كثيرا ما تشاهد عن عدم الاختلاط الفوري لمياه البحر المالحة بالمياه العذبة للأنهار الكبيرة . ويرى البعض أن القرآن يشير إليها لعلاقتها بمصب نهري دجلة والفرات ، اللذين يشكلان بالتقائهما بحرا ، إذا جاز القول ، طوله أكثر من ١٥٠كم ، هو شط العرب . وفي الخليج ينتج تأثير المد ظاهرة طيبة هي انحسار الماء العذب إلى داخل الأراضي ، وذلك يضمن ريا طيبا" . والحقيقة أن هذا التفسير غير مقنع : فمن الناحية اللغوية يصعب علي أن أوافق العالم الفرنسي ومفسرينا القدامى على أن أداة التعريف في "البحرين" هنا هي للعهد ، الذي قيل على أساسه إن "البحرين" المذكورين هما دجلة والفرات . إن الآيات السابقة تتحدث عن الظل (الظلام) والرياح والماء والأنعام والأناسي ، وهي مفاهيم عامة لا تشير إلى ظلام بعينه ولا رياح بعينها ولا ماء معين ولا أنعام ولا أناسي مخصوصة ، فلم يقال إذن إن "البحرين" هنا هما بحران معينان (دجلة والفرات) ؟ إن السياق الذي وردت فيه هذه الكلمة هو سياق عام ، ومن ثم فإن بلاغة الكلام تقتضي أن يكون "البحران" أيضا هما "النهر والبحر" بإطلاق ، أي أن (ال) فيهما هي (ال) الجنس لا العهد . فهذا من ناحية اللغة والبلاغة ، فضلا عن ذلك فإن ماء النهر ، مهما توغل بقوة اندفاعه إلى مدى بعيد في داخل البحر أو المحيط ، يختلط في النهاية بمائهما ، ومن ثمة فإن ظاهر الأمر أن النهر يبغي في البداية على البحر ( عندما شق ماءه الملح وأزاحه عن طريقه) ليعود البحر فيبغي في النهاية عليه ( عندما اختلط ماؤه العذب بماء البحر الملح الذي أفقده خاصية العذوبة وأعطاه بدلا منها ملوحته)، فأين البرزخ إذن والحجر المحجور ؟ أما "المنتخب في تفسير القرآن" فإنه يقول في هامش خصصه للتعليق على هذه الآية إنها ربما " تشير إلى نعمة الله على عباده بعدم اختلاط الماء الملح المتسرب من البحار في الصخور القريبة من الشاطئ بالماء العذب المتسرب إليها من البر اختلاطا تاما ، بل إنهما يلتقيان مجرد تلاق : يطفو العذب منهما فوق الملح كأن بينهما برزخا يمنع بغي أحدهما على الآخر وحجرا محجورا ، أي حاجزا خفيا مستورا لا نراه " . لكن ثمة نقطة هامة يبدو لي أن كاتبي هذا التعليق ، على رغم جدته وطرافته (بالنسبة لي على الأقل) قد أغفلوها ، إذ إن الماء العذب والماء الملح اللذين يلتقيان في الشقوق على هذا النحو لا يمكن تسميتهما بحرين . ثم إذا كان الماءان في هذه الظروف لا يلتقيان ، فإنهما في عرض البحر والمحيط يلتقيان ويتمازجان ويصبحان في النهاية ماء واحدا ، كما قلنا من قبل . يبدو لي ، والله أعلم ، أن البرزخ المذكور في هذه الآية هو القوانين التي بمقتضاها بقى كل من الماء العذب والملح كل هذه الدهور المتطاولة التي لا يعلم مداها إلا الله ، وسيبقيان إلى أن يرث الله الأرض والسماوات موجودين، فالأنهار تصب في البحار والمحيطات ، وكان المفروض ، لو أن الأمر انتهى عند هذا الحد ، أن يختلط الماءان اختلاطا دائما ، فلا ينفصلان بعد ذلك أبدا ، ويصبح كل الماء الموجود على سطح الأرض ماء ملحا . بيد أن التقدير الإلهي قد شاء أن يقوم البحر بحمل الماء من البحار والمحيطات ، فتسوقه الرياح ليسقط على الجبال وينحدر إلى الأنهار ماء عذبا كما كان ، وهكذا دواليك . وهكذا أيضا يبقى الماء العذب والماء الملح ، ويتعايش البحران دون أن يبغي أحدهما على الآخر ويقضي عليه. فهذا هو البرزخ وهذا هو الحجر المحجور ، فيما أفهم ، والله أعلم . كما يبدو لي أن هذه الآية ، إلى جانب امتنانها على العباد بهذه النعمة الإلهية ، تتضمن معنى مجازيا ، فإني أظن أن المقصود بالماء العذب هنا المؤمنون وبالماء الملح الكافرون ، والمعنى هو أن الإيمان والكفر سيبقيان إلى آخر الدهر لا يستطيع أحدهما أن يقضي على الآخر تماما . والذي دعاني إلى هذا التفسير هو ما فهمته من أولى الآيات التي تتحدث عن ظواهر الطبيعة في السياق الذي وردت فيه آيتنا هذه ، والآية التي إليها هي : "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ، ولو شاء لجعله ساكنا ، ثم جعلنا الشمس عليه دليلا . ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا" . أما المعنى المجازي الذي لمحته فيها ، بجانب معناها الظاهري ، فهو أن الله يطمئن الرسول أن كفر قومه ، المرموز إليه هنا بالظل (أي الظلام) ، إن كان الآن ممدودا فإن الله قابضه رويدا رويدا ، ومبزع شمس الإيمان عما قليل . والذي أوحى إلي بهذا المعنى هو السياق الذي وردت فيه هذه الآية هي وآية "وهو الذي مرج البحرين ..." ، فقد كان المولى سبحانه يتكلم عن الأمم السابقة التي كذبت برسلها عنادا وطغيانا ، فأهلكها الله بعد أن كانت مستعزة بقوتها وانتشار سلطانها ، فبدت لي النقلة إلى الحديث عن بعض الظواهر الطبيعية غير مفهومة إلا في ضوء هذا المعنى المجازي .
ونأتي الآن إلى آخر آية أحب أن أتريث عندها قليلا ، وهي قوله تعالى : "وما يستوي البحران : هذا عذب فرات سائغ شرابه ، وهذا ملح أجاج . ومن كل تأكلون لحما طريا ، وتستخرجون حلية تلبسونها ..." . فما أكثر ما قرأت هذه الآية ولكن لم ألتفت إلى ما تنبهت إليه وأفزعني منذ فترة ليست بالبعيدة ، وهو ما تؤكده الآية من أن الحلي تستخرج من النهر والبحر كليهما ، إذ إن الذي كنت أعرفه حتى ذلك الوقت هو أن اللؤلؤ والمرجان ( المذكورين في آية مشابهة في سورة "الرحمن" ) لا يوجدان إلى في البحار . وقفز السؤال إلى عقلي على الفور مفزعا : " أيمكن أن يكون القرآن قد أخطأ ؟ " . إن هناك عدة آيات مشابهة في سورة "الرحمن" ، ولكنها لا تثير أية مشاكل ، فنصها هو : "مرج البحرين يلتقيان . بينهما برزخ لا يبغيان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان" ، ومعناه أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من مجموع البحرين لا من كل منهما ، كما تقول : " إن في يدي هاتين مائة جنيه " ، ويكون المبلغ كله في اليد الأولى بينما الثانية خلو تماما من أي نقود ، ولا تكون قد عدوت الحقيقة . أما آية سورة "فاطر" فإنها تقول بصريح العبارة : " ومن كل ... تستخرجون حلية تلبسونها " . ولم تسعفني ما عندي من تفاسير قديمة ، فأخذت أقلب نظري في أرفف مكتبتي وأنا حائر ضائق ، وإذا بي ألمح ترجمة يوسف علي للقرآن فأفتحها فأجد فيها شفاء نفسي ، إذ يذكر المترجم رحمه الله ( في تعليقه على هذه الآية في الهامش ) من الحلي البحري اللؤلؤ والمرجان ، ومن الحلي النهري العقيق وبرادة الذهب وغيرهما . ثم رجعت بعد ذلك إلى دائرة المعارف البريطانية ( مادة Pearl ) و"المنتخب في تفسير القرآن الكريم " فوجدت أن اللؤلؤ يوجد أيضا في المياه العذبة . وكأن الكتاب الأخير يرد على حيرتي ، إذ يقول : " وقد يستبعد بعض الناس أن تكون المياه العذبة مصدرا للحلي ، ولكن العلم والواقع أثبتا غير ذلك . أما اللؤلؤ فإنه ، كما يستخرج من أنواع معينة من البحر، يستخرج أيضا من أنواع معينة أخرى من الأنهار، فتوجد اللآلئ في المياه العذبة في إنجلترا وأسكتلندا وويلز وتشيكوسلوفاكيا واليابان ... إلخ، بالإضافة إلى مصايد اللؤلؤ البحرية المشهورة ، ويدخل في ذلك ما تحمله المياه العذبة من المعادن العالية الصلادة كالماس ، الذي يستخرج من رواسب الأنهار الجافة المعروفة باليرقة . ويوجد الياقوت كذلك في الرواسب النهرية في موجوك بالقرب من باندالاس في بروما العليا . أما في سيام وفي سيلان فيوجد الياقوت غالبا في الرواسب النهرية . ومن الأحجار شبه الكريمة التي تستعمل في الزينة حجر التوباز ويوجد في الرواسب النهرية في مواقع كثيرة منتشرة في البرازيل وروسيا ( الأورال وسيبيريا ) وهو فلورسيليكات الألمونيوم ، ويغلب أن يكون أصفر أو بنيا . والزيركون CIRCON حجر كريم جذاب تتقارب خواصه من خواص الماس ، ومعظم أنواعه الكريمة تستخرج من الرواسب النهرية" . وحتي يقدر القارئ رد فعلي الأول حق قدره أذكر له أنه حتى بعض المترجمين الأوربيين في العصر الحديث قد استبعدوا أن تكون الأنهار مصدرا من مصادر الحلي . وقد تجلى هذا في ترجمتهم لهذه الآية ، فمثلا نرى رودويل الإنجليزي يترجم الجزء الخاص بالحلي منها هكذا :
Yet from both ye eat fresh fish, and take forth for you ornaments to wear.
فعبارة "from both" تصلح لترجمة آية سورة "الرحمن" لا هذه الآية . كذلك ينقل رودي باريت هذه العبارة إلى الألمانية على النحو التالي :
"Aus beiden ebt ihr frishes feisch"
إلى هنا والترجمة صحيحة ، هذه العبارة تقابل بالضبط قوله تعالى : "ومن كل تأكلون لحما طريا" وإن كان استخدم في مقابل طريا كلمة "frish" ومعناها الدقيق "طازج" . لكن تنبه لترجمته للجزء الآتي الذي يقول فيه :
Und (aus dem Salzmeer) geurnnt ihr scmuck….. um ihm euch anzulegen.
والذي ترجمته : "وتستخرجون (من البحر المالح) حلية تلبسونها" . ويرى القارئ أن المترجم قد أضاف من عنده بين قوسين عبارة : "من البحر المالح : aus dem Salzmeer " ، وهو ما يوحي باستبعاده أن تكون الأنهار مصدرا من مصادر اللؤلؤ والعقيق وغيرهما من أنواع الحلي على ما تقول الآية الكريمة . (أما ترجمة سيل وبالمر (الإنجليزيتان) وترجمتا كازيمريسكي وماسون (الفرنسيتان)، وكذلك ترجمتا ماكس هننج ومولانا صدر الدين (الألمانيتان) على سبيل المثال فقد ترجمت كلها النص القرآني كما هو ، ولكنها لزمت الصمت فلم تعلق بشيء .
ويرى القارئ من هذا الآية بالذات كيف أن القرآن قبل أربعة عشر قرنا قد أشار إلى حقيقة يستبعدها واحد مثلي يعيش في القرن العشرين ، وآخرون مثل المستشرق الإنجليزي رودويل ونظيره الألماني رودي باريت ، فكيف عرفها الرسول عليه الصلاة والسلام إذن وأداها بهذه البساطة لو كان هو مؤلف القرآن ، وبخاصة أن الأنهار التي ذكر أن اللؤلؤ وغيره من الأحجار الكريمة وشبه الكريمة تستخرج منها تقع في بلاد سحيقة بالنسبة للجزيرة العربية ، بل إن بعضها كالبرازيل مثلا لم تكتشف إلا في العصور الحديثة.
فإذا قارنا بين الكتاب المقدس والقرآن في هذا الصدد راعنا أن المؤمنين بالكتاب المقدس كانوا يصدقون تصديقا أعمى بكل ما جاء فيه على حرفيته على أساس أن كل كلمة بل كل حرف فيه وحي إلهي ، ثم اضطروا اضطرارا تحت مطارق الحقائق العلمية القاطعة إلى أن يهجروا هذه النظرية إلى نظرية أخرى ملخصها إنه لا ينبغي أن يؤخذ النص على حرفيته ، بخلاف بعض مفسري القرآن الكريم القدماء الذين كانوا يرون في بعض الآيات لونا من المجاز أو توسعا في التعبير ، ثم جاءت المعارف العلمية القاطعة فأثبتت أنهم كانوا مخطئين في هذا الموقف وأن الآيات تعني تماما ما عبرت عنه .

