بحث في هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 15 نوفمبر 2014

بوح القرآن

بَوْحُ القرآن

تأليف: ماساهيكو شيمادا
ترجمة: ميسرة عفيفي

(ماساهيكو شيمادا: روائي وكاتب ياباني ولد في عام 1961 في طوكيو وتربى بمدينة كاواساكي بمحافظة كاناغاوا المجاورة لطوكيو من ناحية الغرب، وتخرج من جامعة طوكيو للغات الأجنبية قسم اللغة الروسية. نشر أول أعماله الأدبية سنة 1983 وهو لازال طالبا في الجامعة، وهي رواية "أغاني مبهجة من أجل اليسار اللطيف"، ورُشحت للفوز بجائزة أكوتاغاوا. ولكنه لم يفز بهذه الجائزة العريقة حتى الآن، حصل شيمادا على جائزة نوما الأدبية عام 1984 للعمل الأول، وجائزة كيوكا إيزومي عام 1992، وجائزة إيتو عام 2004، وعلى جائزة وزير التعليم والعلوم عام 2008. غير كتابة الروايات يكتب شيمادا مسرحيات ومقالات وأدب رحلات ونصوص أوبرالية ومحاورات مع مشاهير وترجم رواية للروائي الأمريكي ستيف إريكسون. وإضافة على هذا قام ببطولة عدد من الأفلام والمسلسلات الدرامية. / المترجم)

تباع أقراص القرآن المدمجة (CD) في اليابان ضمن ركن موسيقى الأعراق وموسيقى الشرق الأدنى والأوسط داخل محلات السي دي. لقد حاولت تخمين من هو الذي يقوم بشراء القرآن في اليابان؟ هل هو شخص - مثلي تماما - لا يوجد لديه دافع إلا الفضول الخالص؟ أم هل هو مسلم رحل عن موطنه وجاء إلى اليابان سعيا للرزق، ويحاول أن يجعل غرفته الضيقة مسجدا يقيم فيها صلواته؟ أم يا ترى هو شخص يريد استخدام هذا الصوت الرائع كخلفية صوتية لمكان ما؟
لو حاولنا على سبيل المثال جعل صوت ترتيل القرآن يتردد صداه في حجرة المنزل أو أحد المحلات التي تنساب منها في المعتاد أغاني موسيقى البوب ذائعة الصيت أو الموسيقى الخفيفة. سيتغير الجو العام للمكان في اللحظة ذاتها، وكأن زمنا آخر قد تدفق في المكان، فيعم الهدوء وتسيطر السكينة على المكان بشكل عجيب.
قرّاء القرآن الذين يُسمّون حُفّاظ، يُرتلون آيات القرآن التي يفيض الإيقاع في كل أركانها، من خلال تغيير نمط ومزاج التلاوة، بتفعيل اهتزاز الصوت، أحيانا بالتمهل، وأحيانا بالإسراع المدمدم، أحيانا بنبرة منخفضة مهيبة، وأحيانا بنبرة عالية بدرجة أوكتاف أعلى يبدو وكأنها ستخرق طبلة الأذن. كلمات القرآن جميعها هي وحي "الله" للنبي محمد، الذي بلّغها بصوته للبشر، ولذا فهؤلاء القرّاء يرتلون كلمات القرآن المقدسة وهم في حالة تقترب من حالة "الترانس". اللغة العربية، ذات الحروف الساكنة على الأغلب، عند قراءة القرآن يتردد صداها وكأنها موسيقى ساحرة.
لا توجد موسيقى مصاحبة ولا ألحان سهلة الحفظ، بل مجرد قارئ منفرد لا يقوم إلا بقراءة آيات القرآن بشكل متواصل. بل والأكثر من ذلك باللغة العربية التي لا أفهم منها أي حرف على الإطلاق، وفي الأول وفي الآخر أنا لست مسلما. ولكن رغم ذلك كله فهذا القرآن (معناه بالعربية الذي يُقرأ كثيرا)، يعطيني من الهدوء والسكينة ما لا تفعله المهدئات والمسكنات. وكأنه يزيل تماما كل القلق والتوتر اللذين تراكما بفعل معاناة الحياة اليومية. ولسبب ما، ابني ذو الخمسة أعوام أثناء سماعه القرآن، يمكث هادئا رزينا بدون أن يُحدث أية ضوضاء. وأعتقد أن القرآن سيكون له بالتأكيد مفعول مؤثر لزوجتي لو استمعت إليه في تهدئة حالة الهستيريا التي تصيبها أحيانا.
كل من زار العالم الإسلامي يعرف أن القرآن ينساب خمس مرات في اليوم والليلة من مآذن وسماعات المساجد الموجودة في كل ركن وكل طريق. والقرآن يجب أن يبدأ بقول "أعوذ بالله ..."، ثم يتلو القارئ ما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم ....
ثم يلي ذلك حمد الله العليم القدير وتسبيحه، وينتهي بصدق الله العظيم.

