بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 27 أبريل 2023

الخوف على الوطن تأليف: يوكيو ميشيما ترجمة: ميسرة عفيفي

الخوف على الوطن

تأليف: يوكيو ميشيما

ترجمة: ميسرة عفيفي

١

في الثامن والعشرين من شهر فبراير للعام الحادي عشر من عصر ميجي١ (أي في اليوم الثالث من وقوع حادث ٢٦ فبراير)، أمسك الملازم أول شينجي تاكياما، الضابط العامل بقوة كتيبة «كونوئه» للنقل بسيفه العسكري، وانتحر ببَقْر بطنه طبقًا لطقس السيبوكو في الغرفة ذات القطع الثمانية من حصير التاتامي من مسكنه الخاص، الواقع في أوباتشو بالتجمع السادس بحي يوتسويا، بعد أن عانى طويلًا عندما عرف بعد الحادث أن زملاءه المقربين كانوا مع المتمردين منذ البداية، فضلًا عن سخطه لاحتمال اقتتال قوات الجيش الإمبراطوري فيما بينها. ولحقت به زوجته ريْكو بطعن نفسها بخنجرها الصغير. كانت وصية الملازم أول مكوَّنة فقط من جملة وحيدة هي: «عاش الجيش الإمبراطوري.» أما وصية زوجته، فبعد الاعتذار عن عقوقها لوالديها بسبقهما إلى الموت، كتبت: «لقد جاء اليوم المحتوم مجيئه لي كزوجة رجل عسكري.» وكانت اللحظات الأخيرة لهذين الزوجين المخلصين حَرِيَّة بجعل الشياطين أنفسهم يبكون. وتجدر الإشارة إلى أن الملازم أول مات في الثلاثين من عمره، وزوجته في الثالثة والعشرين، وأنه لم يمر على حفل زواجهما ستة أشهر.

٢

أولئك الذين شاهدوا فقط صورة العروسين، وكذلك بالطبع الذين حضروا حفل العرس، تهامسوا بكلمات الإعجاب لشدة جمال العروس ووسامة العريس. بدا الزوج مهيبًا في الزي العسكري حاميًا عروسه، يضع يده اليمنى على سيف الجيش، ويحمل بيده اليسرى قبعته العسكرية التي خلعها. وتوضح بحق تعبيرات الشهامة على ملامح وجهه الحاسمة، بدءًا من الحواجب القاتمة، والعينين المفتوحتين جيدًا، فضلًا عن سريرته النقية وصفاء قلبه. وأما جمال العروس في رداء العُرس الأبيض؛ فلم يكن له مثيلٌ. فقد عكست العيون المستديرة الجذابة تحت الحواجب الحنونة، والأنف الجميل النحيل، والشفاه المكتنزة، الأصلَ السامي والحس الراقي. وتبدو أطراف الأصابع التي تظهر خلسة من أكمام الرداء ممسكة بالمهفَّة، والتي تضعها مضمومة بنعومة، تبدو مثل برعم زهرة مجد الصباح.

بعد انتحارهما، كان الناس كثيرًا ما يخرجون هذه الصورة ويتأملونها، ويعربون عن حزنهم من أن ارتباط مثل هذين العروسين اللذين لا يشوب حسنهما شائبة يكون أحيانًا نذير شؤم. عند النظر للأمر بعد حدوثه، يبدو بشكل ما كما لو أن العروسين، الواقفين أمام الساتر الذهبي، يحدقان كليهما بتساوٍ بعيون صافية لا ترنو إلى الموت، الذي يبدو مستشرفًا وكأنه ماثلٌ بقربهما.

سكن الاثنان بيتًا جديدًا في منطقة أَوباتشو بحي يوتسويا بعد أن توسط عرَّابهما الفريق أوزيكي لهما. ورغم قولنا «بيت جديد»؛ فلم يزد عن كونه منزلًا قديمًا بالإيجار بحديقة صغيرة، به ثلاثُ غرف؛ ولأن الغرفتين في الطابق السفلي لا تدخلهما الشمس فقد استخدما غرفة النوم الكبيرة في الطابق العلوي كغرفة استقبال للضيوف، ولم تكن توجد لديهما خادمة؛ لذا كانت ريْكو وحدها هي التي تحرس المنزل في غياب زوجها.

وتم الاستغناء عن رحلة شهر العسل بسبب حالة الطوارئ التي يمر بها الوطن. ولذا قضيا أول ليلة بعد الزواج في منزلهما هذا. ليلتها قبل الدخول إلى فراش النوم، وضع شينجي سيفه العسكري أمام ركبتيه. وكعسكري منضبط ألقى تنبيهاته، مَن تصبح زوجة لرجل عسكري، لا بد لها أن تتوقع وتتقبل موته في أي وقت. يمكن أن يكون ذلك غدًا، ويمكن أن يكون بعد غدٍ. ولكنْ بغَضِّ النظر عن موعده، إذا جاء الموت، سألها: هل هي على استعداد لتقبل ذلك دون اضطراب؟ وقفت ريْكو على قدميها، وفتحت درج الخزانة، وأخرجت منه أهم ما تعتني به من جهاز العروس، وهو الخنجر الذي أعطته لها أمها، ووضعته وهي صامتة أمام ركبتَيْها كما فعل زوجها. وبهذه الطريقة تحقق التفاهُم الصامت بينهما بشكل كامل، ولم يحاول الزوج بعد ذلك التأكد من استعداد زوجته هذه مرة أخرى.

بعد مرور أشهر قليلة على الزواج، نضج جمال ريْكو ليكون أكثر لمعانًا وأكثر وضوحًا مثل القمر بعد زوال الأمطار.

ولأنهما كانا يمتلكان جسدين يمتلآن حيوية وشبابًا، فقد كانت المعاشرة الزوجية بينهما ملتهبة، لا تقع في الليل فقط. بل في كثير من الأحيان كان الزوج لا يصبر حتى على خلع ملابسه العسكرية المتسخة بالأتربة والطين؛ بسبب التدريبات العسكرية، فيدفع زوجته إلى الأرض بمجرد عودته إلى المنزل. وكانت ريْكو كذلك تتجاوب معه بحماس. بعد مرور حوالي شهر أو أقل على الليلة الأولى لزواجهما عرفت ريْكو معنى اللذة، وسعد زوجها كذلك عندما عرف ذلك.

جسد ريْكو أبيض وقور؛ فالثدي النافر مع ما يظهره من رفض طاهر وقوي للغاية، بمجرد أن يستقبلك لمرة، يفيض بحرارة كعش طير هادئ. كانا في الفراش، في منتهى الجدية والصرامة لدرجة مرعبة. جديان وسط الفعل الفاضح الذي يتزايد صخبًا وعنفًا.

كان الزوج يفكر في زوجته في أوقات الراحة القليلة التي يحصل عليها بين تدريبات النهار، وكذلك كانت ريْكو تتبع ظل وجه زوجها طوال اليوم. ولكنها حتى عندما تكون بمفردها، كانت تتأكد من سعادتها عندما تتأمل صورة الزفاف. لم تكن ريْكو تشعر بأي غرابة إطلاقًا في أن رجلًا كان منذ أشهر قليلة مضت لا يزيد عن كونه مجرد عابر سبيل، يصبح شمس كونها كله.

فهذا كله من الأخلاق الحميدة، ويحقق تعاليم «توافق الزوجين» المذكورة في الإرشادات التربوية لجلالة الإمبراطور. فلم يسبق لها أن ردَّت كلمةً لزوجها ولو مرة واحدة، وكذلك لم يجد الزوج أي سبب ولو ضئيلًا لتوبيخ زوجته. في الطابق السفلي، يزين المذبح المقدس صورة لجلالة الإمبراطور وجلالة الإمبراطورة مع لوحة لمعبد كوتاي. ويوميًّا قبل الذهاب إلى العمل يحني الزوج وزوجته معه رأسيهما بعمق أمام المذبح المقدس. ويتم تغيير ماء القربان كل صباح، ودائمًا ما تكون أغصان شجرة «الساكاكي» خضراء وجديدة؛ فكل هذا العالم محمي بسلطة الإله المهيبة، بل وتفيض في جميع جوانبه سعادة تجعل الجسد يقشعر.

٣

على الرغم من وجود قصر الوزير سايتو مجاورًا لمنزلهما، فإنهما لم يسمعا أي صوتٍ لإطلاق النار صباح يوم السادس والعشرين من فبراير. ولكن بعد انتهاء المأساة التي استغرقت عشر دقائق، خرق نومةَ الزوج صوتُ بوق التجمع الذي انطلق في الفجر المظلم الذي يتساقط فيه الجليد. قفز الزوج من فوق فراشه في قفزة واحدة، ودون أن ينبس بكلمة واحدة، ارتدى زيه العسكري، وتقلَّد (امتشق) سيفه الذي قدمته له زوجته، وخرج في عجَل إلى الشارع وسط الثلوج في صباح لم يكتمل شروقه بعد. ولم يعُد لمنزله حتى مساء الثامن والعشرين من فبراير.

ولم يمر الكثير من الوقت حتى علمت ريْكو من خلال نشرة أخبار المذياع تفاصيل هذا الحادث المفاجئ كاملة. وعلى مدى يومين كاملين بعد ذلك عاشت ريْكو بمفردها في هدوء تام وراء الأبواب المغلقة.

قرأت ريْكو في صمت وجه زوجها الذي سارع إلى الخروج في ثلوج الصباح، إصراره المسبق على الموت. وكانت على أتم الاستعداد للموت لحاقًا بزوجها في حالة عدم عودته حيًّا كما خرج. وبهدوء تام كانت قد استعدت للتصرف في ممتلكاتها الشخصية. اختارت عددًا من زميلات الدراسة لإهدائهن عددًا من الكيمونو المخصص للزيارات كتذكار منها لهن، وكتبت اسم كل واحدة منهن وعنوانها على ورق التغليف لكل منها. ولأن زوجها كان يقول لها باستمرار في الأيام العادية ألا تفكر في الغد، فلم تكن تسجل يومياتها؛ ولذا فقدت ريْكو متعة إعادة قراءة يوميات تلك الأيام السعيدة في الأشهر الماضية بتمعُّن ثم إلقائِها في النيران. كان يوجد بجانب المذياع فخاريات صغيرة الحجم لكلب وأرنب وسنجاب ودب وثعلب. بالإضافة لذلك كانت توجد مزهرية صغيرة من الفخار وجرَّة ماء. تلك كانت كل ما تملكه ريْكو من مقتنيات. ولكن إعطاء مثل هذه الأشياء كتذكار أمر لا جدوى منه. ولا تصل قيمتها إلى حد وضعها معها في التابوت. عند ذلك بدا لها أن تلك الحيوانات الفخارية الصغيرة بدأت تمتلئ بملامح الحزن والوحدة.

أخذت ريْكو السنجاب في يدها، وبدا لها في الأفق البعيد لتشبُّثها الطفولي بهم ما يشبه عدالة كالشمس التي يجسدها زوجها. فرغم أنها قد قررت التضحية بنفسها بمنتهى السعادة مع الشمس المشعة، فإنها انغمست بمفردها لسويعات معدودة في ذلك التشبُّث الطفولي البريء. فقد أحبت تلك الأشياء بحق في الماضي فقط. أما الآن؛ فهي لا تحب سوى ذكريات حبها هذا لتلك الأشياء؛ فقلبها يمتلأ بأشياء أكثر عنفًا وسعادة أكثر جنونًا. بل إن ريْكو لم تفكر أبدًا أن تطلق ولو مرة واحدة على اللذة الجسدية التي تأتي مرتجفة ليلًا ونهارًا مجرد اسم المتعة. تختزن أصابع اليد الجميلة برودة ملمس السنجاب الفخاري الذي يشبه الثلج، علاوة على برودة شهر فبراير. ولكن حتى أثناء ذلك، عندما تتذكر لحظة امتداد ذراع زوجها القوي إليها عند الأكمام، تحت ذات الكيمونو الحريري الذي ترتديه الآن بإحكام، تحس ريْكو بطراوة لحم الجسد الساخن الذي يذيب الجليد.

إنها لم تكن تخاف على الإطلاق من الموت الذي يطفو على وعيها، بل إن ريْكو وهي تنتظر وحدها في المنزل، تؤمن بقوة أن ما يحسه زوجها الآن، وما يفكر فيه، رغباته، ومعاناته، وتفكيره كله سيقودها إلى موت ممتع بالضبط كما كان يفعل جسد زوجها تمامًا. تؤمن أن جسدها يمكن أن يذوب بسهولة في أي قطعة من قطع تلك الأفكار.

هكذا كانت ريْكو تسمع بحرص نشرة الإخبار كل ساعة من المذياع، وعرفت أن عددًا من أصدقاء زوجها الحميمين كانت أسماؤهم من بين الذين قاموا بالهبَّة. كان ذلك خبر الموت! عرفت الأحداث بتفاصيلها وأنها يومًا بعد يوم تأخذ شكلًا لا يمكن التهاون معه، وربما يصدر مرسومٌ للإمبراطور بين لحظة وأخرى، وأن الهبَّة التي كان يُعتقد أنها قامت في البداية من أجل الإصلاح والثورة، كانت في سبيلها إلى الوصم باسم التمرد سيئ السمعة. لم يكن هناك أي اتصال من الفوج. لا أحد يعلم متى يبدأ القتال في طرقات المدينة التي تغطيها الثلوج.