المراجع
 القرآن الكريم .
 الكتاب المقدس .
 ابن حزم ، الفصل في الملل والأهواء والنحل / مكتبة السلام العالمية / القاهرة .
 د. إبراهيم عوض / تفسير سورة التوبة / ١٩٨٧ .
 د. أحمد زكي / مع الله في السماء / كتاب الهلال / عدد ٣١١ / نوفمبر ١٩٧٦ .
 البضاوي ( تفسير ) .
 د. توفيق الطويل / في تراثنا العربي والإسلامي / عالم المعرفة / عدد ٨٧ / مارس ١٩٨٥ .
 الجلالين ( تفسير ) .
 الزمخشري ( تفسير ) .
 الشريف الرضي / تلخيص البيان في مجازات القرآن ( تحقيق محمد عبد الغني حسن ) ط / ١ .
 مالك بن نبي / الظاهرة القرآنية ( ترجمة عبد الصبور شاهين ) / مكتبة دار العروبة / القاهرة / ١٩٥٨ .
 محمد عبده ، الإسلام بين العلم والمدنية / كتاب الهلال / عدد ٣٨٥ يناير ١٩٨٣ .
 محمد عبده / رسالة التوحيد / كتاب الهلال / عدد ٣٥٥ / يولية ١٩٨٠ .
 محمد فؤاد عبد الباقي / المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم .
 محمود شلتوت / تفسير القرآن الكريم / الأجزاء العشرة الأولى / دار القلم / القاهرة / ط ٢ .
 المنتخب في تفسير القرآن الكريم .
 د. موريس بوكاي/ القرآن والتوراة والإنجيل والعلم – دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة / دار المعارف / القاهرة ١٩٨٢ .
 الموسوعة الثقافية / دار الشعب .
 النسفي ( تفسير ) .
همايون كبير / العلم والديمقراطية والإسلام ( ترجمة عثمان نويه ) / دار الهلال .

 Alexander Cruden, Cruden’s Concordance. The Epworth Press, London, 1952.
 Cambridge Companion to the Bible, Cambridge Univ. Press, 1892.
 C.H. Dodd, The Authority of the Bible, Fontana Books, 1960.
 Ch. Gore H.L. Goudge, A. Guillaume, A New Commentary on Holy Scripture Including the Apocrypha, London Society for Promoting Christian Knowledge, 1929.
 Edward Clodd, Childhood of Religions, Henry S. King & Co., London 1875.
 Encyclopedia Britannica, Vol. 5, ed. 14, 1938.
 George Townshend, Christ et Baha-u’llah, Maison d’Editions Baha’ies, Bruxelles, 2 ͤ ed., 1968.
 Georges Marchal, Promotion de l’Islam, Berget Leuault, Paris, 1957.
 J.D. Douglas (editor), The New Bible Dictionary, Inter-Varsity Press, London, 1972.
 Joseph Hubby, Christus-Manuel d’histoire des religions, Bauchesne et ses files, Paris, 1946.
 Maulana Sadr-ud-din, Der Koran, die Muslimische Mission, Berlin, 1964.
 Max Henning Der Koran, Reclam, Stuttgart, 1981.
 Rudi Paret, Der Koran, W. Kholhammer, Stuttgart, 1983.
 Stanley Cook, An Introduction to the Bible, Pelican Books, 1945.
 W.F. Hooks Hook’s Church Dictionary, London, John Murry, 1887.
 William Neil, William Neil’s One Volume Bible Commentary, Hodder & Stoughton, London – Sydney – Auckland – Toronto, 1973.



للمؤلف (هذه القائمة خاصة بسنة 1987م):ــــ
١ - الترجمة من الإنجليزية – منهج جديد .
٢- في الشعر الإسلامي والأموي – تحليل وتذوق .
٣ - في الشعر العباسي – تحليل وتذوق .
٤ - في الشعر الأندلسي – تحليل وتذوق .
٥ - في الشعر العربي الحديث – تحليل وتذوق .
٦ - فصول من النقد القصصي – رؤية جديدة .
٧ - من أعلام النقد القصصي – ( بالإنجليزية والعربية ) .
٨ - المستشرقون والقرآن .
٩ - مصدر القرآن – دراسة في الإعجاز النفسي .
١٠ - من الطبري إلى سيد قطب – دراسة في مناهج التفسير ومذاهبه .
١١ - تفسير سورة المائدة .
١٢- تفسير سورة التوبة .
١٣ - محمود طاهر لاشين .
١٤ - نقد القصة في مصر .
١٥ - NOVEL – CRITICISM IN EGYPT
١٦ - المتبني – دراسة جديدة لحياته وشخصيته .
١٧ - معركة الشعر الجاهلي بين الرافعي وطه حسين – بحث موضوعي مفصل .
١٨ - لغة المتنبي – دراسة تحليلية .
١٩ - موقف الكتاب المقدس والقرآن الكريم من العلم ( تحت الطبع ) .
٢٠ - المتنبي بإزاء القرن الإسماعيلي في تاريخ الإسلام – لماسينيون ( ترجمة وتعليق ودراسة د. إبراهيم عوض ) – ( تحت الطبع ) .


رقم الايداع 8060 / 87


مطبعة الشباب الحر ومكتبتها
ت : ٣٩٠٧٦٢١ القاهرة

----------------------------------------------------------------------------------------


شكر وتقدير:ــــ
هذا الكتاب أعاد كتابته، بحيث يكون صالحا للنشر بصيغة ورد، الصديق الأستاذ ميسرة عفيفى المصرى المقيم فى اليابان، والذى أدين فى معرفتى إياه وصداقتى له للمشباك، ذلك الاختراع العجيب، الذى كان سببا أيضا لزيارته إياى فى بيتى منذ نحو عام حين أتى من بلاد الشمس المشرقة إلى أرض الوطن فى عمل فكان من أوائل ما صنع: تشريفه لى فى منزلى، فله الشكر على هاتين المكرمتين. وأرجو من السادة القراء الدعاء له بالنجاح والتوفيق فى كل أمور حياته.
أ. د. إبراهيم عوض
 


السبت، 21 مارس 2015

من الأرشيف مقالة كواليس اليابان

كواليس اليابان

بقلم : ميسرة عفيفي
قرأت مقالة الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت في جريدة "المصري اليوم" الصادرة يوم الأحد 21 ديسمبر 2008 بعنوان "هذه هي الكواليس ... سيدي الرئيس"، في هذا الرابط
http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=191249&IssueID=1261
التي تحكي فيها عن المعاناة التي لاقتها هي وصغيرها "عمر" بسبب التشريفة المعتادة التي تصاحب السيد الرئيس وتُسبب في تعطل المرور وتوقف سير الطرق.
وطاب لي أن أنقل لكم موقفا كنت شاهدا عليه مع آخرين في تلك الدولة التي وصلت في تقدمها إلى مستويات مذهلة في فترة قياسية ألا وهي اليابان.

الإمبراطور في اليابان وحسب المعتقدات الدينية اليابانية سليل الآلهة، جده الأكبر هو حفيد إلهة الشمس التي خلقت الأرض وأرسلت حفيدها ليحكمها.
هكذا يؤمن اليابانيون في أساطيرهم. ولا زال هذا المعتقد يدرس حتى الآن في المدارس اليابانية. لذا فالإمبراطور وعائلته تعامل معاملة خاصة من الشعب الياباني تليق بسليل الآلهة من تبجيل واحترام وتوقير.
الإمبراطور الياباني بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية تخلى عن كل مناصبه السياسية هو وجميع أفراد عائلته، وأصبح وعائلته مجرد رمزا للأمة اليابانية وعنوانا للشعب الياباني.
كلمة "مجرد" التي كتبتها هي من وجهة نظرنا نحن الذين نبحث عن السلطة والقوة والهيلمان. ولكن من وجهة نظرهم "رمزا للشعب الياباني" هي فوق كل سلطة وكل منصب.
انحصرت مهام الإمبراطور في أشياء شرفية ورمزية، كأن يفتتح الدورة البرلمانية، أو يصدق على تعيين رئيس الوزراء والوزراء، وأن يقوم رئيس الوزراء والوزراء بإداء القسم أمامه، أو أن يقيم حفل غداء أو عشاء رسمي لرؤساء وملوك الدول الأجنبية الذين يزورون اليابان، أو يفتتح مشروعا ما، أو يزور مكانا ما .... إلخ من المهام الشرفية الكثيرة التي أوكلت له ولأفراد عائلته والتي تجعلهم جميعا في عمل دائم وحركة دائبة طوال أيام العام.

هذه كانت مقدمة عن وضع الإمبراطور في اليابان، ولكن قد يتصور أحدهم أن كون الإمبراطور ليس له سلطات فهو مُهمّش أو لا يأبه له. ولكن الحقيقة كما قلت لكم أن الإمبراطور يُعامل من عامة الشعب الياباني معاملة مقدسة هو وعائلته، ولا يُسمح المساس به أو بأفراد عائلته أبدا، وهو مقدس قدسية كاملة بناء على الاحترام الشعبي الذي يحظى به.

نأتي إلى تفاصيل الموقف الذي كنت شاهدا عليه. لقد حدث في 17 أكتوبر من عام 2007، حيث جرت مباراة في كرة القدم بين المنتخب الياباني بصفته بطل أسيا لعام 2005 والمنتخب المصري بصفته بطل أفريقيا لعام 2006 في مباراة سوبر بين البطلين يحصل الفائز فيها على كأس يُسمى "كأس التحدي".
كان المعلن أن تبدأ المباراة في الساعة السابعة والنصف مساءً بتوقيت اليابان، ولكن الحقيقة هي أن صفارة الحكم التي تعلن بدء المباراة تقرر لها أن تكون الساعة السابعة والدقيقة الثانية والثلاثون والسبب هو أن المباراة بالطبع مذاعة على الهواء مباشرة ويريد الراعي الرسمي للمباراة أن يستغل هاتين الدقيقتين في الإعلانات التلفزيونية حيث تكون نسبة المشاهدة وصلت ذروتها لأن الكل في انتظار صافرة البداية، وهذا كله تم الاتفاق عليه بين الفريقين والحكام وكل المعنيين في اليوم السابق للمباراة. وبالتالي توضع الدقيقة 32 كهدف أعلى للجميع لاستقبال صافرة البداية ويتم ترتيب كل شيء للوصول إلى تلك الذروة بدءً من وقت تحرك الفريق من الفندق، إلى وقت وصوله إلى الملعب إلى وقت خروج اللاعبين للإحماء، ثم عودتهم إلى حجرة خلع الملابس، ثم اصطفافهم مع الفريق المنافس للدخول إلى الملعب بمعية الحكام. هذا الكلام معروف عالميا وعاشه كل من له صلة باللعبة على أرض الواقع.
أين حدثت المشكلة؟ المشكلة هي أنه وكما هو الحال في مثل تلك المباريات الدولية، هناك تقليد يتم عادة أن ينزل كبار الزوار من المقصورة لتحية لاعبي الفريقين قبل بدء المباراة. وكان من المقرر في ذلك اليوم أن يقوم ثلاثة أفراد بتحية اللاعبين والسلام عليهم فردا فردا قبل البداية، وهم رئيس بعثة المنتخب المصري، ورئيس اتحاد الكرة الياباني، وأميرة من العائلة الإمبراطورية هي الأميرة تاكامادو الرئيس الشرفي لاتحاد الكرة الياباني، وفي نفس الوقت الرئيس الشرفي لجمعية الصداقة المصرية اليابانية.
بدأ الجو في كواليس الملعب يتكهرب قبل بداية المباراة بحوالي عشر دقائق. سألنا عن السبب، قالوا لنا إن الأميرة في الطريق إلى الاستاد ولكن ربما تتأخر عن الميعاد المقرر. سألنا عن السبب، فكانت الصدمة الكهربائية الأولى: "لأن الطريق مزدحم وإشارات المرور تعطل وصولها". طبعا أترك لكم تخيل ما وقع علينا نحن المصريون من صدمة واندهاش. فالأميرة سليلة الآلهة هي الآن في طريقها إلى عمل رسمي (وإن كان شرفي، ولكن هذا هو الحال مع كل تحركاتها) تقف في الإشارات ويُعطلها المرور المزدحم. لا يوجد شيء اسمه تشريفية ولا تعطيل كل الطرق والكباري والأنفاق العمومية والرئيسية والفرعية التي يُشتبه أن تمر بها.
ولكن الصدمة والموقف لم ينتهيا عند هذا الحد، فمن آخر اتصال بين المسؤولين عن المباراة وبين "موكب" الأميرة عرفنا أنها الآن تقف في آخر إشارة قبل الاستاد مباشرة ولا يتبقى لها سوى أن تدخل يمينا بعد الإشارة لتصل إلى باب الاستاد. فتم اتخاذ قرار بأن تتجه فورا إلى أرض الملعب لتقوم بتحية اللاعبين ثم بعد ذلك تتجه إلى المقصورة لتحيي كبار الضيوف الآخرين. ولذا اتجه رئيس بعثة المنتخب المصري الكابتن أحمد شاكر، ورئيس الاتحاد الياباني من المقصورة إلى أرض الملعب لينضما إليها عند دخولها من الباب ويقوم ثلاثتهم بإداء هذا الدور الشرفي الذي جاءت من أجله الأميرة.
ولكن بعد وصولنا إلى أرض الملعب عرفنا أنه تم اتخذ قرار بإلغاء مشاركة الأميرة في مراسم تحية اللاعبين وذهابها مباشرة إلى المقصورة.
والسبب هو أن عند الدخول يمينا بعد فتح الإشارة (والسيارات في اليابان تسير على اليسار) لابد أن تنتظر حتى تنتهي السيارات المقابلة من المرور ثم المارة أيضا لتستطيع أن تدخل إلى اليمين، وهذا سوف يستغرق دقيقتين لأن عدد المارة هذا اليوم كبيرا بسبب المباراة. ومن المستحيل أن تتأخر صافرة البداية لأي سبب كان، أو على الأقل لهذا السبب، الذي لا يمكن شرحه للجمهور المنتظر في المدرجات ولا لبقية الشعب المنتظر أمام التلفزيون، ولا يمكن شرحه أيضا للراعي الرسمي ولا للمعلنين الذين دفعوا مبالغ خرافية للإعلان عن منتجاتهم قبل وأثناء وبعد المباراة.
وبهذا لم تستطيع الأميرة القيام بأهم شيء جاءت من أجله وهو تحية لاعبي الفريقين قبل بداية المباراة، واكتفت بأن شاهدت المباراة مع كبار الضيوف من المقصورة.
طبعا نحن المصريون الذين شاهدنا ذلك كنا في حالة صدمة خرافية. أنا شخصيا الذي أعرف المدى الذي وصله اليابانيون في تقديس واحترام الوقت لم أتخيل أن يصل الأمر إلى إلغاء دور الأميرة والاكتفاء برئيس البعثة المصرية الكابتن أحمد شاكر ورئيس الاتحاد الياباني الكابتن سابورو كاوابوتشي ليقوما بتحية اللاعبين والحكام قبل المباراة. وكأنهم قد عاقبوا الأميرة لتأخرها عن موعدها. ومما لا أشك فيه أن هناك سببا لهذا التأخير ليس للأميرة دخل فيه، ولكن أي كان السبب فلن يتقبله الشعب الياباني الذي يقدس الوقت واحترام المواعيد أكثر من تقديسه للعائلة الإمبراطورية، ولهذا فمن الأفضل ألا تقوم الأميرة بمراسم تحية اللاعبين ولن يحس أحد بغيابها لأن ذلك لا يعلمه إلا عددا محدودا جدا، من أن يتم تأخير بداية المباراة ويعلم الجمهور والشعب أن السبب كان تأخر الأميرة عن موعدها، وتهتز بذلك صورة العائلة الإلهية المقدسة.
ربما يتعقد البعض أن هذا مثال مبالغ فيه، ولكنه الواقع الذي كنت مع آخرين شاهدا عليه. وربما أقول لكم قولا آخر أردده على من يأتي هنا إلى اليابان من المصريين والعرب، وهو أن الإمبراطور الذي كان حتى عام 1945 إلها كاملا في اليابان، وأصبح الآن إلها منزوع السلطات، الإمبراطور الإله هذا يدفع الضرائب مثله مثل عامة شعبه، ولا يجرؤ أحد في اليابان مهما علا شأنه أن يُعفى من دفع الضرائب، أو أن يطالب باستثناء ما عن بقية خلق الله اليابانيين.

ولله في خلقه شؤون




الأربعاء، 18 مارس 2015

دراسة عن ترجمة ريتشارد بيرتون لحكايات "ألف ليلة وليلة"


دراسة عن ترجمة ريتشارد بيرتون لحكايات "ألف ليلة وليلة"

 

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا

 

ترجمة: ميسرة عفيفي

 

(من المعروف أن حكايات ألف ليلة وليلة أثرت على أغلب الآداب العالمية، ووصل تأثيرها هذا لليابان حيث تأثر بها أدباء اليابان الذين ظهروا بعد عصر النهضة اليابانية الحديثة في عصر ميجي وما بعد عصر ميجي. وهناك دراسات يابانية عديدة عن مدى تأثير الليالي العربية في الأدب الياباني منها على سبيل المثال كتاب "اليابانيون والليالي العربية" من تأليف الياباني هيديأكي سوغيتا الأستاذ بكلية الدراسات العليا جامعة طوكيو القومية، وتوجد كذلك دراسة للباحثة المصرية نجلاء فتحي حافظ المدرسة في أكاديمية الفنون عن أثر ألف ليلة وليلة في المسرح الياباني المعاصر.
يقدم الأديب الياباني الشهير ريونوسكيه أكوتاغاوا (1892~1927) هنا دراسة عن إحدى ترجمات ألف ليلة وليلة للغة الإنجليزية وهي ترجمة ريتشارد بيرتون ذائعة الصيت. مما يذكر أن أكوتاغاوا درس الأدب الإنجليزي وتخرج عام 1916م في جامعة طوكيو الإمبراطورية كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية / المترجم)

 

1

 

تعتبر ترجمة ريتشارد بيرتون Richard Burton لحكايات "ألف ليلة وليلة" هي أقرب ترجمة إنجليزية للكمال ظهرت حتى الآن لليالي العربية. لقد  ظهرت بالطبع ترجمات عديدة لليالي قبل ترجمة بيرتون لدرجة عدم وجود الوقت الكافي لذكرها واحدة بعد أخرى، في البداية أول ترجمة ظهرت في أوروبا للتعريف بحكايات "ألف ليلة وليلة"، هي ترجمة البروفيسور أنطون غالان للغة الفرنسية Antoine Galland عام 1704. ولكنها بالطبع لم تكن ترجمة كاملة. بل كانت مجرد ترجمة مختصرة جدا لا تشفي غليل محبي القراءة. بعد غالان لم يعدم الأمر وجود ترجمات أخرى في متناول يد القراء، على سبيل المثال ترجمة فوستر Foster وترجمة بوسيه Bussey. ولكن كانت كلها لا تتخطى مستوى كتب الأطفال، وتطغى عليها رائحة اللغة الفرنسية سواء على مستوى الترجمة أو اختيار الكلمات.

إذا ألقينا نظرة على المترجمين بعد قرن من عصر البروفيسور جالان، أي بعد عام 1800، فهم على الأغلب كما يلي:

1-    د. جوناثان سكوت (Dr. Jonathan Scott) عام 1800

2-    إدوارد ورتلي (Edward Wortley) عام 1811

3-    هنري تورنز (Henry Torrens) عام 1838

4-    إدوارد وليم لين (Edward William Lane) عام 1839

5-    جون پين (John Pane) عام 1885

ترجمة تورنز لا تفوح منها الرائحة الإنجليزية أو الفرنسية مثل سابقيها، ومن هذه النقطة فهي تمثل خطوة إلى الأمام، ولكن المترجم لم يكن ضليعا باللغة الأصلية المُتَرجَم عنها، فللأسف الشديد لم يصل إلى الدرجة المأمولة منه لأنه لم يكن لديه أي معرفة بلهجات مصر وسورية بصفة خاصة. بل ويجب الأسى بشدة كذلك على توقفه عند ما يمثل واحد على عشرة من إجمالي النص الأصلي.

ترجمة لين – وهي أكثر الترجمات انتشارا في اليابان. خاصة إصدار دار بونBohn للنشر، المكون من مجلدين، يكثر وجوده في مكتبات بيع الكتب القديمة في منطقتي هونغو وكاندا – اعتمدت على طبعة بولاق Bulak التي هي أصلا بها اختصارات كثيرة، وعلاوة على ذلك ليس بها إلا ترجمة مئة حكاية من أصل مئتين، رغم أنه يوجد على العكس حكايات أكثر إمتاعا في الحكايات التي لم تترجم، وللأسف بالغ النص المترجم في فخامة اللغة، فهو وإن كان يناسب توجيهه إلى المجتمع المخملي، إلا أنه يسبب شعورا لا حد له بعدم الاكتفاء. جعل لين كل ليلة فصل مستقل بذاته، ولكنه وضع أحد الفصول في الهامش خطأ، علاوة على ترجمته للشعر في صيغة نثرية أو إهمال ترجمته تماما، وفي النهاية أخطاء الترجمة الشنيعة أكثر مما تُحتمل.

تأتي بعد ذلك ترجمة پين – پين هو الذي ترجم أشعار فرانسوا فيون François Villon إلى اللغة الإنجليزية – لحكايات "ألف ليلة وليلة" في منتهى الجودة مقارنة بالذي سبقها من ترجمات. عدد الحكايات أربعة أضعاف ترجمة غالان، وثلاثة أضعاف الترجمات الأخرى، ولكن ليس معنى ذلك أنها تخلو من العيوب. ولكن على كل حال فالترجمة رائعة، ولكن لم يطبع پين منها إلا خمسمئة نسخة فقط على نفقته الخاصة، ولذا فهي تدخل في نهاية الأمر في عداد الطبعات النادرة. ولكن الشيء الوحيد الذي يجب كتابته هو، أنه في مقدمة الطبعة يوجد إهداء إلى ريتشارد بيرتون.

ترجمة بيرتون هي كذلك طبعة محدودة بعدد ألف نسخة فقط، ومن الصعب الحصول عليها. كان سعرها وقت نشرها عشرة جنيهات، ولكن وصول سعرها في السوق اليوم داخليا وخارجيا إلى ثلاثون جنيها، يجعل محبي قراءة "حكايات ألف ليلة وليلة" مساكين بشكل ما. وتصدر طبعات مقرصنة (Pirate Edition) من ترجمة بيرتون هذه في أمريكا بشكل متواصل، ولكن لا أحد يعلم عن محتواها شيئا.

كُتب على غلاف ترجمة بيرتون ما يلي:
A PLAIN AND LITERAL TRANSLATION OF THE ARABIAN NIGHTS ENTERTAINMENTS, NOW ENTITLED THE BOOK OF THE THOUSAND NIGHTS AND A NIGHT WITH INTRODUCTION EXPLANATORY NOTES ON THE MANNERS AND CUSTOMS OF MOSLEM MEN AND A TERMINAL ESSAY UPON THE HISTORY OF THE NIGHTS BY RICHARD F. BURTON

"ترجمة واضحة وحرفية لحكايات الليالي العربية، الآن كتاب ألف ليلة وليلة مع مقدمة وافية وملاحظات تشرح عادات وتقاليد الرجال المسلمين ومقالة علمية حول تاريخ الليالي بقلم ريتشارد ف. بيرتون."