تنبثق الموسيقى الإسلامية جميعها من القرآن، ويتولد الأدب الإسلامي كذلك من آيات وسور القرآن. على سبيل المثال ملك فن "القوّالي" وهو فن المديح والموسيقى الإسلامية "نصرت فاتح علي خان" الذي توفى منذ زمن، طريقة غنائه عبارة عن استلهام طريقة ترتيل القرآن مع إضافة ارتجالات بطريقة فنية مبهرة، وإدماجها مع ألحان بالغة التعقيد، يُسبّح فيها لله ويمدح نبيه ويمجد الصديقين وفي نفس الوقت يهمس بالغزل لحبيبته، وهنا تمتلئ أغانيه بالنشوة والوجد والإثارة، لتصبح شبه متناقضة مع هدوء وسكينة القرآن. عندما تستمع لفن القوالي تجد عضلات جسدك تتأثر تلقائيا به ويبدأ الجسد في التمايل والاهتزاز معها.
أو لنأخذ مثلا أشعار ابن حزم، الذي يحكي عن الفرحة بكونه مسلما وعن النشوة بتجارب الحب، ليعلمنا ما لا نعلم عن عمق ونضج أفكار المسلمين.
لو كان الإسلام مجرد دين ضيق الأفق، يفرض بالقوة الأخلاق المتزمتة ويطارد مخالفيه، لم يكن ليستطيع أن يصير ديانة عالمية بهذا الحجم. لا يمكن قياس التأثير الضخم الذي تأثرت به أوروبا من العالم العربي الذي كان يفخر بامتلاك أعلى مستوى من الثقافة والعلم والحضارة في القرن الثالث عشر الميلادي. اليوم يجب علينا أن نتجنب سوء فهم العالم الإسلامي بسبب الانسياق وراء المصالح السياسية الضيقة. لأنه بدون العالم الإسلامي لم تكن لأوروبا أن توجد اليوم، وبالتالي لأمريكا كذلك. لقد أصبح دين الإسلام ديانة عالمية بسبب تسامحه الكبير وفكره القائم على العقلانية. كثيرا ما يوصف الإسلام بمقولة: "القرآن في يد والسيف في اليد الأخرى"، ولكن هذه الصورة تعكس مفهوم الإجبار والقهر المصاحب للمسيحية منذ الحملات الصليبية وما بعدها.
وكذلك عند ذكر الأصوليين لا يتبادر إلى الذهن إلا صورة المسلمين، ولكنها صورة صنعتها السياسة الأمريكية التي لا يمكن أن تقوم فيها الرأسمالية بوظيفتها بدون وجود عدو افتراضي محتمل طوال الوقت. ولكن الأصوليين يوجدون حتى بين المسيحيين الأمريكيين. وفي الماضي كان يطلق على ستالينييّ روسيا كذلك أصوليين، وفي ألمانيا على النازيين. وفي اليابان أقرب فئة لذلك هم الجماعات اليمينية المهووسة. في أي مجتمع يوجد الصراع الدائم بين سياسة العنف وسياسة التسامح.
فيلم "المصير" ليوسف شاهين - على سبيل المثال - يعيد تصوير هذه الأزمة السياسية على أحد صفحات التاريخ.

ولكن هذا الفيلم يمتلئ بنشوة الموسيقى الإسلامية التي تظهر فجأة وتختفي فجأة في كل مشاهده، مما يمكن أن نصنّفه بسبب ذلك كأوبرا سياسية (بوليتيكال أوبرا). يوجد في هذا الفيلم تنفيس تطهيري متواضع يختلف جذريا عن أفلام هوليود التي يُستخدم فيها طوفان من الأموال والأجهزة ذات التقنيات العالية، والمتفجرات المرعبة وكميات لا حد لها من الدماء. يتردد صدى القرآن في كل ركن من أركان الفيلم، ويمكننا من اختلاس النظر إلى ابتسامات المسلمين. يوجد في هذا الفيلم شكل آخر من تطور صناعة السينما لم نكن نحن اليابانيين نعرفه من قبل.

ليست هناك تعليقات: