بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 6 يونيو 2013

القضية ليست صدام حضارات

القضية ليست صدام حضارات

 بقلم العالم الياباني:  د. ناوكي كومورو
 ترجمة: ميسرة عبد الراضي عفيفي

(مقدمة من المترجم : الدكتور ناوكي كومورو عالم موسوعي يبلغ من العمر 73 عاما له العديد من الدراسات  والأبحاث في كافة فروع المعرفة.  اكتسب شهرته المدوية في اليابان والعالم في بداية الثمانينات عندما تنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتي في دراسة نشرها في أغسطس من عام 1980 تحت عنوان "انهيار  الإمبراطورية السوفيتية".  كتب دراسة عن حرب الخليج الأولى المسمى بحرب تحرير الكويت تحت عنوان "انتقام العرب" مهاجماً فيها الطريقة الأمريكية في معالجة الأزمة. في أكتوبر من عام 2000 نشر دراسته القيمة "أصول الأديان لليابانيين" وهي دراسة في مقارنة الأديان قارن فيها الديانات الأربع الكبرى في العالم وهي  المسيحية والإسلام والبوذية والكونفوشية وتوصل إلي أن الإسلام هو الدين الأكمل بينها وأن الإسلام هو النموذج الأمثل لما يجب أن يكون عليه الدين. ((نشرت جريدة الشعب الإلكترونية الفصل الخاص بالإسلام الذي ترجمه كاتب هذه السطور تحت عنوان " الإسلام هو الدين الحق" في عددها الصادر في 8 يوليو 2005)).
ثم وقعت الواقعة وزُلزل العالم أو أريد له أن يُزلزل بأحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. وأعلن العالم  غربه وشرقه الحرب على الإسلام بحجة الحرب على الإرهاب. ولم تكن اليابان بعيدة عن ذلك.  وبدأ الإعلام  الياباني ينقل من الإعلام الغربي الصورة كما هي دون توضيح أو شك في أنها الصورة الصادقة. ساء ذلك كاتبنا  كثيراً فأصدر في مارس عام 2002 كتاباً تحت عنوان "مبادئ الإسلام لليابانيين" دافع فيه عن الإسلام وفند الصورة الخاطئة التي يريد الغرب أن يجعلها هي الإسلام.
 المقالة هذه هي آخر سبع صفحات من هذا الكتاب في آخر فصول الكتاب تحت عنوان "معاناة الإسلام في العصر الحديث". أما العنوان أعلاه فهو من عندي.  م.ع ).

التعامل مع حركات الصحوة (الإسلامية) على أنها هوس ديني يعبر عن جهل أمريكا:

ما جعل الفاندمنتاليزم (الأصولية المسيحية) تشتهر بشدة هي المونكي ترايال أو ما يمكن ترجمته محاكمات القرد.
وهي المحاكمات التي تتعلق بنظرية التطور.
أحد معلمي المدارس الثانوية في الولايات المتحدة الأمريكية درّس لطلابه في المدرسة دروساً تعلمهم نظرية النشوء والارتقاء مما جلب عليه غضب أولياء الأمور وانتهى الأمر بفصله من وظيفته، فرفع هذا المدرس قضية مطالباً  اعتبار هذا الفصل فصل تعسفي وبإعادته إلى عمله. هذه هي البداية.
في هذه المحاكمة القضية التي أصبحت محل النزاع بلا جدال هي ماذا يقول الكتاب المقدس؟
الكتاب المقدس يقول إن الله هو خالق الإنسان. ومع هذا يأتي من يقول كلاماً فارغاً مثل إن القرد قد تطور فأصبح  إنساناً. من هنا جاءت اسم محاكمات القرد.
أول هذه المحاكمات حدثت في ولاية أركانصو في العشرينات من القرن الماضي، لكن اللافت للنظر هو تكرر هذا النوع من المحاكمات بعد ذلك أكثر من مرة.
مؤخراً في ثمانينات القرن العشرين حدث جدال واسع في أمريكا حول هل يجب تدريس نظرية التطور أم لا.
كما وضحنا الفاندمنتاليزم (الأصولية المسيحية) شئ وثيق الصلة بالنسبة للأمريكان. لذلك عندما رأوا الثورة الإيرانية لا شعورياً  أصدروا حكمهم السريع والجاهز بأنها نوع من أنواع الفاندمنتاليزم  (الأصولية المسيحية).
ونستطيع أن نتخيل أنهم في أعماق قلوبهم يحملون تصوراً خاطئاً مفاده أن"محاولة إعادة المجتمع الإسلامي الذي  كان موجوداً قبل أكثر من ألف عام هو شئ لا يفكر فيه إلا المهووسين الدينيين الذين يرفضون العلوم الحديثة.
بالفعل عندما حدثت الثورة الإيرانية قال الرئيس الأمريكي جيمي كاتر وكرر أقوال تستند على هذا التصور الخاطئ. كرر أكثر من مرة القول أن من قاموا بهذه الثورة هم أناس مجانين لديهم هوس ديني. أيضاً وسائل الإعلام الأمريكي والأوروبي كررت بث المعلومات التي تكونت من نفس التصور.
في الأصل الفاندمنتاليست (الأصولي) في المسيحية هو من يضع المشكلة في الإيمان القلبي فقط. الفاندمنتاليست  (الأصولي) في المسيحية هو من يؤمن بكل ما هو مكتوب في الكتاب المقدس كما هو.  أي أنه ليس للفاندمنتاليستس  (الأصوليين المسيحيين) أي قوانين خاصة بهم.
في المقابل، إذا نظرنا إلى الإسلام على أي وجه من الوجوه، لا سبيل فيه  إلى ظهور فاندمنتاليست (أصولي) يدعي أن من يؤمن فقط بالقرآن(دون عمل) سيفلح.
القرآن ذات نفسه يدعو المؤمنين به إلى الفعل الخارجي بمعنى أن القرآن يطالب بالمحافظة على أوامره ونواهيه.
وبذلك فظهور فاندمنتاليست (أصولي) على الطريقة المسيحية هو شئ غير وارد على الإطلاق في الإسلام. لكن الغربيين وخاصة الأمريكيين منهم لا يعلمون بدائيات البدائيات في الإسلام هذه، ثم يتعاملون مع حركات  الصحوة الإسلامية على إنها حركات لأناس متخلفين ومهوسين دينياً.
وبناء على هذا فإن عدم إعتراض العالم الإسلامي على هذه المعاملة يكون هو الشئ المستغرب.
إن المسلمين ليسوا مهاويس دينياً على الإطلاق. إنهم يعانون بجدية من وضعهم الراهن ويحاولون عمل حركة  تصحيحية تعود بهم إلى الأصول. وهو ما لا ينبغي تشبيهه بالأصولية المسيحية، بل يجب على العكس تشبيهم بجون  كالفن ومارتن لوثر.
بالطبع فيهم بعض المتطرفين . لكن التعامل مع حركات الصحوة الإسلامية جميعها على أنها كلها حركات تطرف، سيزيد حقد العالم الإسلامي على أمريكا ولن يحدث أي تفاهم بينهما أبداً.

حرب الخليج (تحرير الكويت) زادت من عقدة الحروب الصليبية لدى المسلمين:

المسلمون لديهم عقدة تسمى الحروب الصليبية.
هذه العقدة لازالت حتي الآن مستقرة في قلوبهم.
يعاني العالم الإسلامي حالياً ويتحرق جسده بسبب التناقض بين دخول العصر الحديث وبين العودة إلى الأصول.
ماذا فعل العالم الغربي إزاء ذلك؟
هل تفهم معاناة العالم الإسلامي هذه وحاول أن يقدم له يد المساعدة؟
هيهات.
هؤلاء المسيحيون ما فعلوه هو شئ شبيه بتكديس الملح في قلوب المسلمين الدامية.
حرب الخليج التي بدأت أحداثها عام 1990 كانت كذلك.
دراسة وتحليل هذا الحادث الضخم، عرضته في كتابي " إنتقام العرب" لذلك سأختصر التفاصيل هنا، لكن التصرف الذي قامت به أمريكا هو بالفعل السبب في تضخيم عقدة الحروب الصليبية لدى المسلمين.
ألا وهو وطئ الجيش الأمريكي الأراضي السعودية والبقاء فيها. بالنسبة للمسلم لا توجد إهانة أكبر من ذلك.
وذلك لأن السعودية توجد بها الأماكن المقدسة للمسلمين مكة والمدينة.
السعودية هذه وطئها جيش غير إسلامي، لا بل هو جيش مسيحي.
هذه صدمة لهم أكبر من صدمة الحروب الصليبية.
في الماضي حتى الجيوش الصليبية لم تجرؤ على الإقتراب من مكة أو المدينة. حقاً القدس ثالثة المدن المقدسة، لكن حرمتها لا تقارن أبداً بهاتين المدينتين مكة والمدينة.
الويل لأمريكا.
الويل لكل مسيحي.
لا داعي للقول أن كل مسلم لديه قلب، إنتشر داخله الحقد على أمريكا.
بعد ذلك أعلنت المنظمات الإسلامية المتطرفة بدء الجهاد ضد أمريكا.