وفي وقت غروب شمس يوم الثامن والعشرين من فبراير، سمعت ريْكو، وهي تشعر برعب هائل، صوت طرق عنيف على الباب. اقتربت مسرعة ثم فتحت القفل بيد ترتعش. وقد عرفت دون كلام، أن الظل الماثل وراء الزجاج المصقول هو زوجها بلا أي شك. ولم تشعر ريْكو أن الباب المنزلق عسير في فتحه إلى هذه الدرجة قبل الآن. من أجل ذلك كان المزلاج عنيدًا في يدها، واستغرق وقتًا طويلًا في فتحه.

قبل أن يُفتح الباب حتى آخره، كان زوجها يقف على الأرضية الأسمنتية بمدخل البيت، مرتديًا المعطف الكاكي، ومنتعلًا الحذاء الطويل الذي أثقله طمي وثلج الطريق. وبمجرد أن أغلق الباب وراءه، أعاد المزلاج مرة أخرى إلى ما كان عليه من إغلاق. ولم تفهم ريْكو ما مغزى ذلك.

«عودٌ حميد إلى بيتك.»

انحنت ريْكو عميقًا وهي تقول ذلك، ولكن زوجها لم ينبس بأي رد. بل نزع سيفه العسكري، ثم بدأ في خلع المعطف؛ فاستدارت ريْكو خلفه لتساعده. انزلق المعطف البارد والرطب والذي فقد الرائحة العفنة لروث الخيل بعد تعرُّض لأشعة الشمس، بثقله بين ذراعيها. علقته في المشجب الخاص به، ثم احتضنت السيف وتبعت زوجها الذي كان قد خلع حذاءه الطويل، وصعد إلى غرفة المعيشة. إنها الغرفة الصغرى في الطابق السفلي.

كان وجه زوجها الذي رأته في ضوء واضح من المصباح، تغطيه لحية قد نمت قليلًا، وقد نحف حتى بدا كأنه شخص آخر. كانت خدوده قد تجوفت وفقدت بريقها ونضارتها. ورغم أنه عندما يكون في حالته المعنوية الطبيعية عندما يعود إلى المنزل (يبدِّل ملابسه العادية بزيه العسكري على الفور، ثم يطالب بسرعة إعداد طعام العشاء) فإنه يجلس الآن متربعًا في زيه العسكري محني الرأس أمام «الطبلية». امتنعت ريْكو عن سؤاله إذا كان ينبغي لها إعداد طعام العشاء.

بعد فترة تحدث الزوج: «لم أكن أعرف شيئًا. إنهم لم يعرضوا عليَّ الأمر. على الأرجح إنهم جميعهم، هونما وكانو وياماغوتشي، أشفقوا عليَّ لأنني كنت عريسًا جديدًا.»

لاحت على ذاكرة ريْكو وجوه أصدقاء زوجها الحميمين الذين كانوا يأتون مرات ومرات لزيارتهما في منزلهما هذا. هؤلاء الضباط الشبان الممتلئون حيوية ونشاط.

«سيصدر في الغد على الأرجح المرسوم الإمبراطوري. على الأرجح سيتم وصفهم باسم المتمردين سيئي السمعة، وسيكون من الواجب عليَّ قيادة جنودي وضربهم بالنار. أنا لا أستطيع فعل ذلك. ليس لديَّ القدرة على فعل شيء كهذا.»

ثم أضاف: «لقد أُمرت بتبديل الحراسة الآن، وسُمِح لي بالعودة إلى منزلي هذه الليلة لمدة ليلة واحدة. وبدون شك في صباح الغد، سيكون من المحتم عليَّ الخروج لإطلاق النار عليهم. ولكن أنا لا أستطيع فعل ذلك. أتفهمين؟!»

خفضت ريْكو الجالسة عينيها. لقد فهمت بوضوح أن زوجها لا يتحدث إلا عن شيء واحد بالفعل، وهو الموت. قرار الزوج محسوم بالفعل، وشبح الموت يؤكد كل كلمة من كلماته. ومن أجل هذا البرهان الأسود الصلد، تبرز في الكلمات قوة متينة غير قابلة للزعزعة. على الرغم من أن الزوج كان يتحدث عن المعاناة، فإنه لا توجد هناك أية حيرة أو تردد.

ولكن أثناء ذلك وفي فترة الصمت تلك، كان يوجد صفاء وبرودة مثل تيار نهر لذوبان الثلوج. أخيرًا يشعر الزوج براحة قلبية لأول مرة، وهو جالس في بيته أمام وجه زوجته الجميل، بعد محنة ومعاناة طويلة استمرت ليومين كاملين؛ لأنه قد عرف على الفور أن زوجته فهمت القرار الذي اتخذه، حتى ولو لم يقُلْ ذلك بشكل مباشر.

– «اسمعي.»

فتح الزوج عيونه الجسورة الصافية رغم تواصل الأرَق، ونظر لأول مرة مباشرة في أعين زوجته، ثم قال: «سأبقر بطني الليلة.»

لم يرتد طرف ريْكو، ولو للحظة واحدة.

وأنشدت عيناها النجلاوان الجميلتان مثل رنة جرس قوية، وقالت: «لقد أعددت نفسي، أريد أن أرافقك.»

أحس الزوج أنه تقريبًا قد انسحق من قوة تلك العينين. تدفقت كلماته بسرعة وبسهولة، مثل كلمات الهذيان، ولم يدرِ كيف عبر عن هذا الإذن ذي الأثر الهائل بتلك الكلمات المستهترة.

– «حسنًا. لنذهب معًا. ولكن أريدك أن تشاهدي انتحاري أولًا. أتفهمين؟»

بعد أن انتهى من قول ذلك، غمر قلبيهما معًا نوعٌ من أنواع السعادة التلقائية التي أطلق سراحها فجأة.

تأثرت ريْكو بشدة لعظمة ثقة زوجها بها لتلك الدرجة. بالنسبة للزوج فمهما كان الأمر، فقد كان من المحتم ألا يتخطاه الموت؛ لذا فقد كان لا بد من وجود من يتأكد من ذلك ويشاهده. واختياره لزوجته لكي تقوم بهذا الدور هو أول درجات ثقته بها. وثاني درجات الثقة هو أنه ورغم تعهدهما بالانتحار معًا؛ فإنه لم يقتل زوجته أولًا، بل ترك موتها ليحدث في المستقبل الذي لن يستطيع هو التأكد منه. لو كان الزوج يشك فيها، لاختار أن يقتل زوجته أولًا كما يحدث في الانتحار الثنائي العادي.

أحس الزوج أن قول زوجته كلمة «سأرافقك» هي الثمرة الكبيرة لتربيته وإرشاده لها منذ الليلة الأولى لزواجهما، لتنطقها في وقتها المناسب دون تلجلج. ومما أثلج صدره وأرضى كبرياءه، ولكنه لم يكن زوجًا مغترًّا بنفسه لدرجة أن يعتقد أن مشاعر حبها له هي التي جعلتها تقول تلك الكلمة بعفوية من تلقاء نفسها.

انتعشت السعادة بتلقائية بالغة في قلبيهما معًا، فابتسم وجههما بعفوية؛ إذ كان أحدهما ينظر للآخر كذلك. أحست ريْكو أن ليلة الزفاف الأولى عادت مرة أخرى.

ولم تعتقد أنها ترى أمام عينيها لا الألم ولا الموت، بل فقط حدائق غنَّاء شاسعة حرة.

– «مياه الحمَّام قد سخنت وأصبحت جاهزة. هل تأخذ حمامك الآن؟»

– «آه، نعم!»

– «وطعام العشاء؟»

كانت تلك الكلمات في الواقع قد انطلقت في نبرة عائلية عادية تمامًا؛ مما جعل الزوج على وشك السقوط في مرحلة خداع وَهْمي.

– «ألا تعتقدين أننا لسنا بحاجة للطعام؟ يكفي أن تجهزي أقداح الخمر.»

– «فهمت.»

عندما وقفت ريْكو لكي تخرج الروب ليرتديه زوجها بعد خروجه من الحمام، انتبه الزوج لِما في خزانة الملابس التي فتحتها. وقف الزوج ثم ذهب إلى الخزانة، وألقى نظرة على الدُّرْج المفتوح، ثم قرأ عناوين التذكارات المكتوبة على الأغلفة واحدًا تلو الآخر. لم يشعر الزوج الذي وضحت له بهذه الطريقة استعدادات زوجته البسيطة، بأي حزن ولو ضئيلًا، بل امتلأ قلبه بمشاعر مسكرة. مثل زوج أرته زوجته الشابة مشترياتها بشكل طفولي. من فرط الحب، احتضن الزوج زوجته من الخلف ثم قبَّلها في عنقها.

أحست ريْكو بخشونة ذقن زوجها غير الحليق على عنقها. كان ذلك الإحساس بالنسبة إلى ريْكو إحساسًا واقعيًّا، من حيث كونه إحساسًا ينتمي لهذا العالم الدنيوي. ولكن شعور أنها ستفقده للأبد خلال لحظات، جعله طازجًا بدرجة كبيرة للغاية. وكان لكل لحظة قوتها الحيوية التي توقظ الحواس من جديد في كل ركن من جسدها. تلقت ريْكو مداعبات زوجها الحنونة من الخلف، وهي تكمن قوتها في أطراف أصابع قدميها التي ترتدي فيها الجورب.

– «بعد الانتهاء من الاستحمام، وبعد تناول بعض الخمر. أتفهمين؟ جهزي الفراش في الطابق العلوي.»

همس الزوج بهذه الكلمات في أذن زوجته، وأومأت ريْكو برأسها بصمت.

خلع الزوج زيه العسكري بعنف وعجلة، ثم دخل الحمام. نظرت ريْكو لدى سماعها لصوت الماء بعيدًا لدرجة النار في منقل الفحم في غرفة المعيشة، ثم وقفت لتُعد الخمر.

ثم ذهبت ريْكو إلى الحمام آخذة معها الروب والحزام والملابس الداخلية، وسألت زوجها عن حرارة المياه هل هي مناسبة أم لا. كان الزوج يجلس متربعًا على الأرض وسط البخار المنبعث، ويقوم بحلاقة ذقنه، وبدت لها في ضبابية حركة عضلات ظهره القوية المبتلة وهي تستجيب بحساسية لحركة ذراعيه.

لم يكن ذلك الوقت يشير إلى أي معنًى خاص. تعمل ريْكو الأعمال المنزلية في عجلة؛ لكي تعد أطباقًا سريعة من مقبلات الخمر. يداها لا ترتعشان، بل على العكس تعمل بكفاءة أكبر وسلاسة أكثر من المعتاد. ورغم ذلك، تجري من وقت لآخر نبضات غريبة في أعماق قلبها؛ مثل البرق البعيد، الذي يلمع لحظة بقوة حادة ثم يختفي دون أثَر. وبعيدًا عن ذلك، لم يكن هناك أي شيء خارج عن المألوف.

شعر الزوج وهو يحلق ذقنه في الحمام، أن تدفئة جسده بهذا الشكل قد أزالت تمامًا كل آثار الإرهاق التي نتجت عن التردد والحيرة. ورغم إقباله على الموت فقد كان يشعر بفيض من الأمل والمتعة. يسمع بالكاد صوتًا خفيضًا لتحركات زوجته وهي تقوم بأعمال المنزل؛ مما جعل رغبته الجسدية الطبيعية التي نسيها خلال يومين، تحوم حول رأسه.

كان الزوج واثقًا أنه لا توجد أي شائبة تلوث ذلك الفرح الذي شعر به عندما قرر الاثنان الموت معًا. وكان كل منهما قد أحس في تلك اللحظة مرة أخرى، بالطبع بدون وعي واضح بذلك، أن متعتهما الشرعية التي لا يعرفها أحد غيرهما محمية بعدالة وسلطة إلهية وأخلاقية كاملة بدون أي فجوات. عندما نظر كلاهما في عين الآخر واكتشفا موتًا شرعيًّا بها، شعرا مرة أخرى أنهما محاطان بجدران فولاذية لا يمكن أن تدمر، وأنهما محميان بدرع منيع من الجمال والحق لا يمكن لأحد أن يمسه بسوء. ولذا فقد كان الزوج لا يحس بأي تناقض أو تضاد بين شهوته الجسدية ومشاعر الخوف على الوطن، لا بل إنه استطاع أن يراهما شيئًا واحدًا.

قرب الزوج وجهه تجاه مرآة الحائط المظلمة المشروخة، والتي كثرت بها الضبابية بسبب البخار، واعتنى بحلق لحيته على أكمل وجه؛ فهذا الوجه سيكون هو وجهه بعد الموت. لا يجب أن يترك شعيرات تجعل وجهه مقزِّزًا. الوجه الحليق عاد له لمعان الشباب مرة أخرى لدرجة أنه جعل المرآة المظلمة تسطع. ربما كان جميلًا أن يرتبط الموت بذلك الوجه الصحي المشرق.

هذا سيصير كما هو الآن وجه الموت! لقد صار هذا الوجه بالتأكيد لا يملكه الزوج، وصار وجهًا فوق نصب تذكاري لجندي راحل. جرَّب الزوج أن يغمض عينيه. كل شيء يلفه السواد، ولم يعد بعدُ إنسانًا قادرًا على الرؤية.

عاد الزوج من الحمام، وخدوده اللامعة تشع بزرقة من آثار الحلاقة، ثم جلس متربعًا بجانب منقل الفحم المشتعل جيدًا. وانتبه الزوج إلى أن ريْكو زيَّنت وجهها سريعًا وسط انشغالها بالعمل. تورد الخد وزادت رطوبة الشفتين ولم يعُد هناك أي ظل للحزن. وعندما رأى علامات صفات زوجته الشابة المتَّقدة، أحس بسعادة لأنه اختار حقًّا الزوجة التي كان يجب أن يختارها.

بمجرد أن شرب الكأس ناوله لزوجته. ريْكو التي لم تذُقْ طعم الخمر، ولو لمرة واحدة من قبل، قبَّلَتْه بتلقائية ووضعته على فمِها بشيء من الخوف.

قال الزوج: «تعالَي هنا.»

ذهبت ريْكو إلى جانب زوجها، الذي احتضنها بميل. كان صدرها في هياج عنيف، كما لو أن مشاعر الحزن والفرح اختلطا بتأثير الخمر القوي. نظر الزوج إلى وجه زوجته. هذا هو آخر وجه إنسان، آخر وجه لامرأة، يراه في هذا العالم. تأمَّل الزوج تفاصيل وجه زوجته بدقة، بعيون المسافر الذي يتأمل المناظر الرائعة لبلدٍ لن تراه عيناه مرة ثانية إلى الأبد. الوجه الجميل الذي لا يُملُّ أبدًا من النظر إليه، مع عظيم اكتماله لا توجد به أية برودة، والشفاه مغلقة في خفَّة بقوة ناعمة. قبَّل الزوج تلك الشفاه بدون تفكير. وبعد مرور لحظات عندما انتبه الزوج فوجد قطرات من الدموع تنساب متوالية، وهي تلمع من بين ظلال أهداب العينين الطويلة المغمضة، رغم عدم تشوُّه الوجه بأي قدر من القبح بسبب البكاء.

أخيرًا حث الزوج زوجته على الصعود إلى غرفة النوم في الطابق العلوي، ردَّت الزوجة أنها ستلحق به بعد أخذ حمَّامها. وعندها صعد الزوج إلى الطابق الثاني وحده، ودخل غرفة النوم التي تمت تدفئتها بواسطة مدفئة الغاز. ورقد على الفراش مادًّا ما بين رجليه ورافعًا ذراعيه لأعلى بأقصى حد لهما. وعلى هذا الحال حتى وقت انتظاره قدوم زوجته، لم يختلف عن المعتاد في أي شيء.

عقد ذراعيه أسفل رأسه، وحدق بلا اهتمام في ظلام ألواح السقف التي لا تصلها أشعة المصباح. هل هو ينتظر الموت الآن؟ أم المتعة الجسدية المهتاجة؟ لقد ازدوج الأمران الآن معًا، وأصبح يشعر وكأن الرغبة الجسدية تقوده إلى الموت. ولكن على أي حال؛ فالزوج لم يشعر في حياته قط بمثل هذه الحرية في جميع أعضاء جسده.

تُسمع أصوات السيارات خارج النافذة، صوت دهس إطاراتها للثلوج المتراكمة على أحد جانبي الطريق. ويتردد صدى صوت أبواقها المصطدمة بالسياج القريب. وهكذا عندما يستمع إلى هذه الأصوات، يشعر أن هذا المنزل يقف كالطود الشامخ وكأنه جزيرة منعزلة في خضم بحر المجتمع الهائج الذي لا يكف عن الحركة. الوطن الذي يثير هَمَّه وقلقه يمتد محيطًا بهذا البيت في فوضى كبرى. إنه يضحي بحياته من أجل هذا الوطن، ولكنه وهو يضحي بروحه في سبيل إيقاظ وتحذير هذا الوطن العملاق، لا يدري هل في النهاية سيعطي الوطن لموته ولو نظرة واحدة أم لا؟ ولكنه لا يهمه ذلك مطلقًا؛ فتلك هي ساحة معركة ليس فيها مجد، ساحة معركة لا يقدر أحد على إظهار شجاعته فيها. إنها الخط الأمامي لجبهة الروح.

سُمعت خطوات أقدام ريْكو وهي تصعد درج السلم. درج السلم في هذا البيت القديم يزقزق بشدة. كان الزوج يحن لتلك الزقزقة ولشدة ما انتظر سماعه في الماضي وهو مستلقٍ في الفراش يستمع لتلك الزقزقة الحلوة المذاق. وعندما فكر أنه لن يسمعها مرة أخرى، جعل أذنه في غاية التركيز، محاولًا أن يملأ تلك اللحظات الثمينة لحظة بلحظة بالزقزقة التي ترتفع من باطن قدَم زوجته الناعمة بلا تفريط. كانت تلك اللحظات تطلق أشعة لامعة، وكأنها تحولت إلى مجوهرات.

كانت ريْكو ترتدى كيمونو خفيف بحزام من نوع ناغويا، كان ذلك الحزام الأحمر يبدو أسودَ في الظلام الخافت. وعندما لمسه الزوج بيده، ساعدته يد ريْكو فانزاح الحزام ساقطًا فوق الأرض. حاول الزوج احتضان زوجته كما هي بالرداء واضعًا يديه على جانبيها، ولكن عندما لمست أصابعه لحم جنبها الدافئ، شعر الزوج باشتعال جسده كله؛ بسبب هذه اللمسة.

وفي لمح البصر صار الاثنان عاريين بشكل طبيعي أمام نار مدفئة الغاز.

لم يصرحا بذلك، ولكنَّ قلبيهما وجسديهما وصدريهما المتأججين انفجَرا بالرغبة؛ لعلمهما أن تلك هي آخر مرة. كان كما لو كانت عبارة «المرة الأخيرة» مكتوبة بحبر سري غير مرئي عبر كل ركن من جسديهما.

احتضن الزوج جسد زوجته اليافع بعنف وقبَّلها. لسان كل منهما دخل في فم الآخر السلس ليتأكد من كل ركن فيه. وشعرا كما لو أن تلك المشاعر الملتهبة مثل الصلب الأحمر تدربهما وتصقلهما لتحمل آلام الموت التي لم تظهر بوادرها بعدُ في أي مكان. كانت آلام الموت التي لم يحسَّا بها بعد، تلك الآلام البعيدة هي التي صقلت مشاعر المتعة لديهما.

قال الزوج لزوجته: «هذه هي المرة الأخيرة التي سأرى فيها جسدك، دعيني أتمتع برؤيته جيدًا.»

ثم أمال المصباح ناحيتها، وصب أشعته على امتداد جسد ريْكو الممدد.

كانت ريْكو راقدة على جنبها مغلقة العينين. وأوضحت أشعة الضوء المنخفض تضاريس لحمها الأبيض المهيب. ابتهج الزوج ببعض مشاعر الأنانية؛ لسعادته بأنه لن يضطر أن يرى منظر انهيار هذا الجسد الرائع الجمال أثناء موتها.

نقش الزوج في قلبه ببطء هذا المشهد الذي يصعب نسيانه، يتلاعب بإحدى يديه بشعرها، وباليد الأخرى يداعب في هدوء وجهها الجميل، وهو يقبِّل ما تقع عليه عيناه مرة بعد مرة. من الجبهة الباردة الهادئة التي تشبه جبل فوجي في جمالها، للعيون المغمضة المصانة برموشها الطويلة تحت الحواجب الرقيقة، وسكون الأنف جيدة التكوين، والأسنان اللامعة التي تُلمح خلسة من بين الشفتين المتناغمة ذات السُّمْك الملائم، والخدود الناعمة مع الفك المحكم. كل تلك الملامح تنبئ في الواقع عن وجهها المشرق المشع عند الموت. وأخيرًا امتص عدة مرات بقوة وعنف عنق زوجته التي من المتوقع أن تطعنه بنفسها بعد قليل؛ مما جعل بياضه يتحول إلى حُمرةٍ خفيفة. عاد إلى الشفتين وضغط عليهما برقة، وجعل شفتيه تتحرك مهتزة فوق تلك الشفتين، وكأنها قارب صغير يهتزُّ مع أمواج خفيفة. وعندما أغمض عينيه، أصبح العالم كأنه مهد هزاز.

تابعت شفتا الزوج بإخلاص تحركات عينيه، فتابعتا الثديين اللذين ترتفع فيهما حركة التنفس عاليًا. أمسك الزوج الحلمتين اللتين تشبهان براعم زهور الكرز البري، فانتصبتا عندما وضعهما بين شفتيه. جمال الذراعين اللذان ينسابان بسلاسة لأسفل على جانبي الصدر، ليصلا كما هما بنفس التفاصيل والاستدارة إلى الرسغين. ثم في نهاية ذلك توجد الأصابع الحساسة التي كانت تقبض على المهفَّة في يوم حفل الزفاف. انسحبت الأصابع واحدًا بعد الآخر لتحاول التخفي وراء بعضها البعض حياءً من أمام شفتي الزوج. يُظهر التقوُّس الطبيعي الرباني الذي يصل من الصدر إلى البطن، ويميل بليونته كما هو بواسطة القوة المنطلقة، ومع إيحائه عن المنحنى الغني الذي يمتد حتى الخصر، يُظهر انضباطًا صحيحًا للجسد ليس به إهمال. كان بياض البطن والخصر وثراؤهما اللذان بعدت فجوة بينهما وبين الضوء، يبدوان كأنهما حليب أبيض يملأ وعاء كبيرًا عن آخره. والسرة النقية كانت كأنها أثر مستمر لقطرة مطر سقطت هنا لتصنع بقوة ذلك التكوُّر البارز. يتجمع الشعر بلطف وحساسية في الأجزاء الأكثر كثافة من الظل. ونمت الرائحة التي تشبه عطر زهرة عالية تحترق مع اهتزازات الجسد التي لم تهدأ حتى الآن، ولا يبدو لها أنها ستنتهي.

أخيرًا قالت ريْكو ما يلي بصوت غير مؤكد: «أرني. دعني أنا أيضًا أنظر إليك نظرة وداع.»

لم يسبق مطلقًا أن خرجت الكلمات من فم زوجته تطلب بهذه القوة طلبًا شرعيًّا. ولأنها كانت تُسمع وكأنها انفجار لما ظلَّت تخفيه حتى النهاية بسبب الحياء؛ فقد استجاب الزوج بتلقائية وتمدد نائما تاركا جسده لزوجته. الجسم الأبيض الذي يرتجف أقام جذعه بمرونة، وقد التهب بأمنية محببة. وهي رد كل ما فعله زوجها بجسدها إلى جسده، وقامت بإغماض عيني زوجها اللتين تتأملانها بسحبة من إصبعيها الأبيضين.

احتضنت ريْكو رأس زوجها الذي قصر فيها الشعر حتى مداه، وقد طغَتْ محبته في قلبها فاحتقنت خدودها حتى احمرَّت. شعر زوجها القصير يؤلم ثدييها الذي يلمسه، بينما اندفن أنفه البارد النافر داخل ثدييها، فألهبتهما أنفاسه الحارة. ابتعدت الزوجة لتتأمل هذا الوجه الرجولي عن بُعد؛ الحواجب المُحكمة الشكل، والعيون المغمضة، وأرنبة الأنف النابه، الشفتين الجميلتين المعقودتين في إحكام، الخد المخضر لامعًا في سلاسة يعكس ضوء المصباح بسبب نعومة الحلاقة. قبَّلت ريْكو كل ذلك، ومعه العنق المتضخم، والكتف القوي البارز، الصدر الشجاع القوي الذي وكأنه درعان منتصبان يواجهان بعضهما، وكذلك حلمة الثدي ذات اللون الزعفراني. تفوح من تحت الإبطين اللذين يلاقيان جانبَي الصدر بعضلاتهما الجيدة بظلهما الغامق عليه رائحة مسكرة وحزينة من الشعيرات النابتة، تنبئ عذوبة تلك الرائحة بشكل ما عن إحساس حقيقي بموت شبابي. تتوهج بشرة الزوج، وكأنها مثل حقول القمح، وتكشف العضلات المضلعة في كل جسده بروزها الواضح علانية، وتتلاقى عضلات البطن أسفل البطن لتضم السرة المتواضعة الصغيرة معها. كانت ريْكو وهي تتأمل تلك البطن اليافعة الفتيَّة، تلك البطن المتواضعة المغطَّاة بالشعر النامي، تتذكر أنه سيتم بعد قليل قطعها ثم شقها بقسوة، ومن فرط الحب انهارت باكية تغرقها بقبلاتها.

أحس الزوج النائم بانسكاب دموع زوجته فوق بطنه، فعقد عزمه على تحمُّل آلام قطع البطن الرهيبة بشجاعة، مهما كانت مؤلمة وقاسية.

بعد هذه التفاصيل، لا داعي للحديث عن درجة المتعة الفائقة التي تذوقها الزوجان. عدل الزوج جسده بفحولة، واحتضن بشدة جسد زوجته الذي أنهكه الحزن والدموع بين ذراعيه القويتين. لامس كل منهما خدود بعضهما بعنف وجنون. وارتجف جسد ريْكو، وانضم بإحكام الصدر المبتل بالعرق مع الصدر المبتل بالعرق، وتوحَّد الجسدان الشابان الجميلان في كل ركن منهما، لدرجة الاعتقاد أنه من المحال فصلهما عن بعض مرة أخرى.

صرخت ريْكو صرخة قوية. سقطت من الأعالي إلى الهاوية، ثم أخذت من الهاوية أجنحة حلَّقت بها إلى مستويات مذهلة من الأعالي مرة أخرى. لهث الزوج وكأنه فارس الجيش المغوار الذي قطع مسافات هائلة عدوًا. وهكذا بعد انتهاء الدورة الأولى، انبعثت على الفور شهوة الرغبة مرة أخرى، وسريعًا صعِدا معًا ثانية إلى ذات القمة السامقة بلا أي أثر للإجهاد أو التعب.

٤

مر الوقت ولم يكن إبعاد الزوج لجسده بسبب بلوغه الملل، ولكن السبب الأول هو خوفه من إبادة القوة اللازمة لبقر بطنه. والسبب الآخر هو خوفه من ضياع الذكرى الأخيرة الجميلة المذاق؛ بسبب الشره والإفراط في الجشع.

عندما أبعد الزوج جسده بوضوح، وكما هي عادتها دائمًا، استجابت ريْكو لذلك بلا مقاومة. ظل الاثنان كما هما عاريين نائمين على ظهريهما، ينظران بصمت إلى سقف الغرفة وقد شبكا أصابع يديهما. وجف العرق سريعًا، ولكن بسبب حرارة المدفأة لم يحسَّا بأي برودة. هذا الوقت من الليل هادئ تمامًا، حتى صوت السيارات انقطع تمامًا، صوت مترو البلدية، والمترو الحكومي بجوار محطة يوتسويا يتردد صداه فقط في المنطقة الداخلية من خندق القصر الإمبراطوري، ولكن تحجبه غابة أشجار الحديقة المواجهة للطريق الواسعة أمام قصر ولي العهد في أكاساكا، فلا يصل إلى هنا. في تلك الرقعة من طوكيو يبدو شعور التأزم بسبب المواجهة بين شطري الجيش الإمبراطوري الذي انقسم على نفسه، وكأنه كذب.

يتذكر الاثنان وهما يحسان بالحرارة الداخلية المتوهجة لجسديهما، المتعة اللانهائية التي تذوقاها معًا منذ لحظات. يفكران في حلاوة كل لقطة من اللقطات المذهلة، طعم تلك القُبلات التي لا تنتهي لحظة بلحظة، شعور تلامس البشرة.

ولكن كان وجه الموت القابع في ألواح السقف المظلم يختلس النظر إليهما بالفعل؛ فتلك السعادة هي الأخيرة، ولن تعود لهذا الجسد مرة أخرى. ولكن عند التفكير وإمعان النظر، فحتى لو طال العمر أبعد من ذلك، فتقريبًا من المؤكد أنهما لن يصِلا إلى تحقيق السعادة بهذه الدرجة مرة ثانية، وذلك ما يُؤْمن به كلاهما.

أخيرًا فقَدا هذه المرة إحساس لمسة أصابعهما المتشابكة. حتى أشكال عروق ألواح السقف الخشبية التي ينظران إليها الآن، فقداها في النهاية. لقد شَعَرا أن الموت قد بدأ يحتك رويدًا رويدًا بجسديهما. لا يجب إضاعة الوقت. يجب إيقاظ الشجاعة والعزيمة، والتوجه من تلقاء نفسيهما تجاه ذلك الموت والإمساك به.

قال الزوج: «حسنًا، لنبدأ الاستعدادات.»

من المؤكد أن نبرة صوته كانت حاسمة وقوية، ولكن ريْكو لم يسبق لها أن سمعت صوت زوجها بهذه الدرجة من الحرارة والوداعة والحنان.

بعد أن قاما من الفراش كان ينتظرهما الكثير من العمل والاستعدادات.

كان الزوج لم يقم من قبل حتى هذه اللحظة بالمساعدة في رفع الفراش أو تجهيزه ولو مرة واحدة؛ إلا أنه فتَحَ الخزانة بحيوية ونشاط، وحمل الفراش بيده ووضعه فيها.

ثم أطفأت ريْكو مدفئة الغاز، وأبعدت المصباح. كانت ريْكو أثناء غياب زوجها عن المنزل قد أنهت بالفعل ترتيب هذه الغرفة، وجعلتها نظيفة وجميلة، وفيما عدا إزاحة الطاولة المصنوعة من خشب الورد إلى أحد أركان الغرفة، كان الغرفة الكبيرة ذات ثمانية القطع من حصير التاتامي، لا تختلف كثيرًا عن منظرها المعتاد كغرفة ضيوف مخصصة لاستقبال الضيوف المهمين.

– «لقد شربنا معًا كثيرًا في هذه الغرفة، مع كانو وهوما وياماغوتشي.»

– «بالفعل، شربتم كثيرًا.»

– «سنقابلهم في القريب العاجل في العالم السُّفلي. عندما يرون أنني قد جئت بك معي بالتأكيد سيسخرون مني.»

عندما همَّ الزوج بالنزول إلى الطابق السفلي، وجَّه الزوج نظره للخلف تجاه الغرفة الهادئة النظيفة المضاءة الآن بضوء أحمر، وخطر على ذهنه وجوه الضباط الشبان الذين كانوا في هذه الغرفة، يشربون ويتمازحون ويتفاخرون فيما بينهم في براءة. وقتها لم يكن يعتقد ولا في الأحلام أنه سيقوم ببقر بطنه هنا في نفس الغرفة.

انشغل الزوجان كل على حدة في غرفتي الطابق السفلي، بالاستعداد في انسيابية وسلاسة. عرج الزوج على دورة المياه، ثم دخل في طريق عودته إلى الحمام ليغتسل. وأثناء ذلك، طوت ريْكو روب زوجها، ثم وضعت أمام باب الحمام قطعة جديدة من القماش الأبيض طولها حوالَي ستة أذرع مع زيه العسكري الكامل، ثم رصت على الطبلية ورقتين مخصصتين لكتابة الوصية. وأخيرًا نزعت غطاء محبرة الفحم ثم أذابت الفحم في الحبر. كانت قد فكرت وقررت بالفعل كلمات وصيتها.

ضغطت أصابع ريْكو على قطعة الحبر المذهبة الباردة، انتشر سائل الحبر في فجوة المحبرة سريعًا مثل انتشار السحاب في السماء، توقفت عن التفكير. إن تكرار كل هذه الحركات، ضغط الأصابع، وذلك الصوت الخافت الذي يذهب ويأتي، فقط من أجل الموت. حتى يظهر الموت أمامها أخيرًا لم يكن ذلك إلا مجرد عمل من الأعمال المنزلية اليومية المعتادة التي تستقطع الوقت في هدوء وسكينة. ولكن مع إذابة سائل الفحم، إحساس لمسة الحبر الذي يزداد سلاسة، ورائحة الفحم المتصاعدة بقوة، يوجد ظلام لا يمكن التعبير عنه بالكلام.

خرج الزوج من الحمام، وقد ارتدى زيه العسكري كاملًا بدون ملابس داخلية. ثم جلس صامتًا أمام الطبلية على الأرض، وأمسك بالفرشاة، وأمام الورق أصابه التردد.

حملت ريْكو رداءها الحريريَّ الأبيض وتوجهت إلى الحمام. بعد أن اغتسلت، وضعت زينة الوجه، وعندما ظهرت في رداء الكيمونو الأبيض إلى غرفة المعيشة، رأت الورقة التي تحت المصباح كُتب عليها الوصية التالية فقط بخطٍّ أسود فاحم:

«عاش الجيش الإمبراطوري،

الملازم أول شينجي تاكِياما،

مشاة القوات البرية.»

وعندما جلست ريْكو في مواجهة زوجها لتكتب وصيتها. ظل الزوج صامتًا، بوجه جاد وصارم، يتأمل حركات الكتابة الصحيحة لأصابع زوجته البيضاء، وهي تمسك بالفرشاة.

حمل الزوج سيفه العسكري، وغرزت ريْكو الخنجر الصغير في حزام ردائها الأبيض، وحملا الوصيتين واصطفَّا أمام مذبح الآلهة وقاما بالصلاة في صمت، ثم أطفأ الزوج كل مصابيح الطابق السفلي. تأمل الزوج الذي نظر للخلف في منتصف الدرج الصاعد للطابق العلوي، بعينيه جمال هيئة زوجته برداء العرس الأبيض، وهي تتبعه صاعدة في وسط الظلام وعيناها تنظران لأسفل قليلًا على استحياء.

وضعا الوصيتين متراصتين جنبًا إلى جنب في موضع الزينة في الطابق العلوي، كان يجب إزالة الزينة المعلقة. ولكن لما كانت اللوحة بخط اللواء أوزيكي عرَّاب زواجهما، ولأنها مكتوب عليها فقط كلمتان اثنان هما «الإخلاص للنهاية»؛ فلذا تركاها كما هي. فحتى لو اتسخت قليلًا بقطراتٍ من الدماء المندفعة، فمن المؤكد أن اللواء سيغفر لهما ذلك.

جلس الزوج جلسة معتدلة معطيًا ظهره لعمود ركن الزينة، ووضع سيفه العسكري بالعرض أمام ركبتيه.

ثم جلست ريْكو معتدلة كذلك على بعد قطعة واحدة من حصير التاتامي. ولأن كل ما فيها أبيض، فقد بدا أحمر الشفاه الخفيف الذي وضعته على شفتيها لامعًا للغاية.

ظل الاثنان يتأملان بعضهما، تفصلهما عن بعض قطعة حصير تاتامي واحدة. يوجد السيف العسكري أمام ركبة الزوج. عندما رأته ريْكو تذكرت أحداث أول ليلة بينهما، فلم تقدر على احتمال الحزن. فقال لها الزوج بصوت خافت لا يكاد يُسمع: «لأنه لا يوجد من يقوم باﻟ «كاي شاكو».٢ فسأقطع بطني بعمق. ربما يكون هذا مشهدًا مؤلمًا، ولكن يجب ألا تجزعي؛ فعلى أي الأحوال النظر إلى الموت عن قرب أمر مريع. لا يجب تُحبطي أبدًا إذا شاهدتِ ذلك. هل فهمتِ؟»

قالت ريْكو: «فهمت.» ثم نكست رأسها عميقًا.

عندما رأى الزوج ذلك الجسد الأبيض البض، أحس أمام مواجهة الموت بأنه تذوق نشوة عجيبة المذاق. ما سيقوم به الآن هو فعله كرجل عسكري، وهو ما لم ترَه زوجته من قبل قطُّ. إنه الموت المعادل تمامًا في صفاته للموت في ساحة الحرب، والذي يحتاج إلى عزيمة مساوية تمامًا لعزيمة المعارك الفاصلة في ساحة الوغى. إنه سيُري زوجته الآن شكل ساحة القتال.

للحظة قاد ذلك الزوج إلى أوهام عجيبة، أوهام تجعله يموت وحيدًا في ساحة القتال، ولكن زوجته الجميلة توجد أمام عينيه، فهو يضع كل قدم من قدميه على أحد هذين المشهدين المتباعدين، فيجسِّد وجودًا مشتركًا لأمرين يستحيل وجودهما معًا، مما يُوجِد مذاقًا حلوًا لا يمكن التعبير عنه لشعوره أنه الآن على وشك الانتحار، حتى اعتقد أن تلك ولا ريب هي السعادة الحقيقية. إن تتبع عيني زوجته الجميلة لموته لحظة بلحظة، يجعله يحصل على الموت في جو تفوح فيه نسائم خفيفة ذات عطر رائع. وعند ذلك يوجد شيء ما رُضي له به؛ شيء ما مجهول، في عالم لا يعلمه الآخرون، عالم غير مسموح لأحد آخر أبدًا، أصبح مباحًا له. منظر زوجته الجميلة التي أمامه، في زي الكيمونو الأبيض كالعروس، يجعل الزوج يحس أنه يرى فيها صورة الإمبراطور والوطن وراية الجيش وكل شيء أحبه، ثم هو الآن يضحي بحياته من أجله؛ فكل هؤلاء مساوون لزوجته التي أمامه، من أي مكان، مهما كان بعيدًا، لهم وجودٌ يغمره الآن بالنظر والتأمل بعيون لا ينقطع منها إشعاع الطهر والبراءة.

وكذلك كانت ريْكو، وهي تتأمل هيئة زوجها الذي على وشك الموت، تفكر في أنه لا يوجد في هذا العالم ما هو أجمل منه. ذلك الزوج الذي يناسبه تمامًا الزي العسكري، وتلك الحواجب الصارمة مع تلك الشفاه المضمومة بإحكام، على الأرجح أنهما تعبِّران عن أقصى ما يصل إليها الجمال الرجولي وهو يواجه الموت الآن.

فجأة قال الزوج: «حسنًا، حان وقت العمل.»

قامت ريْكو بالانبطاح بجسدها بعمق فوق حصير التاتامي مؤدية التحية لزوجها. ولم تستطع أبدًا رفع وجهها مهما حاولت. لم تكن تريد إفساد زينة وجهها، ولكنها لم تستطع إيقاف دموعها.

وعندما استطاعت أخيرًا رفع وجهها، كان الذي رأته من بين دموعها منظر زوجها وقد نزع السيف العسكري بالفعل، ويلفه بالقماش الأبيض تاركًا مقدار شبر من نصله.

بعد أن انتهى من لفه وضع زوجها السيف أمام ركبتيه، أراح الزوج ركبتيه فجلس متربعًا، وفك الهوك من ياقة زيه العسكري. تلك العيون لم تعُدْ ترى الزوجة. فك الأزرار النحاسية المستوية واحدًا بعد الآخر ببطء. وظهر صدره ذو اللون الأسمر الباهت، وأخيرًا ظهرت بطنه. أزاح القفل الحديدي للحزام، وفك أزرار السروال. وظهر خلسةً القماشُ الأبيض الناصع ذو الستة أذرع، استرخت بطن الزوج أكثر، ثم خفض بيديه الاثنتين السروال الداخلي، وأمسك بيده اليمنى قبضة سيفه العسكري ذات القماش الأبيض. ثم وهو بهذا الحال نظر لأسفل إلى بطنه، ودلَّك أسفل بطنه بيده اليسرى لتسترخي.

كان الزوج قلقًا من درجة حدة السيف، فقام بثني سرواله الأيسر مظهرًا جزءًا من فخذه، ثم أجرى نصل السيف عليه بخفة. على الفور تدفقت الدماء من الجرح، وانسابَتْ عدة خطوط من الدماء لأسفل، وهي تتألق لامعة؛ بسبب أشعة الضوء القوية.

خفق قلب ريْكو، التي ترى لأول مرة في حياتها دماء زوجها، خفقانًا مرعبًا. نظرت إلى وجه زوجها. الزوج رابط الجأش يتأمل الدماء في هدوء. شعرت ريْكو بالأمان لحظيًّا رغم إيمانها أن ذلك أمان مؤقت.

عندها نظر الزوج إلى زوجته بعُنف بعيون مثل عيون الصقر، وأدار السيف إلى الأمام، ورفع خصره، وجعل نصف جسده العلوي يغطي على نصل السيف. ومن خلال غضبة كتف زيه العسكري، يُعرف درجة استنهاضه كل قوة في جسده. كان تفكير الزوج هو محاولة غرز السيف بكل قوته في ضربة واحدة تصل لأعماق جنبه الأيسر. صوت صيحة العزم الحاد اخترق سكون الغرفة.

ورغم أن الزوج هو الذي ضرب بكل قوته، ولكنه شعر وكأن شخصًا ما ضربه ضربة مؤلمة بِعَصًا حديدية في جنبه. للحظة دارت رأسه ولم يعرف ما الذي حدث. نصل السيف الذي أظهر منه حوالي خمسة أو ستة بوصات كان مدفونًا تمامًا في اللحم، والقماش الذي يقبض عليه الكف كان يلامس البطن مباشرة.

عاد إليه الوعي. وظن الزوج أن السيف قد اخترق غشاء البطن بالتأكيد. خفق القلب بشدة مع صعوبة في التنفس، وفي الأجزاء العميقة من أحشائه البعيدة وكأنها ليست أحشائه، يحسُّ أن آلامًا رهيبة مرعبة بدأت تفور مثل فورة الحمم البركانية الملتهبة بعد حدوث صدع في الأرض. تلك الآلام الرهيبة تقترب فجأة بسرعة مرعبة. كانت التأوهات على وشك الصدور عفوًا من الزوج، لكنه عضَّ على شفته السفلى ومنعها.

عندها فكر الزوج: هذا إذن هو بقر البطن. إنه شعور مريع فظيع، وكأن السماء تسقط فوق الرأس، والعالم يتزعزع بنيانه، عزيمته وشجاعته اللتان كانتا قبل القطع بتلك القوة والثبات، الآن صارا وكأنهما عبارة عن سلك رفيع. واجتاحه القلق؛ لأنه يجب عليه من الآن التعلق به بكل جد. بدأ الكف يصبح زلقًا. وعند النظر وجد أن القماش الأبيض والكف معًا غارقان في الدماء. والسروال الداخلي قد صبغ تمامًا باللون الأحمر. إنه لمن العجيب في وسط هذه الآلام الرهيبة، أنه ما زال ما يُرى يُرى، وما يوجد يوجد.

ريْكو في اللحظة التي دفع فيها الزوج بالسيف داخل جنبه الأيسر، وعندما رأت انسحاب الدم من وجهه، وكأن ستارة قد تدلَّت على الفور. كانت تصارع نفسها لتمنعها من الاقتراب منه. في كل الأحوال يجب رؤية ذلك. يجب مشاهدة رحيله. تلك هي المهمة التي أوكلها الزوج إلى ريْكو. بدا لها في الناحية الأخرى التي تبعد قطعة حصير واحدة فقط منها. بدا وجه زوجها الذي يعض على شفته السفلى، ويتحامل على الآلام واضحًا. تلك الآلام تظهر في الواجهة (في وجهه) دقيقة تمامًا بدون أي فواصل، ولو حتى دقيقة زمن واحدة. ولم يكن لدى ريْكو أي حيلة لإنقاذه من ذلك.

يلمع العرق الذي ظهر نضحًا على جبين زوجها. أغمض الزوج عينيه، ثم فتحهما وكأنه يختبرهما. فقدت عيونه بريقها المعتاد، وتبدو بريئة جوفاء مثل عيون حيوانات صغيرة.

تلمع الآلام مثل شمس الصيف المتوهجة أمام أعين ريْكو، دون اعتبار لحزنها المؤلم الذي يكاد يقسم جسدها إلى نصفين. تزيد الآلام من قامتها أكثر وأكثر، ترتفع وتمتد. شعرت ريْكو أن زوجها قد أصبح بالفعل شخصًا من عالم مختلف، وأعيد وجوده كله إلى الآلام، وأصبح سجينًا في قفص من الآلام لو مدت يديها لا تستطيع لمسه. بل المؤسف أن ريْكو لا تتألم. الحزن والأسى لا يؤلم. عندما تفكر في ذلك، تشعر ريْكو وكأن شخصًا ما أقام بينها وزوجها حائطًا زجاجيًّا عاليًّا يحجز المشاعر.

منذ زواجهما ووجود زوجها يعني وجودها، وتنفس زوجها هو أيضًا تنفسها، ولكن الآن، ورغم وجود زوجها الواضح في الآلام، فإن ريْكو في وسط الحزن والأسى لا تستطيع أن تمسك ولو بدليل واحد مؤكد على وجودها.

حاول الزوج جذب يده اليمنى ولفها، ولكن التفت الأمعاء حول نصل السيف وبسبب قوة المقاومة اللينة لها. ارتد نصل السيف؛ ولذا علم أنه لا بد من دفع السيف بكلتا يديه إلى أعمق أعماق البطن ثم يجذبه ليديره. أداره، ولكن السيف لا يقطع كما كان يتوقع. وضع الزوج كل قوته في يده اليمنى وجذب السيف. قطع حوالي ثلاثة أو أربع بوصات.

انتشرت الآلام تدريجيًّا من داخل أعماق البطن، وصارت البطن بأكملها وكأنها تئن برنين مدوٍّ. وكان كأنه ناقوس ضُرب بهمجية، مع كل نفس يتنفسه، ومع كل دقة نبض تنبض، تضرب الآلام آلاف النواقيس في وقت واحد، وتهز كيانه وجوده كله. صار الزوج لا يقدر على السيطرة على تأوهاته أكثر من ذلك. لكن عندما نظر فجأة ووجد أن السيف قد قطع حتى وصل إلى أسفل السرة بالفعل، شعر بالرضا والشجاعة.

بدأت الدماء تدريجيًّا تندفع من الجرح بغزارة مع النبض. تبلل الحصير الذي أمامه محمرًّا بالدماء المندفعة، وسقط الدم من ثنية السروال ذي اللون الكاكي، بعد أن تجمَّع فيها. وفي النهاية وصلت نقطة دم طائرة مثل العصفور الصغير، لتصل إلى ركبة رداء ريْكو الأبيض البعيد.

عندما أدار الزوج السيف حتى جنب البطن الأيمن، كان نصله قد أصبح أقل عمقًا، وظهر جسم السيف المنزلق بين الدماء والدهون. هجمت على الزوج نوبة قيء؛ فصرخ صرخة مبحوحة. مزج القيء الآلام أكثر، والبطن التي كانت حتى الآن صلدة متماسكة، ضربتها الموجات فجأة، وتوسع الجرح، وكأن فتحة الجرح تتقيء بكل عزمها، فقفزت الأمعاء خارجة منها، وكأنها لا تحس ولا تعرف بآلام صاحبها؛ إذ كانت في صحة جيدة وحيوية عالية لدرجة مثيرة، فانزلقت خارجة في فرح وسعادة مُغرقة ما بين فخذيه. نظر الزوج لأسفل، وهو يتنفس بكتفه، فاتحًا عينيه قليلًا، ويتدلى من فمه خيط من اللعاب. وفي الكتف يلمع اللون الذهبي لنيشان الكتف.

تبعثرت الدماء هنا وهناك، وغرق الزوج في وسط بركة دمائه التي وصلت حتى ركبتيه، وهناك وضع إحدى يديه وسقط منهارًا. الرائحة العطنة النفاذة تملأ أركان الغرفة، وتظهر بوضوح على الكتف حركة تكراره للقيء وهو منحنٍ للأمام، وكأن الأمعاء قد طردته للخارج. كان السيف قد ظهر كله بما في ذلك النصل، والزوج ما زال قابضًا عليه بيده اليمنى.

هيئة الزوج وقتها وقد تقوَّس ظهره للخلف كانت في غاية البطولة لدرجة لا مثيل لها. ولأنه انحنى للخلف بشكل مفاجئ وعنيف للغاية، فقد سُمع بوضوح صوت ارتطام مؤخرة رأسه بعمود الغرفة. ولأن ريْكو حتى ذلك الوقت كانت خافضة وجهها، تتأمل بتركيز سيل الدماء المقترب من ركبتيها، فقد تفاجأت لذلك الصوت ورفعت وجهها.

لم يعد وجه الزوج وجه إنسان حي؛ فالعين تقعرت، والبشرة جفت، وتلك الخدود والشفاه التي كانت في منتهى الجمال، تحولت إلى لون الطين المتيبس. ولكن اليد اليمنى التي تقبض على السيف وكأنه أثقل ما يمكن، هي فقط، تتحرك طائشة في الهواء مثل العرائس المتحركة، وتحاول أن تضع نصل السيف أسفل العنق. وهكذا كانت ريْكو تتأمل وهي ترى بوضوح، آخر جهود زوجها العقيمة، وأكثرها معاناة. نصل السيف الذي يلمع من الدماء، والشحم يحاول أكثر من مرة الوصول إلى العنق، ثم يخفق. لم تعد توجد بالفعل القوة الكافية؛ النصل الذي أخفق يرتطم بالياقة، أو يصيب النيشان. ورغم أن الهوك مفكوك فإن الزي العسكري الصلد، يضيق؛ ليحمي العنق من نصل السيف.

أخيرًا لم تعد ريْكو تستطيع النظر فحاولت الاقتراب من زوجها، ولكنها لم تقدر على الوقوف. ولأنها زحفت بركبتيها وسط الدماء مقتربة منه، فقد صار طرف ردائها الأبيض مصبوغًا باللون الأحمر. دارت وذهبت خلف زوجها، وقدمت له العون ليستطيع فقط توسيع فتحة الياقة. أخيرًا لمس نصل السيف المرتعش الحنجرة العارية. وقتها أحست ريْكو أنها هي التي دفعت زوجها للأمام، ولكن لم يكن هذا ما حدث، بل كانت تلك آخر قوة يمتلكها الزوج بنفسه وبإرادته. قام فجأة بإلقاء جسده تجاه نصل السيف، فاخترق السيف رقبته، ومع نافورة الدم اللانهائية، سكن تمامًا تحت المصباح الكهربائي بجانب نصل السيف الأزرق الهادئ.

٥

نزلت ريْكو الدرج ببطء بجوربها الذي ينزلق بسبب الدماء. كان الطابق العلوي قد أصبح بالفعل في هدوءٍ موحش.

قامت ريْكو بإضاءة أنوار الطابق السفلي، وتأكدت من مواضع النار، ثم فحصت محبس الغاز الرئيسي، ورشت بعض الماء على منقل الفحم لإطفاء النيران المتبقية تحت الرماد. ثم ذهبت إلى المرآة في الغرفة الصغرى، ورفعت ثيابها المتدلية. وظهرت الدماء التي على الرداء الداخلي الأبيض، وكأنها تصميم قوي جريء رائع الجمال. وبعد أن جلست أمام المرآة، شعرت ببرودة قليلة عند منطقة الفخذ التي كانت قد تبللت بدماء زوجها، مما جعل جسدها يرتعش. ثم بعد ذلك استغرقت وقتًا طويلًا في إصلاح زينتها. وضعت على خدها مسحوقًا بلون أحمر غامق، وكذلك صبغت شفتيها بلون غامق. لم تكن تلك الزينة من أجل زوجها الراحل، بل هي زينة من أجل العالم الذي ستتركه؛ ولذا فقد كانت لمسة الفرشاة تحتوي على شيء هائل. عندما وقفت كان حصير التاتامي أمام المرآة قد تبقع كذلك بالدماء، ولكن ريْكو لم تأبه لذلك.

ثم بعد ذلك ذهبت إلى المرحاض، وفي النهاية وقفت أمام الباب في مدخل البيت. لقد كان إغلاق زوجها لقفل المنزل ليلة أمس علامة الاستعداد للموت. فكرت ريْكو لفترة بعمق في أفكار ساذجة. هل يجب أن تفتح قفل الباب أم لا؟ إذا أغلقت باب المنزل، فمن المحتمل ألا ينتبه الجيران لعدة أيام إلى موتهما. كانت ريْكو لا تفضل أن يتم اكتشاف جثتيهما بعد تعفنهما؛ لذا من الأفضل عدم غلق قفل الباب. فتحت ريْكو قفل الباب، ودفعت مزلاج الباب الزجاجي المصقول ففتحته قليلًا. وعلى الفور هبَّت عليها نسمات من الهواء البارد. الطرقات في هذا الوقت المتأخر من الليل خالية تمامًا من أي أثر لإنسان، وظهرت لها النجوم المتجمدة تتلألأ في حديقة الأشجار بين منزلهما والمنزل المقابل.

تركت ريْكو الباب بهذا الشكل كما هو وصعدت درجات السلم. لم يعد الجورب ينزلق، لأنها سارت به داخل المنزل. كانت الرائحة النفاذة العطنة قد اجتاحت بالفعل المكان لتصل أنفها عند منتصف الدرج.

كان زوجها منبطحًا على وجهه في بحر من الدماء. وأحست ريْكو أن حد السيف الواقف من عنقه قد صار أكثر بروزًا عن ذي قبل.

مشت ريْكو فوق بحر الدماء غير عابئة. ثم جلست بجوار جثة زوجها. وظلت تتأمل جانب وجهه المنبطح فوق حصير التاتامي. كان الزوج فاتحًا عينيه على وسعهما، وكأنه قد انجذب لشيء ما. رفعت رأسه تلك بطرف ردائِها، ومسحت الدماء التي على شفتيه بذلك الطرف، ثم قبلته قبلة الوداع.

بعد ذلك قامت واقفة، وأخرجت من الخزانة لحافًا أبيض جديدًا وحزامًا للخصر. لفت اللحاف حول خصرها حتى لا ينكشف طرف ردائها، ثم ربطته بقوة بواسطة حزام الخصر.

ثم جلست بعيدة عن جثة زوجها بمقدار ذراع. وأخرجت الخنجر من غمده، وظلت ترنو إلى حده اللامع الرائق ثم وضعته على لسانها. كان مذاق الصلب المصقول له قليلٌ من طعم السُّكَّر.

لم يصب ريْكو أي تردد أو حيرة، فعندما تفكر أن المعاناة الأليمة التي باعدت بينها وبين زوجها لهذه الدرجة وهو يموت منذ قليل، ها هي هذه المرة تصير ملكها، لم يبقَ لها إلا فرحة انضمامها إلى العالم الذي يضم زوجها بالفعل الآن. كانت قد وجدت في وجه زوجها وهو يصارع الآلام، شيئًا غير مفهوم تراه لأول مرة. حان عليها الدور هذه المرة لكي تحل هذا اللغز. شعرت ريْكو أنها الآن فقط ستستطيع تذوق الحلاوة والمرارة الحقيقيتين للعدالة التي آمن به زوجها. ذلك الطعم الذي كانت فيما مضى تتذوقه بصعوبة من خلال زوجها، هذه المرة ستذوقه بلسانها هي بدون أي شك أو خطأ.

وضعت ريْكو حد الخنجر أسفل حنجرتها، ثم غرزته غرزة واحدة. كانت الغرزة ضحلة. سخنت الرأس بشدة، وتحركت اليد بصدمة قوية. شدت ريْكو الخنجر بالعرض في قوة، اندفع شيء ما ساخن داخل الفم، وأصبح مرمى البصر أمام عينيها بالغ الحُمرة؛ بسبب شبح نافورة الدماء المندفعة بقوة. جمعت ريْكو ما تبقى لديها من قوة ودفعت الخنجر بقوة غارزة إياه في عمق الحنجرة.

١٦ / ١٠  /١٩٦٠م
يوكيو ميشيما 
 
١  العام الحادي عشر من عصر ميجي هو عام ١٩٣٦ ميلادية. (المترجم)
٢  كاي شاكو: هي عملية قطع الرقبة يقوم بها أخلص أصدقاء المنتحر بطريقة الهاراكيري من خلفه ليقلل من آلامه، وينهي حياته سريعًا بعد أن يشق المنتحر بطنه بنفسه. (المترجم)

السبت، 4 فبراير 2023

مسيح نانكينغ تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا ترجمة: ميسرة عفيفي

مسيح نانكينغ

تأليف: ريونوسكيه أكوتاغاوا

ترجمة: ميسرة عفيفي

 

(1)

 

أمسية في الخريف. بغرفة في بيت بشارع كيوانغ بمدينة نانكينغ، تجلس فتاة صينية شاحبة اللون على منضدة قديمة مستندة بخدها على يدها وتقزقز بملل لب بطيخ موضوع في آنية أمامها.

وفوق المنضدة وضع فانوس يشع إضاءة معتمة. والأحرى أن تُوصف الإضاءة بأنها تعطي تأثيرًا يزيد من كآبة الغرفة بدلًا من وصفها أنها تُضيئها. وفي ركن من الغرفة التي كاد ورق حائطها أن يتقشر كله، ثمة سرير من الخيزران فوقه بطانية تكاد تسقط من عليه وتتدلى من فوقه ستارة. ثم على الجانب الآخر من المنضدة، ثمة كرسي عتيق هو الآخر، وُضع في إهمال وكأن الدهر قد نسيه تمامًا. وفيما عدا ذلك مهما نظرنا لا نعثر على أي نوع من أنواع الزينة أو الأثاث الأخرى.

ورغم ذلك كانت الفتاة تتوقف عن قزقزة اللب وترفع عينيها الناعستين من حين لآخر لتحدّق طويلًا في الحائط المواجه للمنضدة. وعندما ننظر إلى الحائط ندرك السبب، فأمام أنفها مباشرة عُلق على مسمار معقوف صليب صغير مهيب من النحاس الأصفر. ونُقش فوق ذلك الصليب تمثال رديء الصنع لمسيح الآلام باسطًا ذراعيه عاليًا وتبرز حوافه التي انطمست من اللمس في ضبابية وكأنها ظلال غامضة. وفي كل مرة ترى الفتاة يسوعَ هذا تختفي للحظة آثار الوحشة خلف أهدابها الطويلة وعوضًا عنها ينبعث من عينيها في حيوية ونشاط شعاعٌ من الأمل الطفولي البريء. ولكنها إذ تحيد بنظرها عنه مرة أخرى تتسرب منها على الفور تنهيدة أسى مؤكدة، وتبدأ مجددًا في قزقزة اللب واحدة بعد أخرى وهي تدلي بكتفيها المغطاة بكنزتها الساتان التي انطفئ لمعانها.

اسم الفتاة هو جينهوا سونغ وهي عاهرة في بيت دعارة خاص في الخامسة عشرة من عمرها، تستقبل الزبائن ليلة بعد ليلة في تلك الغرفة لكي تعيل أسرتها الفقيرة. ولا شك أننا يمكننا العثور على عدد من الفتيات اللائي لهن نفس ملامح جينهوا وسط بيوت الدعارة الخاصة الكثيرة في حي كينهواي. ولكن ثمة شكوك حول وجود فتاة أخرى تحمل نفس طبيعة جينهوا الطيبة. فهي تختلف عن قريناتها من البغايا، فلا تكذب ولا تصر على شيء بأنانية، بل تبتسم كل ليلة ابتسامة مبهجة على وجهها وتلهو مع جميع أنواع الزبائن المختلفين الذين يزورون هذه الغرفة الكئيبة. وهكذا عندما تزيد النقود التي يتركونها عن المتفق عليه قليلًا، تجد متعتها في شراء كأس من الخمر التي يحبها والدها، فهو الوحيد الباقي لها من الأسرة.

ولا شك أن سلوك جينهوا هذا يعود بالتأكيد إلى طبيعتها التي وُلدت بها. ولكن إن وُجد سبب آخر غير ذلك فهو استمرارها منذ طفولتها في الإيمان بالكاثوليكية الرومانية التي علّمتها لها أمها المتوفاة كما يوضح ذلك الصليب المعلق على الحائط.

وعلى ذكر ذلك، حدث في ربيع هذا العام أن زار سائح ياباني شاب مدينة شانغهاي لمشاهدة سباق الخيل، فعرج على نانكينغ بحثًا عن المناظر الصينية التقليدية، ثم انصاع إلى فضوله فقضى ليلة في غرفة جينهوا. ثم وهو يحضن تلك الفتاة ضئيلة الحجم على ركبتيه بخفة وسهولة، لمح فجأة الصليب المعلق على الحائط، فسألها بلغة صينية مضعضعة وعلى وجهه ملامح الاستغراب:

-          هل أنتِ مسيحية؟

-          أجل. لقد تعمدت وأنا في الخامسة من عمري.

-          ثم تعملين في هذه المهنة؟

ويبدو أن صوته في تلك اللحظة احتوى على نبرة ساخرة. فتسربت من جينهوا ضحكتها المشرقة المعتادة دائمًا فبدت منها القواطع وهي تستند برأسها ذات الشعر الفاحم على صدره.

-          إذا لم أعمل في هذه المهنة فسوف نموت أنا وأبي جوعًا.

-          وهل أبوك شيخ كبير؟

-          أجل. وهو الآن مشلول لا يستطيع الوقوف.

-          ولكن؟ … ولكن ألا ترين أنك بالعمل في هذه المهنة لن تستطيعين دخول ملكوت السماء؟

-          أجل. بل سأدخل بالقطع.

نظرت جينهوا إلى الصليب نظرة سريعة وبدا على وجهها ملامح التفكير العميق.

-          لأنني أرى أن السيد المسيح في ملكوته سيتفهّم مشاعري بالتأكيد. … وإذا لم يفعل، فلن يختلف المسيح عن ضباط أقسام الشرطة الذين يجوبون حواري وشوارع ياوجيا.

ابتسم السائح الياباني الشاب. ثم بحث في جيب معطفه وأخرج منه زوجًا من الأقراط مزينة بحجر اليشم الكريم ثم أدلاهما من أذنيها بنفسه.

-          لقد اشتريتُ منذ قليل هذه الأقراط هدية أحملها معي إلى اليابان، سأعطيكِ إياها تذكارًا لهذه الليلة.

لأول مرة منذ الليلة التي بدأت فيها تستقبل زبائن، ترضى جينهوا عن نفسها مثل هذا الرضا المؤكد.

ولكن بعد شهر تقريبًا بدأ للأسف جسد هذه العاهرة المتدينة يعاني من أعراض مرض الزهري الفتاك. وعندما سمعت زمليتها شانتشا تشنغ بالأمر علمتها أن تشرب خمر الأفيون قائلة لها أنه مفيد في تسكين الألم. ثم بعد ذلك رأفت بها زميلتها الأخرى ينغتشون ماو فأحضرت لها خصيصًا ما تبقى لديها من كبسولات الزئبق الزرقاء ودواء كالوميل التي كانت تتناولهما بنفسها. ولكن لسبب مجهول لم تتحسن حالة جينهوا المرضية مطلقًا حتى مع انعزالها وعدم استقبالها للزبائن.

وهنا زارت غرفتها شانتشا تشنغ في أحد الأيام وقالت لها بيقين طريقة علاج تمتلئ بالخرافة:

-          لقد نقل إليك هذا المرض أحدُ الزبائن فيجب عليك إعادته سريعًا إلى زبون آخر. إنْ فعلتِ فلا شك أنه لن يمر عليك ثلاثة أيام إلا وأنت في صحة جيدة.

ظلت جينهوا تضع يدها على خدها ولم تتغير ملامح وجهها الحزينة. ولكن يبدو أن كلمات شانتشا حركت لديها حب الاستطلاع فسألتها ببساطة:

-          أحقًا ما تقولين؟

-         بالتأكيد. لقد ظلت أختي الكبرى مثلك لم يشف مرضها مهما فعلت. ومع ذلك عندما أعادت نقله إلى زبون، تحسنت صحتها سريعًا.

-          وماذا حدث لذلك الزبون؟

-          يا له من زبون تعيس! يُقال إن المرض طمس عينيه فأمسى كفيفًا.

بعد أن تركت شانتشا الغرفة، جثت جينهوا وحيدة بركبتيها على الأرض أمام الصليب المعلق على الحائط، ثم تلت الصلاة التالية بحرارة وحماس وهي تنظر عاليًا تجاه مسيح الآلام:

-          سيدي المسيح في ملكوت السماء، إنني أمتهن مهنة خسيسة لكي أعيل أبي. ولكن مهنتي تلك لا تلحق العار إلا بي وحدي ولا تضر أحدًا. ولهذا كنتُ على يقين أنني لو مُتُّ بحالتي هذه، فسأذهب إلى الملكوت. ولكنني حاليًّا إذا لم أنقل مرضي إلى أحد الزبائن فلن أستطيع مواصلة مهنتي كما كانت حتى الآن. ولكنني عقدت العزم أنني حتى وإن مت جوعًا – وفي هذه الحالة ستختفي آلام المرض على أي حال ‏–‏ فلن أنقل هذا المرض إلى أحد. وإلا فإنني من أجل سعادتي الشخصية سأتسبب في تعاسة إنسان لا يحمل تجاهي أي ضغينة. ولكن مع قولي هذا فأنا أنثى، ولست محصنة في كل وقت وكل حين ضد الوقوع في الغواية. ‏سيدي المسيح في ملكوت السماء، ‏أدعوك أن تحميني. فإنني فتاة لا ملجأ لي إلاك وحدك.