وصل عدد مجلدات ترجمة بيرتون إلى ثمانية عشر مجلد بما فيها الملاحق والهوامش، واسم دار النشر "بيرتون كلوب"، وتم نشرها بين عامي 1885 و1888.

والآن سأنتقل إلى الحديث بالتفصيل عن المترجم ريتشارد بيرتون وترجمته لليالي.

 

2

 

كان المترجم ريتشارد بيرتون ضابطا (lieutenant) في الجيش البريطاني ترحل في العديد من بلاد الشرق، ولكن لو جعلنا محور حديثنا هو ترجمة الليالي، يذكر بيرتون تفاصيل قيامه بترجمة الليالي في المجلد الأول ضمن عنوان "مقدمة المترجم"، وفي المجلد الحادي عشر، تحت عنوان "سيرة حكايات ألف ليلة وليلة ونقد ناقديها".

بداية يذكر ريتشارد بيرتون أن السبب الذي جعله يقوم بترجمة ألف ليلة وليلة، هو سفره إلى مكة والمدينة برفقة الطبيب جون شتاينهوزر (Steinhäuser) الذي كان يقيم وقتها في عدن، ويمكن لنا معرفة الحوار الذي دار بينهما أثناء السفر بالنظر إلى الإهداء الذي كتبه بيرتون لشتاينهوزر في المجلد الأول. كانت تلك الرحلة في شتاء عام 1852، وتحدث الاثنان كثيرا عن المنطقة العربية، ثم انتقل الحديث تلقائيا إلى "حكايات ألف ليلة وليلة"، وفي النهاية أعربا عن حزنهما لعدم الاعتراف بقيمة "حكايات ألف ليلة وليلة" الحقيقة إلا بين عدد قليل من علماء اللغة العربية، رغم أنها معروفة بشكل واسع حتى بين الأطفال. وتقدم الحديث بينهما خطوة للأمام وانتهى إلى رغبتهما في إخراج ترجمة مكتملة لليالي بأي شكل كان، وافتراق الاثنان بعد أن أخذا قرارا بأن يتولى شتاينهوزر ترجمة النثر على أن تكون مهمة بيرتون ترجمة الشعر. وبعد ذلك تبادل الاثنان الرسائل لشد أزر بعضهما البعض، ولكن لشدة الأسى بعد وقت قصير سقط شتاينهوزر صريع جلطة دماغية في مدينة برن بسويسرا. ثم فُقدت مسودات ترجمة شتاينهوزر ولم يحصل بيرتون منها إلا على أقل القليل. وبعد ذلك ظل بيرتون يقوم بالترجمة أثناء تنقله في عمله ما بين غرب أفريقيا وأمريكا الجنوبية. وتعبر كلماته التالية بحق عن شعوره أثناء ذلك: "أنا لا أهتم برأي الآخرين مهما كان، ولكن ذلك العمل كان بالنسبة لي هو منبع الرضا والسلوان أكثر من أي شيء آخر".

وهكذا بعد أن أنهى بيرتون كتابة المسودة، بدأ في العمل على طبعها وتحويلها لكتاب بداية من ربيع عام 1879، ولكن في شتاء عام 1882، ظهر إعلان في إحدى المجلات عن قرب صدور ترجمة جون پين. وعلم بيرتون بذلك في ذات اللحظة التي كان فيها على وشك الرحيل إلى ساحل الذهب بغرب أفريقيا في حملة عسكرية. وهنا أرسل بيرتون خطابا إلى پين قال له فيه: "أنا أيضا كنت أخطط مثلك للقيام بالعمل نفسه، ولكن انتهاءك بالفعل من ذلك، يجعل من واجبي أن أتنازل لك عن شرف الريادة" إلخ. وفي أثناء ذلك صدرت ترجمة پين. وتوقف بيرتون عن العمل في ترجمته لفترة من الوقت.

تابع بيرتون حديثه بما يلي: "لا أحد يعلم إلى أي مدى كانت حكايات ألف ليلة وليلة تلك تواسيني أثناء قضاء فترة شهرين في مدينة زيلع بشرق أفريقيا، وأيضا أثناء التنقل في بلاد الصومال طولا وعرضا" وبهذا كانت ترجمة بيرتون لحكايات "ألف ليلة وليلة" تلك، قد بعدت كثيرا عن أوروبا، بل وولدت في وسط الأمطار والدخان والأعاصير وربما تكون أفضل مقارنة لها هي لوحات غوغان التي رسمها في تاهيتي.

في عام 1884 وأثناء وجود بيرتون في مدينة ترييستي، أرسل المجلدين الأول والثاني إلى المطبعة.

وكانت القضية هنا، هي كم عدد النسخ التي يقوم بطبعها. قال له أحد العلماء: "من الأفضل أن يتراوح عدد النسخ بين مئة وخمسين ومئتين نسخة." كان ذلك العالم قد طبع من كتبه مئة وستين ألف نسخة تراوحت بين كتب رخيصة السعر بثمن ستة شلنات، وكتب قيمة بثمن ستون جنيها. وكذلك قال له أحد الناشرين: "إن عدد خمسمئة نسخة سيكون عددا جيدا." ولكن صديق لبيرتون ليس له أية علاقة بالنشر حثه على طبع ما بين ألفين إلى ثلاثة آلاف نسخة. وقرر بيرتون بعد معاناة في التفكير طباعة ألف نسخة.

وبعد ذلك قام بيرتون بإعداد قائمة بأسماء من يتوقع أن يشتروا منه الترجمة بغض النظر عن كونهم معارف له أو أصدقاء أم لا، وأرسل إليهم إعلانا بصدور الترجمة. وكان ملخص هذا الإعلان هو أن الشراء للعشر مجلدات كاملة بسعر جنيها واحدا لكل مجلد وكانت الشروط أن يكون الدفع عند الاستلام وأنه لن يصدر طبعات رخيصة السعر، وتقتصر الطباعة على ألف نسخة فقط يتم الانتهاء من طبعها وبيعها خلال ثمانية عشر شهرا. وكان عدد الإعلانات التي وزعها بيرتون أربعة وعشرون ألف نسخة وتكلفت مئة وعشرون جنيها. وجاءه رد من 800 شخص.