نظرية صدام الحضارات  لن تُفهمنا القضية في وضعها الصحيح:

توجد فجوة بين الإسلام والغرب.
وهي فجوة عميقة وواسعة.
العالم الإسلامي يعاني من عقدة الحروب الصليبية، ويحاول بكل جهده البحث عن طريق العلاج منها. يعاني في الاختيار بين التحديث وبين العودة إلى الأصول، ولم يعثر على حل حتى الآن.
في حين أن الغرب ليس لديه أي علم بمعاناة العالم الإسلامي، ولا يحاول حتى معرفة ذلك. طبعاً لا مجال للحديث عن التعاطف مع المسلمين.
يظهر ذلك جلياً في زلة اللسان المشهورة للرئيس جورج بوش (الإبن) وقوله إنها حرب صليبية (كورسيد).
إنه يصف إرسال الجنود إلى أفغانستان بإرسال الجيوش الصليبية في الماضي.
الضبط كما يقولون ألقى زيتاً على النار، لا بل هو كمن ألقى خزانات ضخمة من الوقود على النار.
بالإضافة إلى أن الرئيس بوش الذي زل هذه الزلة الكبرى، والده هو الرجل الذي قرر إرسال الجيش الأمريكي إلى المملكة العربية السعودية.
السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية هدفها القضاء نهائياً على المسلمين، مثلما كان هذا هو هدف الحروب الصليبية. لا حيلة لأمريكا في الدفاع إذا ما اعتقد المسلمون ذلك. عقدة الحروب الصليبية زادت أكثر وأكثر.
بَيْد أن الحكومة الأمريكية المعنية بالأمر، لا تعرف أي شئ عن ما يحمله المسلمون في قلوبهم من مشاعر كهذه.
وهذا ما يُعقد القضية.
ويبدو مظهرها أنها تعتقد أنه أمام قوتها العسكرية الضخمة لن تأخذ حفنة مثل المسلمين المتخلفين في يدها غلوة.
وهو ما ينتج عنه نتيجة عكسية تماماً تتمثل في زيادة إستفزاز عقدة الحروب الصليبية فقط. كلما تفعل أمريكا ذلك كلما تحول العالم الإسلامي إلى عداءها أكثر وأكثر.
ويمكننا القول أنه لا يوجد الشئ الذي يمنع هذه الدائرة المفرغة إلا أن يدخل الرئيس الأمريكي ذات نفسه في الإسلام.
كما دخل التتار سابقاً في الإسلام، يدخل الرئيس جورج بوش في الإسلام. إذا فعل ذلك فستزول عقدة الحروب الصليبية لدى المسلمين أو على الأقل ستقل إلى درجة بعيدة جداً.
لكن بالطبع الأمريكي الذي ليس لديه أي معرفة بالإسلام، لا يستطيع الوصول بتفكيره إلى مثل هذا الحل العبقري.
إذن.
كاتب هذه السطور يعلنها مدوية.
حتى لو تم القبض على بن لادن، حتى لو تم القضاء على القاعدة وعلى كل التنظيمات المتطرفة ، لن ينتهي الصراع بين الإسلام وأمريكا ومعها الغرب.
مهما أستخدمتم من قنابل، لن تستطيعوا أن تزيلوا عقدة الحروب الصليبية التي توجد في داخل كل مسلم. وبالطبع لن تستطيعوا أيضاً أن تساعدوا العالم الإسلامي في حل المشاكل التي يعانيها.
صراع المجتمعات الغربية مع المجتمعات الإسلامية ليس مجرد "صدام حضارات".
إنه صراع تاريخي يتواصل لأكثر من الف عام، وله جذور عميقة جداً.
وعلى فرض أن أمريكا إنتصرت هذه المرة في "الحرب على الإرهاب" ، فهو ليس إلا إنتصار لحظي. ويجب على السادة القراء وضع هذه الكلمات في وعيهم وعدم نسيانها.
إسلام يعاني.
أمريكا تتغطرس.

متي ياترى يأتي اليوم الذي يتفاهمان.

الأحد، 2 يونيو 2013

أحدث روايات هاروكي موراكامي "تسوكورو تازاكي عديم اللون، وسنوات حجه"

أحدث روايات هاروكي موراكامي
"تسوكورو تازاكي عديم اللون، وسنوات حجه"


بقلم: ميسرة عفيفي
يعتبر هاروكي موراكامي أشهر أديب ياباني على قيد الحياة ومن أوسع أدباء العالم انتشارا، ويقال إنه أكثر الأدباء قربا من الحصول على جائزة نوبل التي يرشح لها كل عام تقريبا في السنوات الأخيرة. ولد موراكامي عام 1949 في مدينة كيوتو العتيقة التي تعتبر أكثر المدن اليابانية احتفاظا بطابعها التقليدي القديم، ولكنه انتقل مبكرا للعيش في مدنية كوبيه القريبة منها مع والديه اللذين كانا يعملان في تدريس اللغة اليابانية في مدرسة أهلية متوسطة. وبتأثير منهما أصبح موراكامي محبا للقراءة يقضي أغلب وقته في التهام الكتب. دخل موراكامي في عام 1968 جامعة واسيدا الشهيرة التي تعتبر من أفضل الجامعات في اليابان، لدراسة الأدب ولكنه عمل أثناء دراسته في الجامعة كعامل بار في أحد نوادي موسيقى الجاز الليلية في طوكيو. ثم تزوج في عام 1971 من زميلة له في الدراسة وشاركها في امتلاك بار متخصص في موسيقى الجاز وهما مازالا يدرسان في الجامعة مما جعله لا يتخرج من الجامعة إلا في عام 1975 بعد قضاء سبع سنوات فيها، وهو أمر نادر في اليابان. يشتهر موراكامي في اليابان بكرهه للظهور في وسائل الإعلام وعدم حبه للحديث عن نفسه أو كشف حياته الشخصية للعامة من خلال وسائل الإعلام المختلفة. ويفسر موراكامي ذلك بقوله إنه أثناء عمله في البار، تحدث مع بشر عديدين أحاديث كثيرة للغاية تكفيه لبقية حياته. ولكن في مقابل ذلك يسهب موراكامي في الحديث لوسائل الإعلام الأجنبية، وينشط في تسويق نفسه عالميا.
بدأ موراكامي الكتابة الأدبية متأخرا نوعا ما، إذ أنه كان في الثلاثين من العمر عندما نُشر له أول عمل روائي وهو "استمع لأغنية الريح". ويقول موراكامي إنه فكر صدفة في كتابة الروايات أثناء مشاهدته لمباراة في لعبة البيسبول بملعب جينغوو القريب من البار الذي كان يملكه.
حقق موراكامي شهرته المدوية من خلال رواية "الغابة النرويجية" التي باعت في اليابان فقط ما يقرب من خمسة ملايين نسخة. ثم توالت أعماله الروائية التي ما أن تصدر حتى تتصدر قائمة المبيعات وتترجم للغات عدة من لغات العالم الحية ومنها اللغة العربية التي تُرجم لها خمسة أعمال لموراكامي هي "الغابة النرويجية"، و"رقص رقص رقص"، و"جنوب الحدود غرب الشمس"، و"سبوتنيك الحبيبة"، وأخيرا "كافكا على الشاطئ"، ولكن للأسف كلها تم ترجمتها عن طريق لغة وسيطة هي اللغة الإنجليزية ولم يسبق على حد علمي أن تُرجمت له أية أعمال مباشرة من اللغة اليابانية حتى كتابة هذه السطور.
يشتهر موراكامي كذلك كمترجم للأدب الأمريكي المعاصر، فترجم عددا كبيرا من الأعمال الأدبية لجون وينسلو إيرفينغ، وكريس فان أولسبرغ، وتيم أوبرين، وريموند كليف كارفر، وريموند ثورنتون تشاندلر وغيرهم العديد من الأدباء.

أحدث روايات هاوركي موراكامي وهي محور هذا الحديث، صدرت في 15 أبريل من هذا العام، حسب ما هو منشور في الصفحة الداخلية لها، ولكن في الواقع بدء بيعها فعليا يوم 12 أبريل وحصل كاتب هذه السطور على نسخة منها في ذلك اليوم.
وقد سجلت الرواية حدثا هاما في تاريخ بيع الكتب في اليابان، وهي أنها أصبحت أول كتاب في تاريخ اليابان يصدر منه الطبعة الثانية في اليوم الأول من بدء بيع الطبعة الأولى في الأسواق بسبب نفاذ الكمية المطبوعة قبل نهاية ذلك اليوم. وقيل إنها باعت مليون نسخة في الأسبوع الأول من طرحها للبيع. الرواية أعادت موراكامي لعشاق أدبه بعد غياب ثلاثة سنوات منذ أن أصدر الجزء الثالث والأخير من ثلاثيته 1Q84 التي بدورها كانت تتصدر قائمة المبيعات كلما نزل للأسواق جزء منها.
يقول موراكامي عن روايته الجديدة إنه لأول مرة يترك لقلمه العنان لكتابة أحداثها دون أن تكون فكرتها مكتملة ومختمرة في رأسه، وإنه كان يستمتع بالتفكير في تطور أحداث الرواية يوما بيوم طوال الستة أشهر التي قضاها في كتابتها. تقع الرواية في 19 فصلا بما إجماله  370 صفحة من القطع المتوسط. اسم الرواية كما في عنوان هذا المقال  يعتبر من أطول أسماء روايات هاروكي موراكامي وهو في اللغة اليابانية يعتبر جملة اسمية كاملة: "تسوكورو تازاكي عديم اللون، وسنوات حجه". وتسوكورو تازاكي هذا هو بطل الرواية الذي تتمحور حوله كل الأحداث والشخصيات.
وتتركز أحداث الرواية في عقدين منذ كان البطل في العام الأول من المدرسة الثانوية وحتى العصر الحالي ويبلغ فيه البطل 36 عاما، أي من فترة مراهقته إلي فترة الكهولة حيث تنتهي الرواية. تبدأ أحداث الرواية من فترة النهاية حيث يعيش تسوكورو (والاسم عبارة عن صيغة المصدر من فعل "يصنع أو يُنشئ")، في طوكيو ويعمل بعد تخرجه من كلية الهندسة في تصميم وإنشاء محطات القطارات، وهو ما كان يحلم به منذ طفولته. كان تسوكورو في مرحلة الدراسة الثانوية في مدينة ناغويا التي ولد وتربي بها يكوّن مع أربعة من أصدقائه (بنتين وولدين) صداقة قوية وكانوا الخمسة عبارة عن كتلة واحدة يتحركون معا ويلعبون معا ويستذكرون دروسهم معا ولا يفترقون إلا عند النوم. ويصادف أن يحتوي اسم الأربعة الآخرين فيما عدا تسوكورو على لون ما، فالولدين الأول اسمه كيي أكاماتسو، "أكا" بمعنى أحمر والثاني اسمه يوشيو أومي، "أو" بمعنى أزرق، والبنتين الأولى اسمها يوزوكي شيرانه، "شيرو" تعني أبيض والثانية اسمها إري كورونو، "كورو" يعني أسود، وبالتالي أصبحت أسماء النداء بينهم هي أكا (أحمر)، أو (أزرق)، وشيرو (أبيض)، وكورو (أسود)، ثم تسوكورو هو الوحيد الذي لا يحتوي اسمه على لون فيظل كما هو تسوكورو، وهذا سبب عنوان الرواية "تسوكورو تازاكي عديم اللون ...".
وكذلك كان تسوكورو هو الوحيد بينهم الذي اختار جامعة في طوكيو، ويغادر ناغويا بعد انتهاء المرحلة الثانوية ليدرس ويعيش في طوكيو.
في العام الثاني له في الجامعة، وعند عودته في إجازة لناغويا، يفاجئ تسوكورو أن الأصدقاء قد قرروا قطع صلتهم به وإنهاء علاقتهم جميعا معه. وقد أخبره "أو" بذلك وطلب منه عدم الاتصال بأي منهم أبدا، ولم يخبره عن سبب هذا القرار.
قضى تسوكورو بعد عودته لطوكيو فترة ستة أشهر بين الحياة والموت، حيث انعدمت لديه أي رغبة في الحياة أو الأكل أو فعل أي شيء بعد صدمة فقدانه لأصدقائه الحميمين بدون سباق إنذار وبدون معرفة السبب في ذلك. وبعد معاناة شديدة نفسية وجسدية يتعافى تسوكورو جسديا فقط ويواصل حياته في الدراسة وكأنه شبح بلا روح. وأثناء الدراسة يتعرف على شاب أصغر منه بعامين اسمه أكيفومي هايدا (هذا الصديق أيضا يحتوي اسمه على لون وهو "هاي" بمعنى رمادي). يتعرف عليه في مسبح الجامعة حيث الاثنين هوايتهما هي السباحة. ويصبح هايدا هو صديق تسوكورو الوحيد وتتعمق العلاقة بينهما، ويحكي له هايدا عن والده الذي يعمل أستاذا للفلسفة في الجامعة ولكنه عندما كان طالبا في الجامعة وأثناء الاضطرابات التي قام بها طلبة الجامعات اليابانية في الستينيات، ترك والد هايدا الجامعة ورحل في رحلة تسكع لمدة عام داخل أقاليم اليابان، ليقابل أثناء عمله في نُزل ياباني تقليدي، نزيلا غريب الأطوار يبدو أنه كان يعمل كعازف بيانو، اسمه ميدوريكاوا (ميدوري تعني أخضر)، يحكي له قصة غريبة عن الموت وأنه سيموت بعد أيام قليلة، ثم يختفى ذلك النزيل فجأة ويعود والد هايدا لدراسته ويمارس حياته العادية حتى يصبح أستاذا للفلسفة في الجامعة.
وكما اختفى نزيل الفندق فجأة كذلك يختفى هايدا صديق تسوكورو من حياته فجأة دون سابق إنذار.
يتذكر تسوكورو كل ذلك أثناء الوقت الحالي بعد أن تعرف على سارا كيموتو التي تكبره بعامين والتي يعجب بها ويحاول إقامة علاقة جدية معها ولكنه يفشل في ذلك. فتقول له سارا إنه يواجه مشكلة مع ماضيه، ويجب عليه حل هذه المشكلة بمواجهتها وليس بالهرب منها كما فعل في الستة عشر عاما الماضية. وتطلب منه أن يذهب بنفسه ليقابل أصدقائه الأربعة واحدا بعد الآخر ليعرف منهم سبب إبعاده عن المجموعة بشكل مفاجئ ودون إبلاغه بالسبب. وتبحث له عن محل إقامة كل منهم الحالية وتخبره، وكذلك تخبره أن "شيرو" قد ماتت منذ ستة سنوات، ولكنها لا تخبره بالتفاصيل. فيذهب تسوكورو في رحلة بحثه هذه أو رحلة حجه، إلى ناغويا لمقابلة "أو" و"أكا"، ثم إلى فنلندا لمقابلة "كورو" التي تزوجت من فنلندي جاء طالبا إلى اليابان للدراسة وعادت معه إلى فنلندا وتعيش معه بعد أنجبت منه بنتين.
بعد أن يتحدث تسوكورو مع الثلاثة الباقين على قيد الحياة يعرف أن "شيرو" قد قتلت في شقتها التي انتقلت للعيش فيها بمفردها في مدينة هاماماتسو التي تقع بين طوكيو وناغويا. وكذلك يعرف لماذا حدث بينهم ما حدث. وملخص الأمر أن "شيرو" قالت لهم إنها عند ذهابها لحضور حفل غنائي في طوكيو، قابلت تسوكورو الذي اغتصبها وأفقدها عذريتها بعد أن اعتدى عليها. واضطر الجميع إلى موافقتها على ما قررت بقطع صلتهم تماما بتسوكورو، رغم شكهم جميعا في أن يكون تسوكورو قد فعل ذلك. وتخبره "كورو" أن "شيرو" كانت حاملا بالفعل وقد قررت أن تلد الجنين ولكنه سقط رغما عنها، وتخبره كذلك أنها كانت تعلم أنه برئ، ولكنها لعلمها أن "شيرو" قد أصاب عقلها خلل ما، قررت أن تكون بجانبها وتساندها هي وتتخلى عن تسوكورو التي كانت تضمر داخلها شعورا بالحب تجاهه، لأنها رأت أنه قادر على تخطى تلك المحنة، بينما "شيرو" لا تستطيع ذلك بمفردها لضعفها.
هذا هو ملخص أحداث الرواية التي أرى أن بها بعض التشتت وبعض الغموض الذي ربما كان مقصودا.

انطباعي عن الرواية أنها تعتبر من النوع السهل الممتنع، فالجمل سلسة والحوار سهل، تأخذك الرواية معها حتى نهايتها في وقت قصير (هناك من قال إنه قرأها في ثلاث ساعات فقط)، وأرى أنها من أخف أعمال موراكامي، وأسهلها من حيث القراءة والفهم، فهي لا تناقش كما في أعماله الكبرى همّا اجتماعيا وقضية حيوية تهم الجميع، ولكنها تناقش مشكلة فردية ربما واجهت عددا ما من الأشخاص ولكنها لا ترقى إلى مصاف القضايا الإنسانية الكبرى.
وكذلك هناك انطباع عام عن اقتراب موراكامي في هذه الرواية من أدب الروايات البوليسية المثيرة التي لها عشاق كثر هنا في اليابان وتعتبر أكثر أنواع الروايات انتشارا، فأحداث الرواية يشوبها بعض الغموض والتشويق، ويتم الكشف عنها تدريجيا مع التقدم في قراءة الرواية، إلا أن الاختلاف بين الروايات البوليسية المعتادة وبين رواية موراكامي هذه، أن موراكامي تعمد ترك مصير كل الأحداث غامضا، فلم نصل إلى معرفة ما هو مصير هايدا ولا كل ما يتعلق به وما حكاه من أحداث تخص عازف البيانو ميدوريكاوا، وكذلك لم نعرف حقيقة ما حدث مع "شيرو" ومن الذي اغتصبها ومن الذي قتلها ولماذا؟ حتى مصير بطل الرواية تسوكورو مع حبيبته سارا، هل سيرتبطا أم ينفصلا، لقد طلبت سارا منه مهلة ثلاثة أيام للرد على ذلك ولكن موراكامي ينهي الرواية قبل مرور الثلاثة أيام تلك. فهل سيفعلها موراكامي ويكتب الجزء الثاني من حكاية تسوكورو تازاكي؟
هناك العديد والعديد من الآراء التي ملأت الجو الأدبي الياباني تعليقا على هذه الرواية. ربما كان أشدها لاذعة في النقد، هو من قال إن تلك الرواية ربما تكون بداية النهاية لظاهرة هاروكي مواركامي وأن الرجل لم يعد لديه ما يقوله بعد هذه المسيرة العظيمة في مجال الأدب. فهل يصدق ذلك التنبأ يا ترى؟ ليس أمامنا إلا أن ننتظر لنرى.
تبقى كلمة لا يمكن ترك الرواية دون الحديث عنها وهي أن موراكامي كما هي عادته دائما، يضع الموسيقى عنصرا أساسيا من عناصر الرواية، وقد اختار هذه المرة الموسيقى الكلاسيكية، ممثلة في مجموعة فرانز ليست للبيانو "سنوات الحج" (لاحظ عنوان الرواية المأخوذ من عنوان المجموعة) خاصة بعزف العبقري الروسي لازار بِرمان. كانت "شيرو" التي تهوى الموسيقى حتى أنها درستها وبعد تخرجها من الجامعة عملت كمدرسة بيانو للأطفال، تعزف للأصدقاء الأربعة مجموعة ليست سنوات الحج. وطوال أحداث الرواية يستمع تسوكورو إلى عزف لازار برمان خاصة في الوقت الذي كان يقضيه في شقته مع صديقه هايدا.
بعد صدور الرواية زاد الإقبال على سماع مقطوعات "سنوات الحج" لفرانز ليست وخاصة من عزف لازار، ولكنها كأسطوانة كانت غير موجودة في الأسواق اليابانية ولكن نظرا لزيادة الطلب عليها قررت شركة يونيفرسال إصدار سي دي جديد بعد شهر من صدور رواية موراكامي.





الخميس، 23 مايو 2013

اليابان والحداثة


اليابان والحداثة
بقلم ميسرة عفيفي
أتذكر أنني أصيبت بصدمة عندما قرأت كلمة لروجيه جارودي عن الحداثة يقول فيها ما معناه إن الحداثة هي الخطر الأعظم على البشرية. وسبب صدمتي هو أنني كنت وقتها لا زلتُ أسيراً للإضلال الثقافي الذي قام ويقوم به إلى الآن "مثقفونا العظام" الذي يروجون للحداثة على أنها السبيل إلى التقدم والتطور خالطين عن عمد بين "التحديث" المطلوب دوماً وبين "الحداثة" المذمومة أبداً. وكنتُ استعجب أن فليسوفاً فرنسياً مثل جارودي، يعيش في عاصمة النور كما يسمونها وارتبط فترة طويلة بالفكر الماركسي "التقدمي"، يعتبر الحداثة خطراً ليس فقط على الإسلام بل على الإنسانية جمعاء. ولكن بعد أن علمت أن الحداثة في معناها الاصطلاحي هي القطعية المعرفية مع الماضي ومع التراث، بدأت أفهم قليلاً ما يعنيه جارودي، وبدأت أفهم حرصه على التنبيه من مخاطر الحداثة.
هذه مقدمة أردت إثباتها قبل التطرق إلى الكلام عن اليابان وطريقة تعاملها مع الحداثة والتحديث، ربما نجد فيه ما يفيد.

اليابان الآن هي ثاني أكبر قوة اقتصادية وصناعية في العالم. في مجال التحديث والتكنولوجيا وصلت اليابان إلى القمة التي لا يطاولها قمة أخرى. ومن زار اليابان وتعرف عليها يتأكد بما لا يدع مجالاً للشك أنها الدولة الأولى في مجال العلم التكنولوجي والصناعي. ووصلت في مجال الإلكترونيات والإنسان الألي "الروبوت" إلى درجة يندهش لها حتى العالم الغربي. ولقد شاهدت بنفسي انبهار أحد الأمريكيين من ذلك، وحرصه على التقاط الصور الفوتوغرافية للعجائب التي يراها. أما عن العرب فحدث ولا حرج. صحافي سوري كنت أرافقه في جولة له داخل اليابان مدعواً من الحكومة اليابان، قال لي كلمة تعبر إلى حد بعيد عن ذلك هي: "اليابان كوكب آخر لا ينتمي لكوكبنا". أما عن الناحية الحضارية في التعاملات البشرية، فاليابانيون يتعاملون مع بعضهم البعض، ومع الآخرين بطريقة إنسانية حضارية قل أن تجد لها مثيلاً في العالم كله.
هذه الدولة التي وصلت إلى تلك القمة في العلم والتكنولوجيا والحضارة، هل وصلت لها عن طريق الحداثة التي تعني القطيعة التامة مع الماضي. أبداً فالجميع يعلم أن اليابان لا زالت متمسكة بالعديد من خصائصها الثقافية التي تجعلها متميزة عن ثقافة الدول الصناعية الكبرى، ونحن نعلم أن هناك طريقة في علم الإدارة تسمي الطريقة اليابانية في الإدارة وبها اختلافات عديدة عن طرق الإدارة الغربية. ونحن نعلم أن السبع الكبار هم ست دول غربية واليابان هي الوحيدة التي لا تنتمي ثقافياً إلى الغرب.

اليابان تلك الدولة التي وصلت إلى قمة التحديث، لا زال بها العديد من الأشياء التي من الممكن أن تُصنّف على أنها أشياء لا تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين، بل وتعتبر "بدائية" تنتمي إلى "العصر الحجري".
من ضمن الأشياء هي اللغة، اللغة اليابانية في أصلها كانت لغة منطوقة ليس لها حروف تكتب بها. وعندما احتاج اليابانيون في قديم الزمن إلى الكتابة اضطروا إلى استعارة طريقة الكتابة من اللغة الصينية التي ليس لها أي علاقة باللغة اليابانية من حيث الأصل أو الانتماء. الكتابة الصينية هي كتابة بدائية بطريقة الرموز التصويرية تسمى "الكانجي". وهي ما يمكن أن يعتبر شيء بدائي، أي أن الإنسان البدائي في الغابة عندما يريد التعبير عن شيء يرسمه، فكلمة شجرة هي رسم لها وكلمة جبل هي رسم للجبل ونهر كذلك يرسم ثلاثة خطوط متموجة تعبر عن جريان الماء .. وهكذا. أخذت اليابان طريقة الكتابة تلك من الصين في القرنين الخامس والسادس ميلادياً ولا زالت هي المستخدمة إلى اليوم، ولكن اليابان طورت من هذه الرموز حروف هجائية مبسطة لتعبر عن الصوتيات في اللغة اليابانية ولتستخدم في الربط بين الكلمات والجمل. وهذه الحروف نوعان "هيراغانا" لكتابة أدوات الربط وبواقي الأفعال و"كاتاكانا" لكتابة الكلمات الأجنبية الدخيلة على اللغة اليابانية (فيما عدا بالطبع الكلمات الصينية). وأصحبت الجملة اليابانية اليوم تتكون من ثلاثة أنواع من الحروف هي رموز الكانجي وحروف الهيراغانا وحروف الكاتاكانا. وبالطبع لا يخفى على أحد الصعوبة البالغة في تعليم لغة مثل هذه اللغة لأن رموز الكانجي هي بلا عدد، ويقال أن رموز الكانجي في اللغة الصينية يصل إلى عشرات الآلاف، بل ويصل بها البعض إلى مئات الآلاف. ولذلك اضطرت اليابان إلى إصدار قانون يحد من الرموز الصينية التي تستخدم في وسائل الإعلام من صحافة ومجلات وفي مجال التعليم الإجباري، ويتغير عدد تلك الرموز كل فترة بالحذف والزيادة، والقانون الآن ينص على 1945 رمز (ألف وتسعمئة وخمسة وأربعين رمز). ولهذا أثناء الاحتلال الأمريكي لليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وبحجة الصعوبة وانعدام العملية حاول الأمريكيون بطيشهم المعروف إلغاء استخدام الكانجي واستبداله بالحروف اللاتينية كما فعل المستعمرون وعملاءهم في عدة دول. لكن هيهات، وقف اليابانيون بحزم ضد ذلك لمعرفتهم أن العكس هو الصحيح، وأن تغيير طريقة الكتابة ليس عملياً على الإطلاق. ولإعطاء مثال على ذلك هناك كلمة تنطق هكذا "KOUSHOU"، هذه الكلمة لها 22 طريقة كتابة بالكانجي ويختلف المعني باختلاف الكتابة، على سبيل المثال تعني مفاوضات وتعني وزير الصحة وتعني التبليغ الشفهي وتعني القائد المنهزم .. إلخ، ولكن النطق سيصبح بالحروف اللاتينية واحد هو "KOUSHOU"
ولذا ستتعقد المساءلة. بالإضافة إلى الكوارث العديدة الأخرى التي ستنتج عن ذلك منها القطيعة المعرفية للأجيال التي ستنشأ على المنهج الجديد بكل ماضيها وتراثها المكتوب باللغة القديمة. وقف اليابانيون رغم وقوعهم تحت الاحتلال ضد رغبة المحتل الغاشم في نزعهم من أصولهم وماضيهم وتراثهم اللغوي، وذلك على الرغم من أن الكتابة في الأصل مستعارة وليست أصيلة لهم، إلا أن توالي هذه القرون الطويلة جعلتها جزءًا لا يتجزء من تراثهم وثقافتهم.

الشيء الثاني وإن كان يبدو بسيطاً إلا أن عميق في معناه، وهو عصتي الأكل. شعوب شرق وجنوب شرق أسيا كلها تستخدم عصتي الأكل في تناول الطعام، ويقال إن الصين هي أول من بدأ استخدام عصتين من الخشب في تناول الطعام وذلك منذ خمسة آلاف سنة، ومنها انتشرت هذه العادة إلى الدول المجاورة ويقال أيضاً أن ثلث سكان العالم يستخدمون العصي بدلاً من الملاعق أو الشوك والسكاكين. ويعتقد أن الإنسان البدائي (في الصين) استخدم أفرع الشجر الرفيعة في تقليب الطعام الساخن على النار ثم تطور الاستخدام إلى تناول الطعام بها. وهي طريقة تعتبر بدائية مقارنة بأدوات المائدة الغربية، أو الإيتيكت الغربي. إلا أن اليابانيين لا زالوا مصرين على استخدام هذه العصيان التي يعتبر التحكم بها في الطعام من المعضلات. رغم أنها هي الأخرى ثقافة مستعارة وليست أصيلة. إلا أن من يتعرف على الأكل الياباني يعلم تمام العلم أن العصيان هي الوسيلة الوحيدة المناسبة لتناوله بأفضل طريقة عملية مريحة. عندما كنت في زيارة إلى الوطن لاحظ أخي أن الأطفال يأكلون بالملاعق وليس بالعصيان، فسألني لماذا؟ قلت له الأطفال في اليابان يأكلون بالملاعق لصعوبة استخدام العصيان، وتدريجياً يتعلمون استخدام عصي الأكل. فقال أخي ولِمَ لا يستمرون؟ أي لماذا لا يستمرون في استخدام الملاعق والشوك وبالتالي يتخلصون من مشاكل صعوبة العصي "ويصبحون حضاريين". كان السؤال مفاجئاً لي فقلت له لا أعرف.
ولكني بعد التفكير عرفت السبب، السبب أنه حتى الأجنبي التي يعيش في اليابان لا يستطيع الحياة دون تعلم استخدام عصي الأكل فما بالك بابن البلد. فكما قلت الطعام الياباني لا يناسبه إلا عصيان الأكل وأغلب المطاعم اليابانية التقليدية لا تقدم من أدوات المائدة إلا "الهاشي" وهو اسم عصيان الأكل باللغة اليابانية. ورغم أن انتشار المطاعم غير اليابانية من أوروبية وأمريكية وغيرها بكثرة مهولة تعاد تطغى على المطاعم اليابانية إلا أن الياباني لا زال يفضل الطعام الياباني على غيره ولا زال يتناوله مرة أو مرتين على الأقل يومياً لذلك لا يستغنى عن "الهاشي".

العادة "البدائية" الثالثة في اليابان هي النوم. منذ قديم الأزل والياباني ينام على الأرض فوق ما يسمى "التاتامي" وهو لوح من الحصير المصنوع بطريقة خاصة. تغير البيت الياباني كثيراً واتخذ الطراز الغربي في الديكور والأثاث. إلا أنه لا زال يوجد داخل كل بيت ياباني غرفة واحدة على الأقل يابانية الطراز مفروشة بحصير التاتامي. وفي الأغلب تكون هي غرفة النوم. تنصب فوق حصير التاتامي مرتبة نحيفة على الأرض ينام عليها المرء. رغم كل الغنى والرفاهية التي وصل إليها الياباني إلا أنه لا زال ينام على الأرض. وأيضاً الفنادق اليابانية ذات الطراز الياباني العريق والتي تُسمّى "ريوكان"، لا يوجد بها أسرّة، ولكن كل غرفها مفروشة بالتاتامي، وينام نزلاءها حتى ولو كان الامبراطور، على الأرض فوق التاتامي.

آخر ما سأتكلم عنه في هذا المجال هو الدين، وهو أهم ما في الموضوع. إذ أن اليابان التي وصلت كما سبق القول إلى قمة عالية في التقدم التكنولوجي والعلم الحديث، بل وقمة عالية من الأخلاق الحضارية الإنسانية في تعاملات البشر بعضهم البعض، لا زالت دينياً في مرحلة الديانة "البدائية". ديانة عبادة الأرواح والأسلاف وتعدد الآلهة التي تصل إلى أرقام فلكية، إذ تُسمّى ديانة الشنتو، الديانة الأصيلة لليابان منذ قديم الزمن وحتى الآن بديانة "الثمانية ملايين إله" ثمانية ملايين ليس هو العدد الفعلي ولكنه يطلق للدلالة على الكثرة. العلماء اليابانيون يرون أن ترجمة كلمة "كامي" اليابانية إلى إله "GOD" ترجمة خاطئة والأصح هو ترجمتها إلى روح "SPIRIT". أما المقابل للإله أو الرب "GOD" في اليابانية فلا يوجد، لأنهم ليس لديهم فكرة الربوبية التي توجد في الأديان السماوية. لذلك عندما جاء المبشرون النصارى إلى اليابان في القرن السادس عشر لم يكن لديهم بُد من ترجمة "GOD" إلى كلمة "كامي" اليابانية التي تعني روح وتستعمل بمعنى مقارب من الرب أو الإله. ديانة الشنتو هي ديانة بدائية تعبد الطبيعة وتعتمد على أن لكل شيء في الطبيعة روح مقدسة لابد للتقرب إليها حتى لا تضر الإنسان. للجبل روح، للغابة روح، للنهر روح، للبحر روح، للأرض روح، للسماء روح، للمطر روح، للسحب روح .. وهكذا. وهي ديانة دهرية، أي أن الإنسان يعيش في هذه الدنيا فقط ولا يهلكه إلا الدهر، وبعد الموت لا يوجد إلا العدم، لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار. هذه هي الديانة الأصيلة لليابان ويقدر عدد معتنقيها في اليابان بثمانين في المئة من الشعب الياباني، أما باقي الديانات فهي واردة من الخارج. ثاني أكبر ديانة هي البوذية، وهي كما نعلم جاءت من الهند عن طريق الصين في القرن السادس الميلادي، ويقدر عدد معتنقيها في اليابان بسبعين في المئة من الشعب. ليس هناك خطأ في الأرقام. أي نعم المجموع هو 150% ولكن ذلك سببه أن الياباني يعتنق أكثر من دين في وقت واحد. وهم قد خصّصوا الشنتو للمناسبات السعيدة، مثل الزواج والميلاد واحتفالات العام الجديد، وخصّصوا البوذية للمناسبات الحزينة مثل الموت والمرض. أكبر ديانة سماوية هي النصرانية لا يزيد عدد معتنقيها من اليابانيين عن الواحد في المئة. لا زال أغلب النشاط الاجتماعي في اليابان يدور في فلك الديانات اليابانية العتيقة التي من ممكن وصفها "بالبدائية"، سواء الشنتو أو البوذية أو إذا أضفنا لها الكونفوشية التي أثرت تأثيراً كبيراً على اليابانيين في نمط حياتهم المعيشية، وإن كان لا يوجد لها تأثير كبير في مجال العقيدة أو الشعائر الدينية إلا فيما ندر.
إذاً اليابانيون "بدائيون" في ديانتهم، يعتقدون أن هناك أرواحا في الطبيعة يجب تقديم الشكر والتقديس لها لكي تجلب الخير ويجب اتقاء غضبها لكي لا ينالهم شرورها. ولم يمنع تمسّك اليابانيون بذلك من الوصول إلى أقصى درجات العلم والتكنولوجيا وتفوقهم على الغرب في العديد من المجالات سواء الصناعية أو التكنولوجية. بل أنه يقال أن سبب تراجع اليابان النسبي في الفترة الأخيرة، هو ابتعاد الجيل الجديد من الشباب الذي نشأ في ظل التقدم والرفاهية والتواصل مع الغرب عن ثقافته وحضارته الأصيلة التي تختلف تمام الاختلاف عن ثقافة الغرب وحضارته المادية.

أرى أن الحداثة بمعناها الذي يهدف إلى القطيعة مع الماضي والتراث (وخاصة التراث الديني أو الغيبيات كما يطلقون عليه) ليست هي الوصفة السحرية للتقدم كما يحاول البعض أن يوهمنا. خاصة وأن تراثنا العربي الإسلامي لا يمكن وصفه بأي حال بالبدائية بل هو قمة لا تعلو عليها قمة أخرى خاصة في مجالات الدين والفكر والأدب والأخلاق ..إلخ.
بدأ دعاة الحداثة (وليس التحديث) بعد أن ظهر عوار نظريتهم، في الدعوة إلى ما بعد الحداثة كاستمرار لتيار الحداثة، وذلك لأن رواد "الحداثة" أنفسهم أصبحوا من الماضي وأصبحوا هم أيضاً تراث يجب التخلص منه. أمّا إذا كان المقصود من الحداثة هو التحديث فأعتقد أن التحديث يستمر إلى ما شاء الله دون الحاجة للكلام عن ما بعد التحديث، إذا أنه فعل متواصل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.


مقالة قديمة جديدة: من هو شينزو آبه رئيس وزراء اليابان


من هو شينزو آبه رئيس الوزراء الياباني الجديد
يوصف بأنه من الصقور المحافظين في الحزب المؤيدين
للولايات المتحدة المطالبين بمواقف مشددة تجاه كوريا الشمالية
بقلم: ميسرة عفيفي
أجريت يوم 20 / 9 انتخابات رئاسة الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم في اليابان الذي سيكون الفائز فيها تلقائياً رئيساً للوزراء في الحكومة الائتلافية اليابانية. تقدم للترشيح للمنصب الهام ثلاثة مرشحين هم شينزو آبه وزير شئون مجلس الوزراء والمتحدث الرسمي باسم الحكومة، وتارو آسو وزير الخارجية، وساداكازو تانيغاكي وزير المالية.
وكانت النتيجة هي فوز الأول شينزو آبه بنسبة تفوق 66 بالمئة من الأصوات وبالتالي سيتولي في الأسبوع القادم منصب رئيس الوزراء رقم تسعون في تاريخ اليابان.
في يوم 21 / 9 يبلغ شينزو آبه عامه الثاني والخمسين، فهو من مواليد عام 1954 وبذلك سيصبح أول رئيس وزراء لليابان يولد بعد الحرب العالمية الثانية. في عدد اليوم من إحدى الجرائد الصباحية اليابانية كاريكاتير يصف حيرة آبه من طلب تورتة الاحتفال، هل يطلب اثنين واحدة لعيد الميلاد والأخرى لتنصيبه رئيساً للوزراء، أم لا؟
إن كل التوقعات كانت تشير إلى فوز آبه بمنصب رئيس الحزب الحاكم وبالتالي رئيس الحكومة. جريدة الواشنطن بوست الأمريكية في عددها الصادر يوم 19 / 9 تُحلل ذلك بأن الخوف الياباني من السلاح النووي الكوري الشمالي مع الخوف من التقدم الصناعي الرهيب للصين هو الذي ساعد في الدفع بمتشدد مثل آبه إلى سدة الحكم. وتصفه الجريدة بأنه من الواضح نرجسيته الشديدة.
من هو آبه؟
شينزو آبه (52 عاماً) يشغل حتى هذه اللحظة منصب وزير شئون مجلس الوزراء والمتحدث الرسمي باسم الحكومة. في حين أنه شغل منصب الأمين العام السابق للحزب الحاكم، ونائب وزير شئون مجلس الوزراء وأيضاً نائب السكرتير العام للحزب الحاكم. وهو ابن شينتارو آبه السياسي المحنك والوزير السابق الذي كان قاب قوسين أو أدنى من منصب رئيس الوزراء. وهو أيضاً حفيد نوبوسكيه كيشي رئيس الوزراء الياباني الشهير في نهاية الخمسينيات. ويقال إن شينزو آبه ورث من جده هذا اتجاهاته السياسية، فهو يُصنّف من كبار الصقور اليمينية في الحزب الحاكم. دخل آبه عالم السياسة بعد وفاة والده المفاجئة وكان عمره 38 عاماً. حيث انتخب عضواً في مجلس النواب ليخلف والده وكان آبه يعمل سكرتيراً لوالده حتى وفاته.
لم يظهر شينزو آبه على السطح السياسي إلا في آواخرعام 2000 حين عُين نائباً لوزير شئون مجلس الوزراء في وزارة يوشيرو موري. وبدأ يلمع أكثر في عهد رئيس الوزراء الحالي كويزومي. وبدأت شعبيته تتزايد مع تطورات علاقة اليابان بكوريا الشمالية، مع حديثه لوسائل الإعلام بشكل مستمر مطالباً بالضغط على كوريا الشمالية لحملها على إيقاف تطويرها للسلاح النووي وحل مشكلة اليابانيين المختطفين لديها.
ويقال إن له علاقات طيبة بالولايات المتحدة ويتخذ موقفاً شديد الصرامة ضد كوريا الشمالية ولايمانع من فرض حصاراً اقتصادياً عليها لكي تستجيب لما يُطلب منها خاصة فيما يتعلق بقضية اليابانيين المختطفِين لديها وترفض إرجاعهم لذويهم. وكذلك قضية تطوير السلاح النووي.
وآبه أيضاً من الساعين إلى إحداث تغييرات جوهرية على الدستور الياباني لكي تتمكن اليابان من أن تلعب دوراً عسكرياً وسياسياً في الساحة الدولية.
وأيضاً هو من الزائرين سنوياً لمعبد ياسوكوني الشنتوي الذي يضم رفات الجنود اليابانيين الذي قضوا في الحرب العالمية، مع رفات القادة الذين حكم عليهم بالإعدام بتهمة إرتكاب جرائم حرب. وهو ما تعترض عليه الدول التي اُرتكب بحقها هذه الجرائم مثل الصين والكورتيين. وقد لاقى مجرد ورود اسمه ضمن المرشحين لرئاسة الوزراء في اليابان امتعاضاً وقلقاً من دول الجوار وخاصة الصين. التي تعاني الأمرين من أفعال كويزومي فما بالك بشينزو آبه الذي يقال إنه أكثر تطرفاً منه فيما يتعلق بالعلاقات مع دول المنطقة.
لكن آبه منذ أن بدء يفكر في الدخول في انتخابات رئاسة الحزب الحاكم هو يلزم نفسه بإبداء آراء أكثر اعتدالاً من آرائه السابقة. ويعمل على الظهور بمظهر الساعي إلى إقامة علاقات قوية ووطيدة مع الجيران. حتى أنه قال إنه سيعمل على إنجاز لقاء قمة بأسرع وقت ممكن مع الزعيم الصيني الذي رفض لمدة خمسة أعوام كاملة مقابلة كويزومي بسبب زياراته السنوية لمعبد ياسوكوني. وفي موضوع كوريا الشمالية يؤكد على سيره على نفس النهج الذى سار عليه كويزومي باستخدام سياسية "الضغط والحوار" أو ما يمكن تسميته سياسية "العصى والجزرة" لحثها على الاعتدال.
الخبراء يقولون إن التغير الذي طرأ على تصريحات آبه لا يعني أن آرائه تغيرت ولكن يعني أن الرجل الذي على وشك الوصول إلى مقعد رئيس الوزراء يجب ألا يصرح بما في قلبه. أولاً لأن ذلك سيصعب من مهمته القادمة وثانياً لأنه بعد وصوله إلى منصب رئيس الوزراء لن يمثل نفسه فقط كما في السابق ولكنه سيمثل الدولة ككل.
من الواضح أن شينزو آبه أكثر تشدداً في آرائه من كويزومي، إلا أنه لا ولن يتمتع بالشعبية التي حصل عليها الأخير أثناء توليه منصب رئيس الوزراء لفترة تقارب الخمسة أعوام ونصف العام. ومن المتوقع أن يقع في العديد من المشاكل والأزمات بسبب صغر سنه النسبي وقلة خبرته السياسية بالإضافة إلى تشدده في آرائه وإلى نرجسيته وعناده الواضحين.

الثلاثاء، 21 مايو 2013

اليابان وثقافة الانتحار



اليابان وثقافة الانتحار

بقلم: ميسرة عفيفي


انتحر وزير الزراعة الياباني توشيكاتسو ماتسؤكا (62 عاما) في الثامن والعشرين من شهر أيار/ مايو 2007 على خلفية اتهامات له بالفساد واستغلال المنصب الوظيفي في أعمال غير مشروعة. وقد أصيب المجتمع الياباني بصدمة من هذا الحادث لأن هذه هي المرة الأولى التي ينتحر فيها وزير وهو في منصبه. الوزير ماتسؤكا كان من كبار متشددي المحافظين في الحزب الحاكم الذين يعارضون التقدم والإصلاح. وكان من المجاهرين بمعارضتهم لرئيس الوزراء السابق كويزومي الذي كان يعمل على إحداث إصلاحات سياسية وهيكلية. مما يجعل الناس تحتار في إقدامه على الانتحار.

عدد المنتحرين اليابانيين يزيد على الثلاثين ألف شخص للعام التاسع على التوالي، وصل العدد في عام 2006 إلى 32,155 شخص. أي بمعدل انتحار شخص كل 18 دقيقة. وهي من أعلى النسب في العالم والنسبة الأعلى في الدول الصناعية الكبرى. وإذا أضافنا عدد محاولات الانتحار التي يخفق منفذوها في التخلص من حياتهم فيها وهي أكثر من حالات الانتحار نفسها، نجد أننا أمام ظاهرة خطيرة ومنتشرة في اليابان.
والسؤال هو لماذا يُقْدم الياباني على التخلص من حياته بهذه السهولة؟
بالطبع أسباب الانتحار المباشرة كثيرة ومتنوعة وهي لا تختلف كثيراً عنها في الدول والبلاد الأخرى. لكن ما أريد مناقشته في هذه المقالة هو لماذا يقدم عدد أكبر من البشر في اليابان عنه في باقي بقاع العالم على الانتحار؟
بل يصل الأمر وكما نعلم جميعاً أن اليابان هي الدولة الوحيدة في العالم التي لها طريقة معينة في الانتحار مسجلة باسمها، وهي طريقة "الهاراكيري" وتعني "قطع البطن".
أعتقد أن ثقافة الانتحار في اليابان أتت في الأصل من ثقافة "الهاراكيري" التي اشتهر بها المحاربون القدماء "الساموراي".
فما هو تاريخ هذه العادة التي انفردت بها اليابان عن العالم أجمع؟
الهاراكيري هي قيام الفرد بقطع أحشائه بسيف صغير (خنجر) وذلك بشق بطنه بخط أفقي من الشمال إلى اليمين ثم يواصل الشق رأسياً إلى أسفل البطن. ولأن هذه الطريقة لا تسبب الموت الفوري بل يظل المنتحر يعاني من الآلام الرهيبة فلابد من وجود شخص يقوم بقطع رقبته على الفور حتى يريحه من هذه الآلام.
يقال إن أول من أقدم على الانتحار بطريقة "الهاراكيري" في اليابان هو المحارب "ميناموتو نو تاميموتو" في عام 1177 ميلادياً، وانتشرت بعد ذلك بين الساموراي منذ ذلك العصر وحتى عصر انتهاء طبقة الساموراي بانتهاء الحكم العسكري وانتهاء المجتمع الطبقي في عصر ميجي. ولكنها استمرت بعد ذلك أيضاً وإن قلت نسبتها طريقة مفضلة للانتحار لدي بعض اليابانيين من العسكريين واليمينيين الذين يحنون إلى عصر الساموراي المجيد. ونعرف أن 
يوكيو ميشيما (1925 ~ 1970) أشهر كُتّاب اليابان بعد الحرب انتحر بطريقة "الهاراكيري" في عام 1970.
اكتسبت "الهاراكيري" مقوماتها ومجدها الشهير في عصر الحرب الأهلية التي استمرت ثمانين عاماً من أواخر القرن الخامس عشر إلى أواخر القرن السادس عشر. وبعد انتهاء الحرب الأهلية وتوحيد البلاد تحت قائد واحدة تغيرت الهاراكيري قليلاً. فبعد أن كان الأصل أن الساموراي المهزوم وخاصة القائد يُقْدم على الانتحار بطريقة الهاراكيري خوفاً من أن يقع أسيراً في يد أعداءه ويعدم ذبحاً وهو ما كان يعتبر عاراً كبيراً بالنسبة للساموراي، أصبحت أسباب الهاراكيري متنوعة، كأن يُقْدِم الساموراي المنهزم على الهاراكيري بدافع تحمل مسئولية الهزيمة. أو لكي يلحق بقائده الذي قُتل في المعركة، أو لكي ينال نفس الشرف الذي ناله رفيقه المنتحر، أو لكي يعلي من شأن عائلته بهذا الشرف .. إلخ. ثم صارت الهاراكيري طريقة من طرق الحكم بالإعدام وخاصة في عصر إدو ضد الساموراي. ولكن يبقى السبب الأكثر شهرة وكثرة هو قطع البطن "الهاراكيري" دليلاً على تحمل مسئولية الهزيمة أو الخطإ أو لمسح العار الذي يلحق بالشخص المنتحر. وهناك كلمة نقد شديدة القسوة لا تقال إلا في أشد حالات الغضب والانفعال، ألا وهي "اقطع بطنك"، تقال لشخص ما لحثه على وجوب تحمل مسئولية الخطإ أو ضرورة الإحساس بالندم والعار مما سبّبه عن قصد أو حتى عن خطإ وإهمال. وسرعان ما يندم قائلها لأنه يعلم أنها كلمة لا يجب أن تقال تحت أي ظرف كان.
إذاً الانتحار في اليابان على طريقة الهاراكيري يعني في الماضي أولاً تحمّل المسئولية، ثانياً يمسح الخزي والعار، ثالثاً يمتدح فاعله لأنه قدّم حياته في سبيل ذلك.
رغم اختلاف الأوضاع كثيراً بعد انتهاء عصر الساموراي الذين انقرضوا بعد ثورة ميجي الإصلاحية، إلاّ أنه خلال الحرب العالمية الثانية فوجئ العالم بظهور قوات "الكاميكازيه" التي هي عبارة عن فرق خاصة تقوم بعمليات عسكرية انتحارية ضد الجيش الأمريكي من أجل الإمبراطور الذي يعتبرونه إله ويعتبرون أن بذل النفس من أجله غاية المجد والشرف. وهي عمليات عسكرية أفقدت أمريكا صوابها. فكان أول ما عملت علي تنفيذه بعد احتلالها اليابان هو نزع صفة الألوهية عن الإمبراطور وجعله إنساناً عادياً في عيون اليابانيين، بل ونزع كل سلطاته السياسية وجعله مجرد رمز للدولة "لا سلطة له" كما يقولون. وبسبب هذا الاحتلال اختلفت النظرة إلى الانتحار وزاد البعد عن الثقافة اليابانية الخاصة بذلك بسبب طغيان الحياة المادية الغربية على نمط الكثير من مناحي الحياة، إلاّ أنه لا زال يبقى في أعماق اليابانيين بعضاً من هذه الثقافة التي تمجد تحمل المسئولية، وأن من أخطأ سواء عن قصد أو عن إهمال يجب أن يكفّر عن هذا الخطإ بأية طريقة كانت، وإن انعدمت طريقة الهاراكيري إلا فيما ندر كما هو الحال في حادثة انتحار ميشيما. وبالمناسبة ميشيما انتحر لفشله في حثّ أفراد قوات الدفاع الذاتي على التمرد على الأوضاع الذي أُجبرت عليها اليابان بعد هزيمتها أمام أمريكا وخاصة الوضع المزري للإمبراطور، بعد أن ظل يخطب فيهم حوالي نصف ساعة، فشل في حثهم على القيام بانقلاب عسكري يعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل الحرب. فانتحر بطريقة الهاراكيري وهو يهتف "يعيش جلالة الإمبراطور".
إذاً الانتحار سواء بالهاراكيري أو بوسيلة أخرى هو بصفة عامة فعل ينّم على تحمل المسئولية وينم على الندم والأسف. وفي الماضي كان يمجد من ينتحر لهذه الأسباب.
إذاً الانتحار بسبب اليأس من الحياة أو اليأس من الفقر أو اليأس من المرض .. إلخ هو وإن كان سبباً ظاهرياً في الكثير من حالات الانتحار التي تحدث حالياً، إلاّ أن الواقع يقول إنه لأن اليابانيين لا يؤمنون بالقضاء والقدر، فالمنتحر في أغلب الأحوال يعتقد أنه السبب في كل ما يجري له، وأن هناك حوله الكثيرون الذين يعانون بسببه سواء كانوا أهله أو مرؤسيه أو رؤساءه أو حتى عامة الناس. وأن تخلصه من حياته هو عمل يقتضيه منطق الشرف والأمانة، وإنه بذلك سيريح ويستريح. خاصة أن أغلب اليابانيين الآن يؤمنون بتناسخ الأرواح، وأنه سيولد مرة أخرى في هذه الحياة وسيكون وضعه فيها بناء على أفعاله فيها فإن فعل خيراً فخير، وإن شراً فشر.
ذكرتُ في أول المقالة أن عدد المنتحرين في اليابان فاق الثلاثين ألف شخص للعام التاسع على التوالي. هذه السنوات التسع هي محصلة والمتوقع أن تستمر لفترة، للكساد الاقتصادي الذي تعاني منه اليابان منذ منتصف التسعينات في القرن الماضي وحتى الآن وإن تحسّن الأمر نسبياً مؤخراً. أكثر من عانى من هذا الكساد الاقتصادي هي الشركات الصغيرة والمتوسطة التي وقعت في أزمات مالية متوالية الأمر الذي أدى بالكثير من هذه الشركات إلى إعلان الإفلاس والإغلاق. عدد كبير من أصحاب ومدراء هذه الشركات يقدم على الانتحار عندما يرى أن شركته التي يملكها أو يديرها مضطرة إلى الإفلاس مما يسبب العديد من المآسي للعاملين فيها وأسرهم. على اعتبار أن هذه هي الطريقة التي يعتذر بها عما حدث. وهذا هو السبب الذي جعل عدد المنتحرين في اليابان يزيد بمقدار أكثر من عشرة آلاف شخص في العام بين ليلة وضحاها. فبعد أن كان متوسط عدد المنتحرين في اليابان في العشرين سنة منذ عام 1978 إلى عام 1997 هو 22,523 شخص في العام، أصبح متوسط العدد منذ عام 1998 وحتى العام الماضي هو 32,501 شخص في العام الواحد. ويرى الخبراء أن الأزمة الاقتصادية التي حدثت بعد انتعاش اقتصادي مبالغ فيه وقع بشكل فجائي هي السبب الرئيسي في هذه الزيادة. للأسباب التي تحدثنا عنها.
الانتحار في الأديان السماوية وخاصة الإسلام محرّم بإطلاقه. لأن حياة الإنسان هي هبة من الخالق الذي نفخ فيه من روحه، ولذا لا يحق للإنسان أن ينهي هذه الحياة التي لا يمتلكها في الواقع، وإن كان له الحرية الكاملة على أفعاله، إلا أنه سيجازى على ذلك الجزاء الأوفى. ولكن هناك من يقول "إنه لا يوجد نص صريح في القرآن يُحرّم الانتحار، وإن كان هناك أمر بعدم اليأس من رحمة الله. إلا أن الانتحار ندماً أو الانتحار تحملاً للمسئولية يختلف في الواقع عن اليأس من رحمة الله."
وهناك قصة في التاريخ اليهودي تثير الانتباه وهي ما تُسمى قصة الماساداه.
"وقصة الماساداه تتلخص في أنه بعد أن دمّر الرومان مملكة القدس اليهودية في عام 70 بعد الميلاد لجأت جماعة تتجاوز ألف شخص من غلاة اليهود المتعصبين لديانتهم إلى جبل الماساداه المطل على البحر الميت وتحصنوا في أعلاه.الرومان ردوا على ذلك بأن أقاموا سوراً حول الجبل لمحاصرة اليهود الذين رفضوا الاستسلام بعد أن دُمرت مملكتهم.وفي سنة 73 ميلادية أرسل الإمبراطور الروماني فرقة عسكرية للقضاء على اليهود المتحصنين بالجبل.
وعندما أدرك اليهود أنهم خاسرون في تلك المواجهة، اتخذوا قراراً بالانتحار الجماعي ولكن لأن الانتحار مُحرّم في الديانة اليهودية، أمر كبيرهم اليعازر بن يائير عشرة منهم بقتل الآخرين، ثم قتل واحد من العشرة التسعة الآخرين، ثم انتحر."
(بالنص عن مقالة لأمير العمري من موقع بي بي سي بالعربي)
وهذا بالضبط ما كان يحدث في الهاراكيري، إذ أن الشخص المنتحر في الأغلب الأعم كانت تطير رأسه قبل أن يقطع أحشائه، للتردد الذي يصيبه في اللحظة الأخيرة، أو لاستعجال الشخص المكلف بقطع الرأس لكي يخفف عن المنتحر الآلام. وليس هناك أي شك في أن ما حدث في الماساداه إن كان حقيقياً فهو انتحار جماعي حتى لو لم يتم بيد المنتحر. يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: "وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم باتِّخَاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ."
(البقرة آية 54)
والله أعلم.

الأحد، 19 مايو 2013

حرب مع البلدية المجاورة


حرب مع البلدية المجاورة
بقلم: ميسرة عفيفي
فجأة وبدون أية مقدمات تنشب حرب شرسة بين مدينتين متجاورتين في أحد أقاليم اليابان. هذا هو محتوى الرواية التي حازت على جائزة العمل الأول لمجلة سوبارو الأدبية في دورتها السابعة عشر لعام 2004. المؤلف أكي ميساكي وُلد عام 1970 في مدينة فوكوأوكا بأقصى جنوب اليابان، تخرج من قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة كوماموتو. وكما ذكرنا هذا هو العمل الروائي الأول له.
تقع الرواية في 196 صفحة وصدرت الطبعة الأولى لها في يناير 2005. (في اليابان غالباً ما يُنشر العمل على شكل حلقات في إحدى المجلات الأدبية أو الجرائد ثم يُطبع في كتاب بعد ذلك، وفي حالة العمل الأول يشترك العمل في مسابقة تسمى مسابقة العمل الأول، وإذا حصل على إحدى الجوائز تصبح الجائزة هي جواز المرور للنشر.)
يعلم كيتاهارا الذي يعمل موظفاً في شركة بنشوب الحرب بين المدينة التي يسكن فيها والتي اختارها للسكن، فقط لقربها من محل عمله، وبين جارتها بطريق الصدفة وبشكل غريب، إذ يقرأ إعلاناً في النشرة الإعلامية النصف شهرية التي تصدرها بلدية المدينة يقول إن حرباً ستنشب بين هذه المدينة والمدينة المجاورة. وعلى الطريقة اليابانية مكتوب موعد محدد باليوم والساعة لبدء الحرب وكذلك نهايتها المتوقعة. لا يهتم كيتاهارا بالموضوع كثيراً، بل إنه وحتى بعد الموعد المحدد لبداية الحرب لا يرى ولا يحس بأن هناك أية حرب دائرة بين المدينتين، خاصة أنه يخترق المدينة المجاورة بسيارته يومياً في ذهابه وإيابه من العمل. إلا أنه يكتشف من خلال النشرة الإعلامية أن الحرب فعلاً دائرة وعدد ضحاياها من مدينته فقط وصل إلى 12 فرد قُتلوا في العشرة أيام الأولى للحرب.
ثم يفاجأ كيتاهارا بخطاب من البلدية يطلب منه أن يعمل مراسلاً للمعلومات لصالح مدينته. يحاول أن يتهرب من قبول هذه المهمة إلا أنه في النهاية يقبل عندما يجد أن الموضوع لا يزيد عن إخبار البلدية بما يشاهده أثناء مروره بالمدينة المجاورة عند ذهابه وإيابه من عمله. لكنه يُفاجأ عندما يقرأ النشرة الإعلامية التالية أن عدد القتلى من مدينته وصل إلى 53 قتيل في الأسبوعين الآخيرين.
أين تدور هذه الحرب؟ وكيف لا يشعر بها ولا يرى لها أثراً في حياته اليومية؟ وهل المعلومات التافه التي يرسلها إلى البلدية تتسبب في قتل أحد؟! موظفة البلدية المسئولة عن الاتصال به أبلغته أنهم في البلدية يشكرونه على ما يقدمه من معلومات. بل أنه لا يعرف ولا يمكن أن يفهم السبب وراء قيام الحرب أصلاً. يكاد كيتاهارا أن يجن.
في أحد الأيام يأتي تليفون في منتصف الليل من كوساي الموظفة المسئولة في البلدية لتقول له إن البلدية قررت إرساله في مهمة استطلاعية لأرض العدو. أرض العدو هذه يُراد بها المدينة المجاورة التي لا تبعد سوى دقائق بالسيارة. وتأخذ العملية الاستطلاعية هذه شكل الزواج الشكلي من كوساي الموظفة بالبلدية والانتقال إلى عش الزوجية في المدينة المجاورة. حتى بعد الانتقال للمدينة المجاورة لا يرى كيتاهارا أي أثر للمعارك أو القتال. المدينتان وسكانهما في حالة طبيعية جداً.
لكن في وقت متأخر من ليل أحد الأيام يأتيه تليفون من زوجته التي لا زالت في عملها تخبره أنه جاءتهم معلومات تفيد حدوث تفتيش على المنزل من قبل أجهزة عسكرية تابعة للعدو تحت مسمى إجراء استبيان لحالة المواطنين، وتطلب منه سرعة الهروب من المكان حاملاً معه كل الملفات والوثائق السرية التي توجد في غرفتها.
لأول مرة يشعر كيتاهارا بطعم الحرب ويقضي ليلة هي الأولى والأخيرة التي يمكن أن يتذوق فيها الإحساس بخوض حرب فعلية وليس من خلال الكلام فقط. تظل كوساي على اتصال به من خلال التليفون الجوال لتعطيه تعليمات تساعده في الهرب من المدينة المجاورة إلى مدينته حيث توجد هي. وبالفعل ينجح كيتاهارا في الوصول إلى حدود مدينته بعد أن حصل على مساعدة أفراد من المدينة الأخرى يعملون كجواسيس لصالح مدينته. ومن هذه الحدود تأتي سيارة فارهة تقودها كوساي وبها كبار موظفي البلدية تنقله إلى مقر البلدية. ومع وصوله إلى البلدية تشرق الشمس لتعلن بداية يوم جديد فيذهب إلى عمله ثم يعود منه إلى الشقة التي هرب منها في الليل ليمارس حياته كما هي قبل التفتيش لكن بعد أن أخلى المكان من أي وثيقة يمكن بها محاسبته. لكن هذه الليلة التي شعر فيها كيتاهارا بطعم الحرب، لم تكن كما توقعها. أي نعم لقد ظل طوال الليل هارباً من شيء ما لكنه لم يشاهد هذا الشيء فعلياً كل ما هنالك أن كوساي على الطرف الآخر من الهاتف تسأله عن ما يشاهده فيقول لها مثلاً أنه يرى من بعد أنواراً داخل النفق المؤدي إلى مدينتهما فتطالبه بالهرب السريع لأن هذا يعني أن داخل النفق حملة تفتيشية من الجهة العسكرية المسئولة في المدينة المجاورة. لم يرى كيتاهارا على أرض الواقع أي شيء يمكن أن يشير إلى وقوع قتال في أي مكان مر به. ولم يسمع حتى أي صوت يمكن اعتباره صادراً عن معارك. حس كيتاهارا لذلك بخيبة أمل دفينة في داخله.
كما بدأت الحرب فجأة تنتهي فجأة من خلال تليفون من كوساي تخبره فيه أن الحرب قد انتهت وبالتالي انتهت مهمته الاستطلاعية في أرض العدو ويمكنه بعد الانتهاء من الإجراءات أن يعود إلى بيته الأصلي.
وفي الموعد المحدد وهو الحادي والثلاثون من مارس تنطلق ضربات المدفع من مقر البلدية لتعلن انتهاء الحرب بشكل رسمي. يقول كيتاهارا في نفسه أن أول مرة يسمع فيها صوت إطلاق النيران هي التي تعلن نهاية الحرب.
رواية غريبة الشكل غريبة الفكرة. الحديث عن الحرب في اليابان ينحصر في الكلام عن الحرب العالمية الثانية التي انتهت بهزيمة اليابان واحتلالها بواسطة جيش الحلفاء وإقرارها لدستور سلمي يتخلى عن اللجوء إلى الحرب كوسيلة لحل النزاعات ويرفض امتلاك الدولة لجيش.
أما أن تعود الحرب بهذا الشكل الإقليمي بين مدينة وجارتها فهو ما يدخل ضمن تصنيف الخيال العلمي. لكن الرواية غارقة في الواقعية باستثناء الفكرة كل التفاصيل فيها تُبنى على أرض الواقع الحالي لليابان.
من وجهة نظري الشخصية الرواية تريد أن تناقش نقطتين رئيسيتين، الأولى هي استسلام الشعب الياباني التام للبيروقراطية ولأوامر طبقة التكنوقراط التي تقرر كل شيء في حياة الشعب دون أن يعترض أحد، حتى لو قررت الحرب على الجيران. فحتي بطل الرواية الذي يرفض نظرياً قبول منطق الحرب نجده يستسلم للأمر الواقع ويشارك فيها أسوء أنواع المشاركة. مواطني المدينة عندما يحضرون اجتماع لشرح أسباب انتشار الحرب وتداعياتها على حياتهم لا يصدر منهم صوت يتسائل عن سبب وجدوى الحرب وهل لم يكن هناك سبيل غيرها. بل نجدهم على العهد بهم يسألوا عن ساعات القتال التي قرر أن تكون من التاسعة صباحاً إلى الخامسة مساءً وهل يمكن تفادي موعد عودة التلاميذ من مدارسهم أم لا. أو من يستفسر عن التعويضات لمن يتضرر من الحرب كأن يكسر زجاج النافذة أو أشياء من هذا القبيل. شئ لا يصدقه عقل ولكن بالفعل هذا هو الحال إذا ما قررت البلدية أن تنفذ مشروعاً ما في داخل نطاق المدينة كأن تبني جسراً أو تسوي طريقاً. لكن هل فعلاً سيصل الأمر إلى التعامل مع الحرب بذات المنطق؟
النقطة الثانية التي يريد المؤلف عرضها هي قضية الحرب ذاتها. بتصغير حالة الحرب إلى حجم مصغر لها بين مدينتين صغيرتين يتضح عبثية الحرب ولا معقوليتها. وإنها أولاً وأخيراً تتم بناء على رغبة فئة محدودة هي المستفيدة من قيام الحرب. ولكن من أجل إعطاء شرعية لهذا العمل الإجرامي تبذل هذه الفئة، وهي هنا طبقة التكنوقراط كل ما في وسعها لتضليل الناس وإشعارهم أن هذه الحرب ضرورية لهم للحفاظ على الرفاهية التي هم عليها الآن. وأن بذل النفوس في سبيل ذلك شئ لا مفر منه. بل أنهم يقدمون الحرب كمشروع استثماري سيجلب الخير والرخاء للناس.
لا زالت الرواية تثير العديد من النقاش والإعجاب في اليابان. واحتلت بعد صدورها في كتاب مرتبة عالية في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الأسواق.