وهكذا ظلت جينهوا سونغ التي عزمت ذلك العزم ترفض بإصرار استقبال الزبائن، مهما حثتها شانتشا أو ينغتشون على ممارسة مهنتها. وأيضًا حتى لو جاء إلى غرفتها أحد زبائنها الدائمين للهو معها، لا تلبي مطلقًا رغبة أي منهم فيما عدا المشاركة في تدخين التبغ فقط.

ومع ذلك إذا كان الزبون مخمورًا وحاول أن يتعامل معها على حريته، كانت جينهوا دائمًا ما تقول له:

-          إنني أحمل داءً مخيفًا. وإذا اقتربتَ مني ستنتقل العدوى إليك.

ولم تكن تتردد حتى من أن تُظهر له فعليًّا برهان المرض. ولذلك تباعدت أقدام الزبائن عن غرفتها تدريجيًّا ولم يعد يزورها أحد حتى للهو. وبالتزامن مع ذلك ساءت حالتها الاقتصادية يومًا بعد يوم. ...

وهذه الليلة أيضًا اقتربت جينهوا من المنضدة وجلست عليها شاردة الذهن لوقت طويل. لم يتغير حالها بانعدام طيف لزبون يأتي لغرفتها. وأثناء ذلك مر الليل بدون استحياء، ولم تعد جينهوا تسمع شيئًا فما عدا نقيق جداجد تصيح في مكان بعيد. ليس هذا فقط بل بسبب انعدام أي أثرٍ لنيران التدفئة، هجمت عليها برودة الغرفة منطلقة من البلاط الحجري الذي فُرشت به الأرضية وعبرت تدريجيًّا حذائها المصنوع من قماش الساتان الرمادي كأنها ماء مثلج ووصلت إلى قدميها الهزيلتين داخل الحذاء.

كانت جينهوا منذ قليل تتأمل إضاءة الفانوس المعتم، ثم في النهاية هزت رعشةٌ مفاجئة جسدها فحكّت أذنها التي يتدلى منها قرط اليشم، ثم صدت تثاؤبًا خفيفًا في مهده. ثم في ذات اللحظة تقريبًا فُتح الباب الخشبي الذي تساقط طلاؤه باندفاع شديد، فدخل الغرفة بخطوات مترنحة أجنبي لم يسبق لها أن رأته من قبل. وربما بسبب ذلك الاندفاع الشديد زاد اشتعال لهب الفانوس الذي فوق المنضدة للحظة سريعة ففاضت بغرابة في أركان الغرفة أشعة لهب أحمر مختلط بالسخام. انصبت تلك الأشعة بأكملها على ذلك الزائر، فترنح للحظة ومال تجاه المنضدة ولكنها اعتدل واقفًا مرة أخرى ثم تراجع هذه المرة للخلف، وأسند ظهره بقوة على الباب المطلي الذي أغلق مرة أخرى. ولا إراديًّا نهضت جينهوا وافقة، وألقت عليه نظرات مذهولة. يبدو الزائر في الخامسة أو السادسة والثلاثين من عمره. يرتدي بدلة بنية مخططة وقبعة صيد من نفس القماش، عيناه واسعتان ولحيته تغطي ذقنه، وخداه بهما سمرة من لفح الشمس. والأمر الوحيد الذي لم تستطع معرفته هل هو غربي أم شرقي مع عدم الشك في أنه أجنبي. ولكن مظهره الواقف يسدّ الباب واضعًا الغليون المنطفئ في فمه وشعره الأسود يظهر تحت القبعة، يجعل جينهوا مهما نظرت إليه لا تراه إلا أحد المارة المخمورين الذين ضل بهم الطريق.

اجتاحت جينهوا مشاعر استياء خفيفة فوقفت جامدة أمام المنضدة وجربت أن تسأله وكأنها توبخه:

-          هل تريد شيئًا؟

فهز الرجل رأسه وأشار بما معناه أنه لا يفهم اللغة الصينية. ثم أبعد الغليون الذي كان يضعه في فمه بالعرض وتسربت منه جملة لا تدري معناها بلغة أجنبية سلسة. هذه المرة كانت جينهوا هي التي لم تجد بديلًا عن أن تهز رأسها، فتلألأ قرط اليشم على ضوء فانوس المنضدة.

وإذ رأى الزبون جينهوا وهي تقطب حاجبيها الجميلين فيما يبدو الانزعاج، أطلق فجأة ضحكات صاخبة وهو يلقي بقبعة الصيد بعشوائية بعيدًا، واقترب منها وهو يترنح. ثم جلس على المقعد في الجهة الأخرى من المنضدة وكأنه عاجز عن الوقوف. وإذّاك شعرت جينهوا تجاه وجه هذا الأجنبي بنوع من الألفة وكأنها سبق أن قابلته بالتأكيد حتى ولو لم تتذكر أين؟ ومتى؟ غرف الزبون بدون تحفظ من لب البطيخ الذي فوق الآنية، ولكن رغم قول ذلك فهو لم يقزقزه، بل ظل يرمق جينهوا بنظرات ثابتة، وأخيرًا بدأ يتحدث مجددًا بلغة أجنبية وهو يخلط ذلك بحركات مريبة بيده. لم تفهم كذلك معنى ما قال إلا أنها خمنت تخمينًا ضبابيًّا أن هذا الأجنبي يدرك إلى حد ما طبيعة مهنتها. فلم يكن من النادر بالنسبة لجينهوا أن تقضي ليلة طويلة حتى الصباح مع أجنبي لا يفهم من اللغة الصينية شيئًا. فجلست على المقعد وابتسمت ابتسامتها المحببة المعتادة وبدأت تمزح وتثرثر مع أن الطرف الآخر لا يفهم منها شيئًا. ولكن بدأ الزبون يستخدم إيماءات متنوعة بيديه أكثر كثافة من ذي قبل وهو يضحك ضحكات ابتهاج ويتحدث كلمة أو كلمتين لدرجة أنها اعتقدت أنه يفهم مزاحها.

تفوح من أنفاسه رائحة الخمر، ويمتلئ وجهه القاني من السُكر اللذيذ، طاقة ذكورية جعلتها ترى الغرفة الكئيبة في منتهى البهجة والمرح. على الأقل كان أكثر عظمة بالنسبة لها من أي أجنبي غربي أو شرقي رأته حتى الآن ناهيك عن صينيي نانكينغ التي اعتادت عليهم. ومع ذلك لم تتغلب على شعورها الذي شعرت به منذ قليل بأنها رأت ذلك الوجه من قبل مرة واحدة على الأقل. تأملت شعره الأسود المجعد المنساب فوق جبينه، وأثناء تصرفها معه ببساطة وجاذبية، حاولت جاهدة أن تتذكر متى قابلت ذلك الوجه لأول مرة.

-          هل هو ذلك الرجل الذي كان يركب المركب السياحي مع زوجته البدينة الذي رأيته مؤخرًا؟ كلا، كلا، فقد كان لون شعر ذلك الرجل أكثر احمرارًا. إذن ربما هو الرجل الذي كان يصور بكاميرته معبد كونفوشيوس في حي جينهواي. ولكنني أشعر أن ذلك الرجل كان أسنّ من هذا الزبون. أجل، أجل أذكر أنني عندما فوجئت بتجمهر الناس أمام مطعم بجوار جسر لي شي، رأيت رجلًا يشبه هذا الزبون يجلد ظهر مكاري ريكشا بعصا غليظة من الخيزران. ربما كان هو … ولكن ذلك الرجل كانت عيناه أكثر زرقة ...

أثناء ما كانت جينهوا غارقة في هذه الأفكار، ظل الأجنبي كما هو في حالة من البهجة وفي غفلة من الزمن أشعل غليونه وأخذ ينفث في الهواء دخانًا جيدة الرائحة. ثم قال شيئًا فجأة وهذه المرة كان يبتسم في هدوء ابتسامة صفراء، ثم بسط إصبعين من أصابع إحدى يديه ودفعهما أمام عيني جينهوا وهو يعطيها إيماءات تدل على الاستفهام. وبالطبع كان من الواضح لكل ذي عينين أن الإصبعين يعنيان دولارين. ولكن جينهوا التي قررت ألا تُبيت زبائن في غرفتها أظهرت له بوجه باسم بقدر المستطاع علامات الرفض مرتين. وعندها مد الزبون وجهه المخمور قريبًا جدًا من الفانوس المعتم فوق المنضدة وهو يستند بمرفقيه في عجرفة بالغة، وأخذ يراقب وجهها، وفي النهاية بسط ثلاثة أصابع وبدت على عينيه علامات انتظار الرد.

زحزحت جينهوا مقعدها قليلًا وبدت على وجهها علامات الحيرة وفمها يمتلئ بحبات اللب. من المؤكد أن الزبون ظن أنها ترفض إعطاءه جسدها بدولارين. ومع ذلك فهي تعتقد أنها لن تستطيع مهما حاولت أن تُفهم ذلك الزبون الذي لا يتحدث بلغتها تلك التفاصيل المعقدة. وهنا ندمت جينهوا بعد فوات الأوان على سلوكها المستهتر، ثم حولت نظراتها المنعشة عنه ولم تجد حيلة إلا أن تُظهر رفضها القاطع فهزت رأسها مرة أخرى.

ومع ذلك فقد ظهرت على وجه الأجنبي ابتسامة باهتة لفترة، ظهرت على وجهه ملامح التردد، ثم بسط أربعة أصابع وقال لها شيئًا بلغته الأجنبية مرة أخرى. وقعت جينهوا في حيرة شديدة جعلتها تغطي وجهها بيديها وتفقد القدرة على الابتسام، ثم حسمت قرارها أنه ما دام الأمر وصل إلى هذا الحد فليس أمامها إلا الاستمرار في هز رأسها بالنفي إلى ما نهاية في انتظار أن يتخلى هو عن رغبته. ولكن أثناء تفكيرها هذا كان الزبون قد فتح يده بخمسة أصابع وكأنه قد أدرك شيئًا لا يُرى.

ثم استمر الاثنان لوقت طويل في حوار بالإيماءات والإشارات. ظل الزبون يزيد بمثابرة وعزيمة من عدد الأصابع واحدًا بعد آخر وحتى بعد أن وصل المبلغ إلى عشرة دولارات في نهاية المطاف بدا على وجهه علامات تقول لها ليست خسارة فيك. ولكن العشرة دولارات التي تعد مبلغًا كبيرًا في دور الدعارة الخاصة لم تغير من عزيمة جينهوا. لقد ابتعدت منذ قليل عن مقعدها وتقف بثبات وقفة مائلة تجاه المنضدة وعندما أظهر لها الزبون أصابع يديه الاثنتين، تقدمت بقدمها خطوة للأمام في غضب وهزت رأسها عدة مرات متتالية. وفي تلك اللحظة لسبب مجهول تزحزح الصليب المعلق عن مسماره فوقع فوق البلاط الحجري بجوار قدميها مصدرًا صوت ارتطام معدني خفيف.

مدت جينهوا يدها بلهفة والتقطت الصليب باهتمام بالغ. وعندها نظرت نظرة عارضة إلى وجه مسيح الآلام المنقوش على الصليب، فكان وجه الأجنبي الجالس قبالتها على المنضدة لدهشتها هو الصورة الحية من ذلك الوجه.

-          ماذا! الوجه الذي ظننت أنني رأيته من قبل كان وجه السيد المسيح!

ألقت جينهوا بنظرة اندهاش لا إرادية تجاه الزبون على الجانب الآخر من المنضدة وهي تضم الصليب البرونزي إلى صدرها فوق فستانها المصنوع من الساتان الأسود. ظهرت على وجه الزبون ابتسامة ذات مغزى وهو ينفث دخان غليونه من حين لآخر وقد اشتعل وجهه المخمور تحت ضوء الفانوس. بل وبدا أن عينيه كانت تدور بلا انقطاع في أجزاء جسدها على الأرجح من عنقها الأبيض إلى منطقة الأذن التي يتدلى منه قرط اليشم. بدا منظر الزبون هذا لجينهوا وكأنه محاط بأحد أنواع المهابة.

وأخيرًا توقف الزبون عن تدخين الغليون وأمال عنقه متعمدًا ثم تحدث إليها ضاحكًا بكلمات ما. فأحدثت تلك الكلمات تأثيرًا يشبه إيحاء منوم تنويم مغناطيسي بارع في إذن ضحيته. فأغمضت جينهوا عينيها وهي تبتسم وكأنها نسيت تمامًا قرارها الصارم، واقتربت على استحياء من ذلك الأجنبي المريب وهي تلهو بصليب النحاس الأصفر بين يديها.

بحث الزبون في جيبه، وهو يصدر صوت نقود فضية صاخب، ويتأمل بعينيه التي ما زالت تبدو فيها ابتسامة خافتة، منظر جينهوا وهي تقترب منه في إعجاب. ولكن الابتسامة الخافتة التي في عينيه، تحولت إلى أشعة تشبه اللهب، ثم انقض واقفًا فجأة من على مقعده، وحضن جينهوا بكل قوته بين ذراعي بدلته التي تفوح منها رائحة الخمر. كانت جينهوا وكأنها فاقدة للوعي، رأسها التي يتدلى منها قرط اليشم تميل للخلف كأنها قد أُغمى عليه ولكن كانت أعماق خديها الشاحبين تنوه عن لون الدماء الصحي الزاهي وهي كما هي تصب نظرات عينيها المنتشية على وجهه المقترب من أنفها. وبالطبع لم تكن تملك رفاهية  التفكير في هل تُسلم جسدها لذلك الأجنبي العجيب ليلهو به كيف يشاء؟ أم تصد قبلاته بعنف لكيلا ينتقل إليه المرض؟ لم تدر جينهوا وهي تُسلم شفتيها لشفتي الزبون المحاطة بلحيته الكثيفة، إلا وقد اجتاحت صدرها بعنف نشوة حب مشتعل، نشوة حب تذوقها لأول مرة. ...

 

(2)

 

بعد عدة ساعات، أضاف صوت الجداجد الخافت داخل الغرفة التي انطفأ فيها الفانوس، وحدة خريفية موحشة إلى أنفاس النائمَيْن. وأثناء ذلك كان حلم جينهوا يرتفع عاليًا من ستائر السرير المتربة، إلى سماءالنجوم والقمر فوق السقف.

×                       ×                         ×                         ×

... تجلس جينهوا على مقعد مصنوع من خشب الورد، وتلتقط بعصتي الأكل أطعمة متنوعة مرصوصة فوق المائدة. ولا يمكن مهما أحصينا أن نحيط علمًا بكل الأطعمة … عش الحمام، زعانف سمك القرش، بيض مقلي على البخار، شبوط مدخن، خنزير كامل مسلوق، حساء خيار البحر …إلخ. بل وكانت الأطباق كلها عظيمة الشكل وسطحها مزين بالكامل بزهور اللوتس الزرقاء وطيور الفينيق الذهبية.

وخلف مقعدها ثمة نافذة تتدلى منها ستائر دانتيلا حمراء، وتجري من تحت تلك النافذة الأنهار فتسمع من مكانها خرير ماء وضربات مجاديف بلا انقطاع. شعرت أن هذا هو حي جينهواي الذي اعتادت عليه منذ طفولتها. ولكن مما لا شك فيه أنها الآن في قصر المسيح المنيف في ملكوت السماء.

توقفت جينهوا عن تناول الطعام من حين لآخر لتدور بعينيها وتتفقد ما حول المائدة. ولكنها لم تر في هذه القاعة عظيمة الاتساع إلا أعمدة منحوتة على هيئة تنانين وأحواض زُرعت بها زهور أقحوان عملاقة تظهر ضبابية خلف أبخرة الطعام ولم تر أثرًا لبشر.

ومع ذلك ما أن يخلو طبق من أطباق المائدة، يُحمل إليها على الفور طبق طعام جديد من مكان مجهول تفوح منه رائحة ساخنة. وفي نفس اللحظة وقبل أن تمد يدها لتناوله يرفرف طائر التدرج المشوي بجناحيه مطيحًا بقنينة الخمر ليطير متراقصًا تجاه سقف القاعة.

وأثناء ذلك شعرت جينهوا بشخص ما يقترب من خلف مقعدها دون أن يحدث صوتًا. فالتفت للخلف بهدوء وهي ممسكة بعصاتي الأكل. وعندها لسبب مجهول اختفت النافذة التي ظنّت أنها موجودة، ورجل أجنبي لم تألف رؤيته يجلس على مقعد من خشب الورد وُضعت عليه وسائد من الساتان الفاخر، ويضع في فمه غليون نارجيلة من النحاس الأصفر.

ألقت جينهوا نظرة واحدة عليه فعرفت أنه الرجل الذي جاء للمبيت في غرفتها هذه الليلة. ولكن الاختلاف الوحيد عنه أن هذا الأجنبي فوق رأسه هالة من النور تشبه الهلال تمامًا.

وفي تلك اللحظة حُمل فجأة طبق كبير من طعام لذيذ تفوح منه أبخرة وكأنه يطفو عاليًا فوق المائدة. فرفعت على الفور عصاتيها وحاولت أن تلتقط بهما الطعام النادر الذي فوق الطبق ولكنها تذكرت فجأة الرجل الأجنبي الجالس خلفها، فالتفتت للخلف ونظرت إليه من فوق كتفيها وقالت له بصوت بالغ الحياء:

-          ألا تأتي أنت أيضًا؟

-          لا بأس. تناولي أنت فقط طعامك. إذا تناولتِ هذه الأطعمة سوف يُشفى مرضك خلال هذه الليلة.

ثم تسربت من ثغر الأجنبي الذي أحاطت هالة النور برأسه، ابتسامة تحتوي على حب لا نهائي، وهو يلقم غليون النارجيلة بفمه.

-          ألا تأكل معي؟

-          أنا؟ إنني أكره الطعام الصيني. ألم تدركي بعد من أنا؟ إنَّ يسوع المسيح لم يسبق له أن ذاق الطعام الصيني ولو مرة واحدة من قبل.

قال مسيح نانكينغ ذلك ثم ابتعد ببطء عن مقعد خشب الورد وطبع قبلة حانية على خد جينهوا في غفلة منها.

×                       ×                         ×                         ×

وإذ بدأت أشعة فجر الخريف تمتد داخل الغرفة الضيقة ناشرة فيها برودة خفيفة كان حلم ملكوت السماء قد انتهى. ومع ذلك تبقت عتمة خافتة مليئة بدفء حار داخل السرير الذي يشبه القارب الصغير الذي تتدلى منه ستائر ذات رائحة متربة. وبرز وسط تلك العتمة وجه جينهوا شبه الناظر إلى السقف، وذقنها المدور البسيط مختفيًا تحت بطانية قديمة باهتة لا يمكن معرفة لونها الأصلي، ولم تفتح حتى الآن عينيها الناعستين. ويلتصق شعرها المشعث على خديها الشاحبين وكأنه مطلي بالزيوت ربما بسبب عرق ليلة أمس، وظهرت أسنانها الرفيعة الشبيهة بحبات الأزر متخفية في بياض خافت من بين ثغرها المفتوح قليلًا.

حتى مع يقظتها الحالية، ظل قلب جينهوا هائمًا في نعاس لذيذ مع ذكريات الحلم المتنوعة مثل زهور الأقحوان وخرير الماء والتدرج المشوي ويسوع المسيح. وأثناء ذلك وكلما زاد ضوء النهار فوق السرير تدريجيًّا، حتى قلبها الغارق في تلك الأحلام الممتعة، بدأ يعي بوضوح الحقيقة الوقحة أنها صعدت الليلة الماضية إلى سرير الخيزران هذا مع أجنبي عجيب.

-          ماذا لو نقلتُ عدوى مرضي إلى ذلك الرجل ...

وإذ طرأت هذه الفكرة على ذهن جينهوا، شعرت أنها لن تتحمل رؤية وجهه هذا الصباح. ولكنها ما دامت قد استيقظت بالفعل لم تقدر على الصبر أكثر من ذلك على عدم رؤية وجهه الذي اشتاقت إليه والذي سفحته الشمس. ففتحت عينيها برهبة، بعد تردد ودارت بعينيها داخل السرير الذي بات الآن غارقًا في إضاءة باهرة بالفعل.  ولكن على غير ما توقعت، لم يكن هناك باستثناء جسدها المغطى بالباطنية أثرًا لبشر بما في ذلك بالطبع شبيه يسوع الصليب.

-          هل كان حلمًا إذن؟

أبعدت الباطنية التي تغلغل بها العرق وأسرعت بالنهوض من على السرير. ثم بعد أن دعكت عينيها بيديها رفعت الستائر المتدلية بثقل عظيم ودارت بنظراتها التي ما زالت متجهمة على كامل الغرفة.

ترسم الغرفة في هواء الصباح البارد، تضاريس مختلف الأشياء بوضوح يصل لدرجة الوحشية؛ المنضدة العتيقة، الفانوس المنطفئ، ثم بعد ذلك المقعد الساقط على الأرضية، والمقعد الآخر المواجه للحائط ... كل شيء كما تُرك في الليل. ليس هذا فقط بل حتى صليب النحاس الأصفر الصغير كان يشع بريقًا معتمًا على أرض الواقع وسط لب البطيخ المتناثر فوق المنضدة. طرفت عينا جينهوا المنبهرة عدة مرات ولكنها لم تستطع تعديل جلستها الجانبية الباردة فوق السرير لفترة من الزمن وهي مذهولة تدور بناظريها في المكان.

-          كما توقعتُ، لم يكن حلمًا.

وهي تهمس هكذا، فكرت في كل الاحتمالات المتنوعة وغير المفهومة لمصير ذلك الأجنبي. وبالتأكيد بدون الحاجة إلى تفكير أحست أنه تسلل خفية من غرفتها أثناء نومها ورحل إلى الأبد. لم تصدق أنه رحل هكذا دون كلمة وداع واحدة وهو الذي أغرقها بالمداعبات لتلك الدرجة، أو الأحرى القول إنها لم تكن على استعداد لتصديق ذلك. وعلاوة على ذلك فقد نسيت أن تأخذ من ذلك الأجنبي المريب العشرة دولارات التي وعدها بها.

-          أتساءل هل رحل فعلًا؟

بقلب ثقيل بدأت جينهوا ترتدي فستان الساتان الأسود الذي خلعته ورمته فوق البطانية. ولكنها فجأة أوقفت يديها، فقد بدأت الحيوية تتدفق في وجهها في لمح البصر. أكان السبب هو أنها سمعت خطوات أقدام ذلك الأجنبي المريب خلف الباب المطلي بالبوية؟ أم السبب أن رائحته المخلوطة بالخمر التي تغلغلت في الوسادة والباطنية استدعت لديها فجأة ذكريات ليلة أمس المخجلة؟ كلا، بل أن جينهوا في تلك اللحظة أدركت أن المعجزة التي حدثت لجسدها قد شفتها من مرض الزهري الفتاك في ليلة واحدة دون أن يترك أي أثر.

-          معنى هذا أن ذلك الرجل كان السيد المسيح.

ولا إراديًّا زحفت جينهوا بملابسها الداخلية فوق السرير ونزلت من عليه وكأنها تتدحرج، ثم جثت على ركبتيها فوق بلاط الغرفة الحجري البارد، وبدأت ترفع صلاتها الحماسية مثل مريم المجدلية الجميلة التي تحدثت مع الرب بعد قيامته. ...

 

(3)

 

في ليلة من ليالي الربيع من العام التالي، زار السائح الياباني الشاب غرفة جينهوا سونغ مرة أخرى، وتحت إضاءة الفانوس المعتم جلس على الجانب المواجه لها من المنضدة.

-          أما زال الصليب معلقًا كما هو؟

قال لها ذلك في مناسبة ما وهو ما زال يسخر منها، فغدت جينهوا جادة فجأة ثم بدأت تحكي له تلك الحكاية العجيبة عن نزول السيد المسيح إلى نانكينغ في إحدى الليالي وشفائه لمرضها.

وأثناء سماعه إلى تلك الحكاية كان السائح الياباني الشاب يفكر في سرّه بما يلي. ...

-          إنني أعرف ذلك الأجنبي. إنه رجل نصفه ياباني ونصفه أمريكي واسمه على ما أتذكر جورج موراي. لقد تفاخر ذلك الرجل أمام صديق لي يعمل مراسلًا صحافيًّا لوكالة رويتر الإخبارية وحكى له كيف قضى ليلة مع عاهرة تؤمن بالمسيحية في أحد بيوت الدعارة الخاصة بمدينة نانكينغ ثم تسلل هاربًا خلسة أثناء غرقها في نوم عميق كالأطفال. لقد صادف أنه كان يقيم في نفس الفندق الذي أقمتُ به في المرة الماضية في شانغهاي ولذلك أتذكر ملامح وجهه بدقة حتى الآن. كان يدّعي كذلك أنه مراسل صحافي لجريدة إنجليزية ولكنه كان إنسانًا ذات طباع شريرة لا تتناسب مع ما يقوله. وربما يكون سبب إصابته بمرض الزهري الفتاك ثم جنونه في النهاية من هذا المرض، أن عدوى المرض انتقلت له من هذه الفتاة. ولكن هذه الفتاة ما زالت تؤمن حتى الآن أن ذلك الرجل الهجين الخسيس هو يسوع المسيح. أيجب عليَّ أن أكشف عنها جهلها وأقول لها الحقيقة؟ أم يجب أن أصمت للأبد وأجعلها تواصل رؤية ذلك الحلم الذي يشبه الأساطير الغربية القديمة؟ ...

وفي الوقت الذي أنهت جينهوا حكايتها، حك الشاب الثقاب وكأنه قد تذكره فجأة ونفث من فمه رائحة السيجار العطرة. ثم تعمد أن يتخذ ملامح الحماس وهو يسألها هذا السؤال الشائك:

-          أحقًا؟ إنها حكاية عجيبة. ولكن، ... ألم يصبك شر بعدها أبدًا؟

-          أجل. لم يصبني شر ولو مرة واحدة.

بدون أية لحظة تردد أو حيرة أجابت جينهوا هذه الإجابة وهي تقزقز لب البطيخ ووجهها يتألق بإشراق بالغ.

 

أثناء كتابتي لهذه القصة اعتمدتُ بقدر غير قليل على قصة "ليلة في جينهواي" للأديب جونئتيشيرو تانيزاكي. وإذ أذكر هذا هنا أعبر له عن عظيم الشكر.

(يونية 1920م)