في العام التالي عاد بيرتون إلى بريطانيا، وبدأ سريعا العمل في إجراءات النشر. وفي النهاية وصل عدد راغبي الشراء إلى ألفين شخص بعد أن كان 800. ووسط تلك الردود كان أحيانا ما يوجد من لا يرغب في الشراء لكنه يقول: "أريدُ أن أبدأ أولا بالمجلد الأول وإذا نال إعجابي أشتري باقي المجلدات."

كان رد بيرتون على ذلك هو: "أولا الحجز يكون بإرسال عشرة جنيهات وبعد ذلك لك حرية حجز مجلد واحد أو عشرة مجلدات." وبعد ذلك بدأ تجار الكتب محاولاتهم لتخفيض السعر. وأيضا وجد حوالي عشرون شخصا حصلوا على الترجمة ولم يدفعوا ثمنها."

في البداية لم يلتفت بيرتون إلى التجار الوسطاء وأقدم على المخاطرة بطبع الترجمة وتوزيعها بنفسه. وكان يرغب في الحصول على دعم وتشجيع من مشاهير الأدباء والجمعيات الأدبية، ولكن لم يشجعه أحد. بل وجد من سخر من خطته تلك وهو يقول: "تايمز للطباعة!". ووصل الأمر إلى وجود من قال: "فيما يتعلق بصنيع بيرتون هذا، لا يوجد اسم من قام بترجمة هذا العمل كما هو المفروض أن يكون. ولو كان خطأ من الناشر، فلابد من معاقبته بالغرامة. بالإضافة إلى أن الترجمة الكاملة لحكايات ألف ليلة وليلة يصعب السماح بها أخلاقيا. فحتى لو كان النشر على حسابه الخاص، فإذا وجد خوف من خرق الآداب العامة والأخلاق، يجب معاقبة بيرتون بتوقيع الغرامة عليه." رد بيرتون على هذا التحدي بالقول: "إن الناشر هو نفسه المؤلف، وترك مسؤولية نشر كل أنواع الكتب للناشرين المحترفين فقط أمر غير مقبول. لقد قمت بالنشر بنفسي من أجل علماء ودارسي اللغات الشرقية والآثار والتاريخ."

 

3

 

يوجد وسط ترجمة بيرتون التي وصلت إلى سبعة عشر مجلدا، سبعة مجلدات عبارة عن ملاحق وهوامش. وفي نهاية المجلد العاشر وضع "Terminal Essay" قدم فيه بالتفصيل دراسة عن أصل ألف ليلة وليلة وعادات العرب، وتاريخ ترجمة الليالي إلى اللغات الأوروبية. ويعتبر الجزء الخاص بالعادات العربية والشرقية بحثا في غاية الأهمية للمتخصصين، وحتى غير المتخصصين يجدون فيه متعة لا نهائية.

لم يقسم بيرتون ترجمته حسب الحكايات ولكن تركها مثل الأصل مقسمة حسب الليالي. وكذلك الشعر لم يحوّله لنثر بل ترجمه في صياغة شعرية. ومن خلال ذلك نرى إلى أي درجة كان بيرتون مخلصا للنص الأصلي.

مثلا توجد أوصاف للعرب مترجمة كما هي بشكل في غاية المتعة والتشويق. وأحد هذه الأمثلة هو وصف العربي لضم الرجل للمرأة بما يلي:

"التحما معا مثل التحام زر الثوب وثقبه"

وكذلك الجُمل التي تصف حدائق القصور في بغداد، في غاية الدقة والتفصيل وكأنك ترى بالفعل تلك الحدائق أمام عينيك. وأحد هذه الأمثلة هو وصف قصر هارون الرشيد في أحداث الليلة السادسة والثلاثون (المجلد الثاني).

وأيضا لأن بيرتون لم يكن يعبأ بالتزمت الأخلاقي المسيحي الذي كان منتشرا وقتها في أوروبا وكان من الناس الذين يؤمنون بمذهب المتعة الصريح والجريء الذي ينتهجه الشرق، وبالتالي فقد كانت ترجمته لحكايات ألف ليلة وليلة لها اتجاها مختلفا تمام الاختلاف عما سبقها من ترجمات. على سبيل المثال الملكة بدور في الليلة 215 (المجلد الثالث) تغني أبيات الشعر التالية:
The penis smooth and round was made with anus best to match it,
Had it been made for cunnus' sake it had been formed like hatchet!
لكن إذا تحدثنا عامة، فالأمور التي بها "خلاعة" كان يترجمها كما هي في الأصل المكتوب بجراءة وبراءة فطرية، ولذا لا يعطي ذلك إحساسا بالمجون، مثل مشاهد الحب (Love scene) التي تظهر في الروايات المعاصرة.

أما الهوامش فهي دقيقة ومفصلة. وليست على نمط واحد كما جرت العادة، بل هي هوامش على درجة عالية من الدقة التي كان عليها بيرتون. فهي لم تكن مجرد شرح للكلمات، ولكن وصل بعضها في الحقيقة إلى درجة البحث العلمي. على سبيل المثال عندما نقرأ الهامش الذي كتبه على واقعة خيانة زوجة الملك شهريار له مع عبد أسود، يقول بيرتون: "اتجاه النساء العربيات إلى استقبال الرجال السود، سببه أن قضيب الرجل العربي أصغر من الأوروبي. وأن قضيب الرجل الأسود أكبر من الأوروبي. علاوة على أن معدل مرات انتصاب الرجل الأسود قليلة ولكن مدته (duration) طويلة. ولذا كانت النساء العربيات يقعن في بئر الخيانة مع العبيد السود."

بل ويذكر بيرتون أنه قام بنفسه بقياس قضيب عدد من الرجال السود وذكر متوسط الطول بالبوصة.

(دراسة لم تكتمل)

(بتاريخ شهر يوليو من العام الثالث عشر من عصر تايشو الموافق لعام 1924م)

النص الياباني هنا